إن كل كلمة صادرة من أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وكلماتهم الشريفة هي: إما حكم، أو أحكام شرعية، أو أدعية كلها منسوبة إليهم صلوات الله وسلامه عليهم.. طبعا الأحكام هي شغل الفقيه، ولكن الحكم والأدعية من الممكن أن يستفيد الإنسان منها استفادات كثيرة.. والمؤمن إذا استوحى معنى من الآية أو من الرواية، من دون جزم بالموضوع، كي لا يعد هذا من باب التقول عليهم، ولا باب من فسر القرآن برأيه.. ولهذا دائما قُل في استحياء: هكذا يبدو لي، أو هكذا أنا أفهم من المعاني من الآيات والروايات.. أي يحاول أن يجعل كلمات الاحتمال؛ حتى لا يجزم بالأمر.. وهذا القانون يجري ويسري أيضا على أدعيتهم (ع).
إن دعاء كميل فيه لحنان: أول الحديث حديث استغفاري، حديث إنابة وتوبة، يطلب من الله -عز وجل- أن يغفر له الذنوب التي تهتك العصم، والتي تغير النعم؛ فالجو جو استغفار.. ولكن في وسط الحديث، وفي نهاية الدعاء اللحن يختلف، فالجو جو عرفاني، جو تقرب وتودد.. بعبارة أخرى: أول الدعاء يناسب لسان حال عامة الناس، ولكن وسط الدعاء وآخره يناسب لسان خاصة الناس.. والدليل على ذلك أنه في وسط دعاء كميل الإمام -عليه السلام- يذكر علاقته الودية والحُبية مع الله -عز وجل- يقول: (يا رَبِّ!.. وَأنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها)؛ أي إن الدنيا عقوباتها عقوبات منقطعة مؤقتة، ولا تقاس بعقاب الآخرة.. فعقاب الدنيا مقابل عقاب الآخرة قد نعدّه من النعيم، مثلا: إنسان في الدنيا يرى نارا بسيطة يصاب بما يصاب، ونحن نعرف أنه من أقسى أقسام المستشفيات وأكثرها وحشة هو قسم الحروق، الإنسان عندما يحترق تتشوه كل معالم وجوده.. ومن هنا الذين يعلقون قلوبهم على الجمال الظاهري؛ جمال الوجوه، إن هذا الجمال رأس ماله من الممكن أن يذهب في ثوان، ماء حار أو نار بسيطة من الممكن أن تسلب هذا الجمال الذي يعلق عليه الإنسان الأمل.. بخلاف الجمال الباطني المعنوي، الذي لا يزول بهذه الأمور.
إن هناك أنواعا من العذاب في عرصات القيامة:
أولا: العذاب الحسي.. وهو النوع الذي يعرفه عامة الناس، العذاب الذي يلامس الأبدان.. ولهذا القرآن الكريم يقول ويعبر عن هذه الجلود: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}.. فإذاً جلد يحترق، ونار حارقة {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}.. وعلى كل حال هو عذاب لا يمكن تعقله يوم القيامة.
ثانيا: العذاب النفسي.. وهذا العذاب أشد إيلاما من العذاب الأول، وهو ينقسم إلى قسمين:
أ- طول الانتظار.. إن رب العالمين يبتلي البعض بطول الانتظار في عرصات القيامة، والانتظار من أنواع العذاب النفسي، ولهذا يقال: إذا وعدت إنسانا وأنت لا تريد أن تفي له، تكرم عليه بالنفي؛ لأن (اليأس إحدى الراحتين، والمطل أحد العذابين).. وعليه، فإن العذاب النفسي في الدنيا مزعج، وفي الآخرة أشد إزعاجا.
ب- الإعراض الإلهي.. إن الإنسان منذ أن يموت، يتحول إلى أعبد العابدين وإلى أعرف العارفين، لأنه بعد أن يموت مباشرة تكشف له الحجب.. فإذا ارتفعت الحجب، ارتفعت الموانع {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} الحديد من الحدة لا من الحديد، وهذا المعنى لكل أهل المحشر، (إذا مات أحدكم، فقد قامت قيامته)، رفع عنه الحجب، ولكن المشكلة هي إنه لا مجال للعودة.. فإذن، إن الإنسان في عرصات القيامة وفي البرزخ، يتحول إلى إنسان يعرف مقام الربوبية.. ومن يعرف مقام الربوبية، طبيعي أن ينقدح في قلبه الحب الإلهي.. لا نستبعد أن كل من في المحشر يعيش هذه العلاقة مع رب العالمين، ولكن الكلام هو أن الطرف المقابل لا يعترف بهذا الحب، لأنه جاء متأخرا، فهذا الاعتراف هو في غير محله آنذاك، مثلا: نرى في المحاكم عندما يحكم بالإعدام على القاتل، كيف يرتمي على أرجل ورثة المقتول.. هو كان في حالة عدائية، ولكن عندما رأى الجزاء، تحول إلى إنسان متملق.. فالعذاب النفسي هكذا يكون في إعراض رب العالمين عن العبد، فهو يريد أن يتكلم مع رب العالمين، ويناجي ربه في وقت هو أحوج ما يكون إلى المناجاة، ولكن يأتي الجواب: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}.
