إن موسى -عليه السلام- عندما كان ذاهبا لصراع فرعون -وما أدراكَ ما فرعون-!.. أوصاهُ رب العالمين بالصلاة، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.. فالصلاةُ تقام لأجل الذكر، كما أنّ أحدنا يزرع الشجرة للثمرة، كذلك الإنسان يُصلي ليذكر، فإذا صلى وما ذكر؛ فكأنهُ زرعَ زرعاً بلا ثمر.
(أستغفر الله ربي وأتوب إليه):
أولاً: إن هذه العبارة نذكرها بينَ السجدتين، وعادةً نُكررها بلا توجه.. فكما هو معلوم أن عماد التوبة الندامة، فهل نعيش شيئاً من الندامة بينَ السجدتين؟.. وهل نلتفت إلى معنى الاستغفار، أو أنه مُجرد ورد نكررهُ؟.. وهذهِ آفة العبادة، فالعبادة إذا لم يلتفت لها الإنسان، تحوّلت إلى عادة.. ولهذا ورد في بعض الروايات عن الإمام الصادق (ع): (لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، ولو تركه لاستوحش لذلك.. ولكن انظروا إلى صدق حديثه، وأداء أمانته).. بعض الناس عندما لا يذهب إلى المسجد يستوحش، وإذا لم يصلِّ يستوحش.. هذهِ حالة لا بأس بها، ولكنها ليست علامة الكمال.. لأن الإنسان هنا متعود على عادة طيبة، فهو يقوم بذلك من باب العادة لا من باب العبادة.. وبينَ العبادةِ والعادة هناك حرف الباء، وفي هذه الباء كُل المعنى!.. مثلاً: هذه الأذكار المتكررة: كتسبيحة الزهراء -عليها السلام- هل سبحنا هذه التسبيحة مرة واحدة في العمر، كما سبحتها الزهراء (ع)؟.. ولو من باب الشبه البعيد: هل نتريث في التكبير، وفي التحميد، وفي التسبيح؟.. وكذلك في كل أورادنا العبادية -مع الأسف- نعيش هذا الجو من الغفلة.
ثانياً: لو أحيينا هذا الميت -الاستغفار- فإنه بإمكاننا أن نستغفر الله -عز وجل- استغفاراً بليغاً بعدد الركعات.. إذا صلى الإنسان الصلاة الواجبة، وفي المسجد، وفي الجماعة، واستغفر بين السجدتين؛ متى يمكن أن يكون هناك أفضل من هذهِ الفرصة للاستغفار؟.. الإنسان عندما يستغفر، أي أنه ينوي تقصيرهُ بين يدي الله عز وجل، لا يجب أن يأخذ سبحة ويعددها واحدةً واحدة، بل يقول: يا رب، أنا من الصباح إلى الظهر لا أدري، ماذا قُلت؟.. ماذا فعلت؟.. ماذا نظرت؟.. في صلاة الظهر والعصر، في كل ركعة يقول: (أستغفر الله ربي، وأتوبُ إليه)؛ أي ثمان مرات يستغفر ربه استغفاراً بليغاً، ألا يكفي هذا لغفران الذنوب؟.. ومن الزوالِ إلى المغرب قد نخطئ، فيأتي المغرب والعشاء، فنستغفر سبع مرات.. وكذلك في صلاة الصبحِ، نستغفر من ذنوب الليل.
فإذن، هذهِ الأرض الميتة يجب أن نحييها.. مثلاً: لو أنّ إنساناً ماتَ والده، وتفاجأ أنَ لهُ قطعة أرض في وسط السوق المركزي، ماذا يعمل؟.. إن أول ما يفكر فيه، هو استثمار هذهِ القطعة الغالية جداً؟.. كذلك نحن علينا أن نحيي هذهِ القطعة الثمينة من الصلاة.
الفرق بين الاستغفار والتوبة:
الاستغفار: الاستغفار من باب الاستفعال، فالاستفهام: طلب الفهم، والاستنكار: أنكر الشيء، والاستغفار: طلب المغفرة من الله عزَ وجل.. وكُل طلب مغفرة، يكون بإزاء معصية.. هناك آية ملفتة في القرآن الكريم، وفيها أمل للعاصين، ألا وهي: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}؛ فالتواب أي كثير التوبة، وكثير التوبة هو الذي يكثر المعصية، فبعد كل معصية يتوب.. رب العالمين يحب العبد المفتتن التواب، الذي ينوي الاستقامة، فتزلُ أقدامهُ؛ ثم يعود إلى اللهِ -عزَ وجل- وهكذا.. ولكن مع عدم الاستهزاء باللهِ عزَ وجل.. فإذن، (أستغفر اللهَ ربي)؛ أي يطلب من الله -عزَ وجل- المغفرة.
