إن سورة “البينة” فيها عتاب بليغ لأهل الكتاب الذين كانوا في زمن النبي (صلی الله عليه) والمشركين.. فرب العالمين في كل عصر له دينه، وله كتابه، وله رسله.. ومع تقدم البشرية واكتمال العقول، فإن رب العالمين يرّقي أيضاً من مستوى تعليمه للبشر، ولا شك أن القرآن الكريم أرقى الكتب السماوية، والنبي الأعظم (صلی الله عليه) أرقى الأنبياء، ولهذا يقول تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾.. إن أول السورة هو خطاب لأهل الكتاب والمشركين، ولكن روح الأمر يشملنا جميعاً.. يقول صاحب تفسير الميزان: “وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية، ومعاني مفرداتها!.. حتى قال بعضهم -على ما نقل-: إن الآية من أصعب الآيات القرآنية: نظماً وتفسيراً”.. فمع وجود الاختلافات في الآراء، ننقل لكم الرأي الواضح الذي يفهمه الجميع، أما الأبحاث التخصصية فلأهلها!..
إن رب العالمين لم يجعل انفكاك بين القوم وبين البينة، يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾؛ وهذا لطف من الله -عز وجل-!.. لأن الإنسان الذي لم تأتيه البينة، هو غير مُكلّف بالحكم.. أما عندما تأتي البينة، وتتم عليه الحجة؛ فحينئذ لا مناص له من القبول.. وعليه، فإن الإنسان الذي تكثر عليه الحجج، مثلاً: يقرأ، ويسمع، ويحضر المجالس، ويحضر المساجد؛ هذا الإنسان يفرح من ناحية، ويحزن من ناحية أخرى:
أ. يفرح؛ لأن هذا فضل من الله -عز وجل- عليه، يقول تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
ب. ويحزن؛ لأن هذا الفضل وهذه النعمة؛ هي حجة عليه!.. فعن الإمام الصادق -عليه السلام-: (إنه يُغفر للجاهل سبعون ذنباً، قبل أن يُغفر للعالم ذنب واحد).
النعمة..
إن الإنسان الذي يشتكي من قسوة القلب، عندما يأتي المسجد؛ فإنه بلا احتساب، وبلا مقدمات؛ يرق قلبه.. ولعله كان قبل مجيئه إلى المسجد مشغولاً بحرام: حرام القول، أو حرام السمع، أو حرام النظر؛ ولكن رب العالمين إكراماً لبيته، لا لمن دخل البيت؛ يعطيه هذه الرقة.. فالبعض يعيش مشاعر راقية في: الحج، والعمرة، والزيارة، فيظن أنه بألف خير؛ لما يرى من جريان الدمع والتوفيقات!.. ولكن هذه التوفيقات هي من مزايا المسجد الحرام، حيث أن الله -عز وجل- جعل مزية للطواف والمسجد.. لذا، فإن أغلب الحجاج والمعتمرين يعيشون جواً روحياً.. وكذلك من يذهب تحت قبة الإمام الحسين -عليه السلام- لابد أن تنتابه رقة؛ فهذه من لوازم الضيافة، وليست بسبب ترقّي الزائر!.. وذلك مثله كمن يدخل محلات العطور، حيث الجو ممتلئ بالمسك والعود والبخور، فيظن أن العالم كله مبخر!.. ولكن إذا خرج وصادف مكاناً مليئاً بالنفايات؛ فإنه سيشمّ الروائح النتنة!.. وعليه، فإنه لابد من التفريق بين الجو وبين الذات!.. فالإنسان الذي يصبح داخله معطراً لا خارجه، فإنه يشم هذا الطيب أينما ذهب.. وليس فقط عندما يدخل محل بيع العطور، يشمه للحظات!..
الحجة..
إن رب العالمين يعطي الإنسان رقة قلب في بيوت الرحمن؛ وهذه حجة عليه.. فالإنسان الذي عنده معصية، وقد أُعطي هبة روحية، ثم رجع إلى المعصية؛ هذا عذابه مضاعف كحواريي عيسى -عليه السلام-.. فالحواريون طلبوا من الله -عز وجل- مائدة من السماء، فاستجاب لهم رب العالمين، ولكنه قال: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾.. فالعذاب قبل نزول المائدة عذاب متعارف، أما بعدها فالعذاب لا نظير له؛ لأن هذه المائدة حجة.. لذا، فإن المؤمن لا يفرح بالإقبال دائماً، فلعل هذا الإقبال القلبي والتوفيق، بمثابة مائدة حواريي عيسى -عليه السلام-.
﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}﴾.. هذه الآيات تقول: أن ربّ العالمين أتمّ عليهم الحجة، ولكن ما علموا قدر هذه الحجة.. وقد جاء في تفسير هذه الآية: “أن أهل الكتاب إنما اختلفوا في أمر الرسول، أو في أمر دينهم السابق، بأن صار لكل فئة مذهب وطريقة بعد أن تمت الحجة وعرفوا الصواب، وإنما اختلفوا بغياً وحسداً”.
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾.. أي نحن لم نأمركم بشيء لا تتحملونه!.. و﴿حُنَفَاء﴾؛ بمعنى الميل عن جانبي الإفراط والتفريط إلى الطريق الوسط وهو الاعتدال.. فهذه الآية من سورة “البينة” تعرّف الدين، الذي هو عبارة عن: أمر في القلب؛ وهو الإخلاص.. والاعتدال في السلوك الخارجي.. وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.. فالدين المشتمل على هذه الأمور المذكورة؛ هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة.. فإذن، لمَ الاستكبار والاستنكاف؟..
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾.. المشركون وأهل الكتاب انحرفوا عن السبيل، ولكن الذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة؛ هم خير البرية؛ فهؤلاء ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾؛ ولكن من هم هؤلاء الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات؟.. يقول جابر بن عبد الله: “كنا عند النبي (صلی الله عليه) فأقبل علي، فقال النبي (صلی الله عليه): (والذي نفسي بيده!.. إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، ونزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾؛ فكان أصحاب النبي (صلی الله عليه): إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية”.. وكأن لقب عليٍّ بعد نزول هذه الآية؛ هو خير البرية!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.