إن هذه الآية اجعلوها في كفة، واجعلوا هذه الآية في كفة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.. يقال: أن هذه الآية من أكثر آيات القرآن الكريم تحملا للضمير الذي يعود إلى الله عز وجل، كم يدلل عباده!.. يقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي}، الياء في {عِبَادِي} نسبة إليه، {عَنِّي} {فَإِنِّي} ضمير يعود إليه، {دَعَانِ} {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} أيضا يعود إليه، {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}.. في آية واحدة كم من الضمائر تعود إلى الله عز وجل؟.. والعلماء يقولون في كلمة {عِبَادِي}: هنالك سر من الأسرار، وكأن الله عز وجل -لا نقول والعياذ بالله يفتخر بهذه النسبة- هذه النسبة فيها حنان، هؤلاء عبادي أنا خلقتهم، فهم من شؤوني، منسوبون لي.
إن في آية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} هناك التفاتة قرآنية جميلة، عندما يُسأل النبي، يأتي الجواب: قل لهم يا رسول الله: كذا وكذا {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.. كلها قل يا رسول الله وأجبهم، وهذه الآية أيضا فيها سؤال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} من الطبيعي أن تكون هكذا (فقل إني قريب) ولكن في خصوص هذه الآية، الآية لم تذكر قل، رب العالمين كأنه يريد أن يقول: يا رسول الله، دعني أنا أتكلم مع عبيدي مباشرة، من دون كلمة (قل) فإني قريب، وهذه الآية فيها معان ودية كثيرة.
فإذن، إن هناك عذابا بدنيا، وهنالك عذابا نفسيا في عرصات القيامة.. والعذاب النفسي على قسمين: عذاب نفسي بين العبد ونفسه في الانتظار الطويل، وعذاب نفسي آخر بعلاقة العبد مع ربه وإعراض رب العالمين عن عبده في أحلك الظروف.
إن أمير المؤمنين -عليه السلام- يقول: (وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ)؛ أي أنا قد أصبر على عذاب جهنم؛ لأنه عذاب مادي، ولكن (فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ)؛ أي يا رب إعراضك عني في نار جهنم، أشد علي من عذاب جهنم.. علي -عليه السلام- لا يجامل أبدا، وهو صاحب الكلام المعروف (جلوسي في المسجد أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة؛ لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي، ورضا ربّي أولى من رضا نفسي).. علي يتكلم من دون مجاملة، ليس المقام مقام تظاهر.. علي -عليه السلام- يرى بأن السخط الإلهي أشد على العبد من عذاب جهنم.. وهنا نقول: نحن يا من ندعي متابعة علي -عليه السلام- لو أن الإنسان في الحياة الدنيا أحس بهذا السخط، مثلا: إنسان يعيش بعض المحرمات، يرتكب بعض المنكرات، لا يقطع بالغضب الإلهي.. وأحيانا إنسان يرتكب المشتبه، نقول: المشتبه مشكوك العذابية، ولكن هو جهارا ونهارا يعصي ربه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}، فهذا الإنسان من المفروض أن يعيش السخط الإلهي، والسخط أشد من عذاب جهنم، لأن السخط الإلهي لا يحتمل وإن احتملنا العذاب.
إن الإنسان الذي عنده حالة من حالات حياة القلب، عندما يرتكب الحرام يعيش أجواء أشد من أجواء دخوله نار جهنم.. ومن هنا المؤمن المثالي لا نقول: الكامل.. ولكن المؤمن المتعارف الذي عنده شيء من المعرفة بالله -عز وجل- هذا المؤمن عندما يرتكب خطأ بغفلة أو بسهو هكذا هو (وعزتك وجلالك!.. ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض).. ليست دائما المعصية من منطلق الكفر، (ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به علي).. بعد المعصية المؤمن عندما يستفيق من واقعه، يعيش حالة من حالات الخجل والوجل من الله -عز وجل-.. إذ من الممكن أن هذه الحالة ترفعه إلى أعلى الدرجات، مثلا: في جوف الليل ينتبه أنه عصى الله نهارا، اغتاب مؤمنا، أو نظر نظرة مريبة؛ فلعله طوال الليل وهو يبكي من خشية الله عز وجل.. الذي عنده حساسية من الغضب الإلهي، هذا إنسان من أتقى الأتقياء، إنسان دائما يعيش الهاجس، مثلا: لو افترضنا إن هنالك قلبا منفصلا، وهذه الأيام نقول: إن هنالك قلوبا (اصطناعية) ميكانيكية -إن صح التعبير- لو كان هذا القلب بيد إنسان وهو يمشي معك، وفي كل لحظة من اللحظات بإمكانه أن يوقف هذا القلب، كيف ستكون علاقتك بهذا الإنسان؟.. تكون في أعلى درجات التذلل؛ خوفا من أن يوقف لفظ قلبك.. والإنسان هكذا يعيش مع رب العالمين: روحه، نفسه، باطنه بين يدي الله عز وجل، يخاف من موت القلب.. رب العالمين يختم على بعض القلوب، وختم القلب تعبير جدا مخيف.. ولهذا، فإن المؤمن يعيش هذه الحالة من الخوف.