التوبة: إن هُنالكَ رواية تقول: (كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة، يقول: “أتوب إلى الله”)؛ أي أرجعُ إلى الله -عزَ وجل- من غير معصية.
مثلاً: الولد عندما يخرج من المنزل لهُ حالتان -كُلنا كهذا الولد-: تارةً يخرج من المنزل، ليرتكبَ جريمةً أو مُنكراً، رغم نهي الأب له عن الخروج، فيذهب ويسرق، ثُمَ يرجع ويطلب السماح من أبيه، ويعطيه الأموال المسروقة ليرجعها إلى أصحابها.. فالأب هنا يفتح له الباب، ويستقبله.. وتارةً الأب لا ينهاه عن الخروج، فيخرج ليلعب، وعندما يرجع أيضاً يكون خجلا من أبيه، رغم أنه لم يخالفه، ولم يرتكب جريمة، ولكن بدل من أن يكون في المنزل بينَ يدي أبويه، يذاكر دروسهُ، كان يلعب في الطرقات.. فهو تشاغلَ عن أبويه، وغَفلَ عنهما، وخرجَ عن بيئتهِ الطبيعية وعن زيه.. نحنُ إما هكذا، وإما هكذا، عندما نخرج من جو الطاعة، والأنس برب العالمين: إما أن نرتكب الأخطاء والذنوب، وإما أن نغفل عن ذكر الله -عزَ وجل-.. في دعاءِ كميل، الإمام علي -عليه السلام- يقول: (وَلاَ تُعَاجِلْنِي بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَا عَمِلْتُهُ فِي خَلَوَاتِي، مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَإِسَاءَتِي، وَدَوَامِ تَفْرِيطِي وَجَهَالَتِي، وَكَثْرَةِ شَهَوَاتِي وَغَفْلَتِي).. الشهوات والغفلات هما الآفتان اللتان نقع فيهما.
ماذا نعمل لنخرج من جو الغفلة؟..
إن هذا الدعاء دعاء عجيب، إذا قرأه الإنسان في العُمرِ مرة واحدة، بصدق وبتوجه، فإنه يكفي لدخوله الجنة.. الدعاء سهلٌ أما تبني المضمون، فهنا البطولة، يقول: (سيدي!.. أنا من حبك جائع لا أشبع، أنا من حبك ظمآن لا أروى).. إذا وصل الإنسان لهذهِ الدرجة من الجوعِ والعطش؛ هل تلهيه الدنيا ومتاع الدنيا!.. أمير المؤمنين (ع) كان يقول: (ولكانت دنياكم هذه، أهون علي من عفطة عنز)؛ هكذا الدنيا في نظر علي (ع).. هل هذهِ الدنيا تغري علياً الذي يقول: (يا دنيا غرّي غيري، قد طلقتك ثلاثا)!.. المؤمن إذا وصلَ لهذهِ المرحلة، لا يمكن أن يسمع رب العالمين يدعوه للصلاة بين يديه وهو لا يبالي؛ لا يمكن ذلك!..
إن حياتنا كما في بعض الروايات، عبارة عن صناديق محتوياتها مختلفة، ولكن معظمها فارغ، قال النبي (ص): (إنه يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يومٍ من أيام عمره، أربعة وعشرون خزانة -عدد ساعات الليل والنهار- فخزانة يجدها مملوءةً نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور، ما لو وُزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار؛ وهي الساعة التي أطاع فيها ربه.. ثم يُفتح له خزانةٌ أخرى فيراها مظلمةً منتنةً مفزعةً، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع، ما لو قُسّم على أهل الجنة لنغّص عليهم نعيمها؛ وهي الساعة التي عصى فيها ربه.. ثم يُفتح له خزانةٌ أخرى فيراها فارغةً، ليس فيها ما يسّره ولا ما يسوؤه؛ وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكّناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}).. إذاً ماذا نعمل للخروج من هذا الجو؟..
أولاً: المعرفة النظرية.. أول التوحيد أن يعرف الإنسان ربهُ، إذا عَرفَ الإنسان موقع الرب، وعظمة الرب؛ فإنه يخرج من جو الغفلة.. ولهذا لا بأس بين وقت وآخر، -وإن كانَ هذا ليس طريقاً تاماً، ولكنهُ يهيئ الجو- بقراءة دورة في أصول الدين، في الصفات الجلالية والكمالية؛ لأن هذه الاعتقادات المعمقة بمستوى أحدنا، تهيئ لهُ الأرضية؛ لأن يتقرب إلى اللهِ -عزَ وجل-.. أحد المؤمنين أجرى الله -عز وجل- على لسانهِ جملة طيبة، قال: أول الطريق المجاهدة، وآخر الطريق المكاشفة.. ما معنى المكاشفة؟.. أي أن يرى الإنسان بعين قلبهِ، ما لا يراهُ الآخرون.
ثانياً: الذكر المتخلل.. بعض العباد الصالحين من العلماء الكبار بينَ وقتٍ وآخر، إذا كان جالساً يتحدث مع إنسان، وإذا به يشهق.. مثل الإنسان المصاب بمرض الربو، يحتاج إلى استنشاق هواء، وكأنهُ أخذَ يختنق من الحديثِ مع البشر، رغم أنه في حديث نافع.. ولكنه انشغل عن الله -عزَ وجل- فكأنهُ يصيح في باطنهِ، يا الله!.. هذهِ الكلمة تنعشه، تعيد لهُ جوهُ، كانَ صدره ثقيلاً، وإذا بهِ انتعشَ قلبه.. ومن المعروف أن لفظ الجلالة “الله” فيها خروج للهواء من الصدر، حتى من ناحية التلفظ، لفظ الجلالة يُريح الرئتين، فكيفَ بالالتفات إلى معنى لفظ الجلالة؟!..
ومن هنا ندعو من يذهب إلى المجالس، أن يجلس بالمقدار اللازم فقط!.. أما البقاء لمدة طويلة، وهو جالس ينظر يميناً وشمالاً، ما الفائدة من هذا الجلوس؟.. بل بدل ذلك فليذهب إلى المنزل، ويجلس مع زوجته، وينظر إليها.. فلو جلس مع الزوجة هكذا جلسة لاهية؛ لكان مأجوراً، لأنه يدخل عليها السرور.. إن كانَ ولابد من الذهاب إلى بعض المجالس، فليكن مجلسا مختصراً، وبهدف؛ لأن الجلوس مع البطالين يميت القلب.. قال النبي (ص): (أربع يمتن القلوب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء -يعني محادثتهن- ومماراة الأحمق، تقول ويقول ولا يرجع إلى خير، ومجالسة الموتى، قيل له: يا رسول الله!.. وما الموتى؟.. قال: كل غني مترف).. الغني المترف إنسان لا يعرف لا دُنيا ولا آخرة، لا صلاة ولا قبلة.. هذا الإنسان حينما تجلس معهُ يقسي قلبك، لا يعطيكَ من دنياه، ويأخذ من آخرتك، ما هذهِ المعاشرة!.. يقول تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
إن أغلب أعمارنا في هدر، هذهِ الأيام أينما تذهب هناك زحمة مرورية، مما يجعل الإنسان يمضي ساعات طويلة خلفَ مقود السيارة، هذه الساعات تمضي من عمر الإنسان، وتحترق مجاناً.. لذا، ينبغي للمؤمن الاستفادة من هذه الساعات: إما بذكر الله عز وجل، وإما بالاستماع إلى ما هو نافع ومفيد.. وعليه، فإنه لابد من برمجة حياتية، وإلا فإن الإنسان يموت من الحسرة في عالمِ البرزخِ، وفي عالم القيامة.. وتكرار هذا الذكر (أستغفر الله ربي، وأتوبُ إليه)؛ وهذا التركيز؛ من موجبات ارتفاع الغفلةِ إن شاء الله تعالى.
(بحول الله وقوتهِ أقوم وأقعد):
أولاً: إن هذا الذكر نقوله بعدَ السجدتين.. يا لهُ من تقسيم منطقي عادل!.. أي يا رب، أنا أقوم، فالعضلات بيدي، وأنا صاحب الإرادة، فأنا لستُ مُسيراً (لا جبرَ ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين).. أنا أقوم وأنا أقعد، ولكن يا ربِ بحولكَ وقوتك، فأنتَ الذي مكنتني من هذه الحركة.. البعضُ ينظر إلى المباريات الرياضية، لينظر من الذي يفوز بهذهِ المباراة، وقلبهُ ينبض.. والبعضُ قد يسقط، عندما يرى فريقاً يفوز على فريق.. ولكن هناك من ينظر ليتفكر ويتأمل بحركات الرياضيين: كيفَ يركضون، وكيفَ يسددون الهدف، ما هذهِ العضلات المُذهلة في البدن؟.. كل ذلك بحول الله وقوته!.. الجراحُ في غُرفة العمليات، كيفَ يستعمل عضلات أناملهِ؟.. والرياضي كيفَ يستعمل عضلات رجليهِ ويديه؟.. إنه خَلقٌ مُذهل!..