إن بعض الصالحين طوال النهار تراه كئيبا، تأتيه المسرات ولا يتجاوب مع الأخبار المسرة، قد يقال له: ربحت اليوم مبلغا ضخما فلا يفرح، لماذا؟.. عندما تستدرجه في الكلام، ويفتح لك قلبه يقول: البارحة فاتتني صلاة الليل، فكيف أفرح في النهار؟.. لعل فوت صلاة الليل البارحة لغضب إلهي، رب العالمين ما أراد أن أجلس بين يديه، فألقى علي النعاس.. هكذا المؤمن، فكيف إذا كان الأمر ارتكابا للحرام؟!.. وعليه، إذا وصلتم إلى هذه الفقرات من دعاء كميل، ليحاول أحدنا أن يعيش الجو المعنوي المصطنع.
إن بعض المقامات المعنوية العالية، الإنسان قد ييأس من الوصول إليها، ومنها مقام الحب الإلهي الحقيقي.. راجعوا قلوبكم، لكل إنسان قلب يحمل الحب.. انظر إلى حبك لزوجتك وأولادك، وانظر إلى حبك لله عز وجل، هل هنالك نسبة بينهما؟.. نحن ندعي الحب الإلهي، نحن نعتقد أننا نحب، ولكن في مقام العمل أين حب الله بالنسبة لحب الزوجة والأولاد؟.. لا قياس بينهما من جهة الرب، ولكن من جهة حب الدنيا، الحب للزوجة والأولاد متعلق في أعماق الوجود، وقد يستنكر البعض هذا المعنى، ولكن الدليل على ذلك: في بعض الحالات أنت تطيع زوجتك على حساب الشريعة، أليس هذا معناه أنها هي أحب إليك من الله عز وجل؟.. تطلب منك شيئا لا مسوغ له، فيه تبذير، فيه إسراف؛ ولكن تخاف من غضبها، ومن إعراضها، ومن أذيتها؛ وتخالف رب العالمين.. أليس هذا معناه أن الزوجة أحب إليك من الله ورسوله؟!.. فإذن، إن يوم القيامة، هو يوم الخجل من الله عز وجل.
إن هذه المقامات السامية من الممكن أن لا يحصل عليها الإنسان بشكل طبيعي وميسر، ولكن تكلف الشيء مقدمة للوصول، فالتظاهر بالشيء مقدمة لذلك.. في زماننا هذا قلّ منطق الشعر، والفضائيات أخذت مكان الدواوين، فيما مضى من الأيام: أيام الجاهلية والإسلام، وحتى أواخر الدولة العباسية وما بعد ذلك، يأتي الشاعر ليمدح إنسانا بمديح يقطع بكذبه، ولهذا يقال (أعذب الشعر أكذبه)، كلما كان الكذب فيه كبيرا كان أعذب.. ولكن مع ذلك، فإن الذي يُمتدح سواء كان ملكا أو أميرا، يعطيه أغلى الأثمان وأغلى السلع، لماذا؟.. لأن هذا الكلام كلام يرتاح له، وإن لم يكن له رصيد أبدا.
فإذن، إن الله -عز وجل- إذا رأى عبده في مقام المدح والتملق، وإن كان كاذبا يقبله منه، هو في مقام التملق يقول: (إلهي وربي)!.. هذه الفقرات من دعاء كميل، يصدق من أمير المؤمنين -عليه السلام- وإلا أحدنا يقول: (فَهَبْني يا إلـهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي!.. صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ) هذا الكلام كذب صريح لغير أمير المؤمنين وأمثاله، ولكن الإنسان يتظاهر بهذا الكلام، ليثبت ذلته وتملقه وحبه للدرجات وإن لم يصل إليها، وشعارنا جميعا:
أحب الصالحين ولست منهم *** لعل الله يرزقني صلاحا
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.