ثانياً: ما دامَ الأمرُ كذلك، فلماذا نصرف هذهِ الطاقات فيما لا يرضي الله عزَ وجل؟.. مثلاً: لو أن هناك ولداً فقيراً، أعطاه والده سيارة، ووقوداً، ومصروفاً.. وقال له: يا بُني!.. خُذ حُريتك، إذهب أينما تشاء، إلا في هذا الشارع.. ولا تجلس مع فُلان، وافعل ما تشاء.. لو أنَ هذا الولد خالفَ كلامَ أبيه، كم يُلام؟.. الأب مكّنه من كُلِّ شيء، وأعطاه كُلَّ شيء؛ ولكنه حظر عليه شيئا أو شيئين.. وكذلك الشارع المقدس حلل للإنسان كل شيء، ما عدا بعض الأشياء، ولكن هذه المُحرمات بالنسبة إلى المُحللات ما نسبتها؟.. ما هو المشروب المُحرم في هذا العالم، غير الخمر؟.. ما عدا الخمر هناك ملايين المشروبات في العالم أحلها اللهُ -عز وجل-!.. وكذلك بالنسبة للمأكولات: حرم الخنزير، ولحم الميتة، والكلب، وما عدا ذلك -تقريباً- كله حلال للإنسان.. إن بني آدم ظلوم، جهول، لا يعلم ماذا يصنع!..
ثالثاً: إن هذهِ قوى رب العالمين، مكن الإنسان منها.. فالإنسان عندما ينفق المال، بحول اللهِ وقوته ينفق، هذا المال ليس بماله، والبعض إذا قيل له: يا فلان، لا تنفق إسرافاً أو تبذيراً.. تأخذهُ العزة بالإثم، فيقول: المالُ مالي، وأنا حُر التصرف.. هل هذا المعنى يُقبل من إنسان مؤمن مُسلم؟.. أينَ الحُرية في التصرف؟.. هُناكَ رب رقيب عتيد {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.. هو الذي مكن الإنسان من كُلِّ شيء!..
رابعاً: إن هناك قسماً من الناس يقوم ويقعد، لا يعترف بحول الله وقوته.. وهناك قسمٌ جالس مُتقاعس لا يسعى لرزقه، لا يُثقف نفسه، لا يتعبد؛ ويُريد المقامات الراقية.. بينَ وقتٍ وآخر يذهب للمشاهد الشريفة، ويطلب تلك المقامات من الله -عز وجل- أو من المعصوم بإذن الله.. البعض يسأل: ماذا نقول أمام المعصوم؟.. قل: يا الله، بحق الإمام أعطني، أو قل: يا مولاي، سل الله أن يعطيني؛ فالأمر في كلا الحالتين يعود إلى الله -عزَ وجل- لا مشكلة في البين!.. ولكن هذا المعصوم الذي تطلب منه أن يتوسل لك، من أجل الحصول على المقامات الراقية، جاهدَ في الله حقَ جهاده، ألا نقول في زيارة الحُسين عليه السلام: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ).. هؤلاء جاهدوا، وهو يريد أن يأخذها دون تعب، من خلال: زيارة، وركعتين، ودعاء.. هؤلاء الذينَ هم قمة الدعاء، وقمة التوسل، وقمة المُناجاة، تعبوا في سبيل الله عزَ وجل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.. هذا ليس بلقاء مجاني، إنما يحتاجُ إلى كدح، وإلى تعب.
خامساً: إن الاعتماد على الدُعاء والتسديد، أمر جيد؛ ولكن الإنسان يسيء الاستفادة منه: فلا يسعى في حل مشكلة، بل يقول: على الله!.. نعم، كل شيء عائد إلى الله -عز وجل- ولكن الأمر يحتاج إلى جُهد.. فرب العالمين لا يتدخل بشكل مباشر: طول التأريخ النار تُحرق، ولكن مرة واحدة رب العالمين غيّر قانون السببية لإبراهيم الخليل (ع).. رغم أن هناك مؤمنين قتلوا حرقا خلال التاريخ، إلا أن رب العالمين لم يتدخل، يقول تعالى في كتابه الكريم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}.. أحرقوهم، والله -عزَ وجل- لم يُحرك ساكناً.. ولو شاء الله -عزَ وجل- لأنزل ملائكة بدر يومِ عاشوراء!.. فالملائكة المسومة رَهنُ إشارة عالم الغيب!.. ولكن رب العالمين أنزلهم في بدر وانتهى الأمر، وبعدها مباشرة في أُحد هُزم المسلمون شرَّ هزيمة، ولم ينزل الملائكة.. لذا المؤمن لا ينتظر الإعجاز، ولا ينتظر الكرامة.. فرب العالمين إن شاءَ في حالةٍ يخرق القوانين، ولكن الإنسان هل يعول على الخرق، أو يعول على عالم الأسباب والنتائج؟..
فإذن، (بحول الله) لابدّ منه، (وقوتهِ) لابدَّ منه، (أقوم وأقعد) لابدَّ منه.. هو ذكرُ بين السجدتين، ولكنه قانون الحياة: لابدَّ أن يقوم الإنسان وأن يقعد، أي يتحرك.. ولكن لا بنحو الاستقلالية، بل يقول: يا ربِ، مني الحركة ومنك البركة.. فالشاب الذي يريد أن يقترن بفتاة، عليه أن يهيئ الأسباب.. ولكن لا يعتمد على قدراته، وعلى رومانسيته، وعلى ماله، وعلى وظيفته.. بل عليه أن يقول: يا ربِ، الأمرُ إليك، لين قلبها كما تحبُ وترضى، وتولانا بحسن كفايتك.
إن خير دعاء ندعو بهِ في كُل الأحوال هذا الدعاء، وخاصة عند الحطيم، أو الميزاب، أو الروضة النبوية، أو تحت قبة الحسين (ع)، وفي مواطن الاستجابة: “يا رب، تكفل أموري كلها جميعا”.. المرأة تقول: “إلهي!.. كما كفلتَ مريم زكريا، كفلني وليكَ الحجة -صلوات الله وسلامهُ عليه-” والرجل يقول: “يا رب، أنتَ كفلت أنثى كمريم نبياً ذكراً كزكريا، أيضاً ياربِ، تكفلني”.. إن أجيبت هذهِ الدعوة، فإن الإنسان يكون على ألفِ خَيرٍ.
الخلاصة:
١- أن الإنسان يُصلي ليذكر، فإذا صلى وما ذكر؛ فكأنهُ زرعَ زرعاً بلا ثمر.
٢- أن العبادة إذا لم يلتفت لها الإنسان، تحوّلت إلى عادة.
٣- أنه بإمكاننا أن نستغفر الله -عز وجل- استغفاراً بليغاً بعدد الركعات لو عشنا شيئا من الندامة مع كل استغفار.
٤- أن رب العالمين يحب العبد المفتتن التواب، الذي ينوي الاستقامة، فتزلُ أقدامهُ؛ ثم يعود إلى اللهِ -عزَ وجل- ولكن مع عدم الاستهزاء باللهِ عزَ وجل.
٥- أن من طرق الخروج من الغفلة: المعرفة النظرية ، والذكر المتخلل على مدار لحظات اليوم.
٦- إن أغلب أعمارنا في هدر،وتحترق مجاناً.. لذا، ينبغي للمؤمن الاستفادة من هذه الساعات: إما بذكر الله عز وجل، وإما بالاستماع إلى ما هو نافع ومفيد…
٧- أن رب العالمين بحوله وقوته هو الذي مكن الإنسان من استعمال طاقاته، فعلى العبد إلاّ يصرف هذه الطاقات فيما لا يرضي ربه عز وجل.
٨- أن على الإنسان أن يكدح ويتعب في سبيل الله جل وعلا إن أراد المقامات الراقية.
٩- إن الاعتماد على الدُعاء والتسديد، أمر جيد؛ ولكن الإنسان يسيء الاستفادة منه، بتركه السعي في حل مشكلته.
١٠- أن قانون الحياة هو في قولنا:( بحول الله وقوته أقوم وأقعد) أي لا بنحو الاستقلالية، بل يقول: يا ربِ، مني الحركة ومنك البركة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.