إن هناك تعبيراً في كتاب فقه الرضا، لا نظيرَ لهُ حولَ الصلاة، ألا وهو: (إنّ الصلاة أفضل العبادة لله، وهي أحسن صورة خلقها الله.. فمَن أدّاها بكمالها وتمامها فقد أدّى واجب حقّها، ومَن تهاون فيها ضرب بها وجهه).. وكأنّ الصلاة مخلوقٌ من مخلوقات الله -عز وجل- مثلها مثل الحور، ولكن أين الحور من الصلاة؟.. فالحور مخلوقاتٌ خلقها الله -عزَ وجل- ليستمتع بهن الرجال في الجنة، أما الصلاة فهيَ العلاقة المتميزة بينهُ وبين أنبيائهِ ورسلهِ!.. كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (لي مع الله وقت، لا يسعني فيه ملك مقربٌ، ولا نبي مرسلٌ)؛ وهذهِ الحالات موطنها الصلاة.. فالصلاة في بعض الأحاديث؛ كالبرج الذي يحتاجُ إلى هندسة، وإلى إشراف، وإلى تنفيذ.
الركوع:
إن الإنسان بعدَ أن يقرأ الفاتحة والسورة، يهوي للركوع بينَ يدي الله عزَ وجل.. وقبلَ الركوع وبعدَ الركوع يقول: الله أكبر!.. هذه التكبيرة المتخللة للصلاة، كأنها جرس إنذار وتنبيه، أي: أيها المصلي!.. تذكر بأن الله أكبر من أن يوصف!.. ومعنى ذلك أن لحن الخطاب، لابدَ وأن يتناسب مع هذهِ الصيغة.. ومن هنا فإنه من غير اللائق أن يعبث المصلي بلحيتهِ أو برأسه وهو يقول: اللهُ أكبر!.. وفي تفسير سورة الكوثر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}؛ يقال: المراد بالنحر؛ هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.. ويقول تعالى في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}؛ فكأن آخر عهد الروح بالبدن؛ منطقة النحر ومنطقة الحلقوم.. وبلوغ النفس الحلقوم؛ كناية عن الإشراف التام للموت.
إن الإمام الصادق -عليه السلام- يصفُ الركوع، فيقول: (لا يركع عبدٌ لله ركوعاً على الحقيقة، إلا زيّنه الله بنور بهائه، وأظله في ظلال كبريائه، وكساه كسوة أصفيائه.. والركوع أوّل، والسجود ثاني.. فمن أتى بمعنى الأوّل، صلح للثاني.. وفي الركوع أدب، وفي السجود قرب.. ومَن لا يحسن الأدب، لا يصلح للقرب …. الخبر).. الحقيقة مقابل المجاز، نقول: هذهِ صورة حقيقية، وهذهِ صورة مستنسخة.. هذا ذهبٌ حقيقي، وهذا ذهبٌ مزيف مموه.. وكذلك الصلاة: هناك صلاة حقيقية، وهناك صلاة مجازية.. وبالتالي، هناك ركوعٌ حقيقي، وركوعٌ مجازي:
أولاً: الركوع المجازي: وهو أن ينحني الإنسان، كما في التمارين الرياضية، أو إذا أرادَ أن يأخذ شيئاً من الأرض، فإنه ينحني راكعاً تقريباً.. فالقضية بمظهرها المادي؛ لا قيمة لها.
ثانياً: الركوع الحقيقي: وهو أن يستشعر الإنسان التذلل بينَ يدي اللهِ عزَ وجل.. لهذا إذا أرادَ السجان أن يذل سجيناً -مثلاً- يأخذ برأسهِ ويجعلهُ ينحني إلى درجة الركوع؛ أي هذا منتهى التذلل والذلة.. وإن أرادَ أن يزيدهُ ذلةً يجعل رأسهُ على الأرض، فليسَ هنالكَ بعدَ ذلكَ ذلٌ ووهن.. هذا مع العبيد، أما مع رب العالمين؛ فإن الإنسان يفتخرُ أن يركع أمامَ ربهِ.
(زيّنه الله بنور بهائه، وأظله في ظلال كبريائه، وكساه كسوة أصفيائه).. هذا المعاني لو أدركناها قبلَ الموت بيوم؛ فنحنُ من الفائزين الغانمين.. إذ لطالما صلينا، وركعنا وسجدنا خلف الحطيم، وخلفَ المقام، وتحتَ الميزاب؛ ولكن الركوع لم يكن على نحو الحقيقة.. لأن الذي يعيش البهاء الإلهي، والنور الإلهي؛ لا يمكن أن يترك الركوع والسجود؟!.. وقد ورد عن الصادق (ع) أنه قال: (إذا قام المصلي للصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفت به الملائكة، وناداه ملك: لو علم المصلّي ما في الصّلاة؛ ما انفتل)، وفي حديث آخر لعلي (ع): (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال اللَّه، ما سرّه أن يرفع رأسه من السجود).. فالذينَ أنسوا الصلاة والعبادة؛ من الصعب أن يتركوا المسجد، وإنما الأمر يحتاجُ إلى مجاهدة!..
إن النبي المصطفى (ص) كان عندما يصافح أحداً، لا يستعجل في سحب يدهِ من المصافح.. وهذا أيضاً خُلقٌ إلهيٌ مع العبد: فالمصلي عندما يكبر؛ رب العالمين يقبلُ عليه، ولا يرفع التفاتتهُ عنه إلا إذا رفع المصلي نظره عن المولى.. يقول النبي (ص): (إن الله لا يزال مقبلا على العبد ما دام في صلاته، ما لم يحدث أو يلتفت)، هو الذي نكسَ العهد، هو الذي سحب يده من المصافحة، وإلا رب العالمين يقبل عليه إلى أن يدبر.. ولهذا نلاحظ أن الثواني الأولى من الصلاة فيها التفات إجمالي، أما بعدَ الحمد والسورة، فإن الإنسان يذهبُ شرقاً وغرباً، ويفكر في كل ما هب ودب؛ فينتهي من صلاته وهو لا يعلم كم ركعة صلى، وماذا قال في سجودهِ وركوعه!..
(والركوع أوّل، والسجود ثاني.. فمن أتى بمعنى الأوّل؛ صلح للثاني).. للدخول على الملوك والرؤساء، هناك مراحل متعددة.. وكذلك للدخول إلى ساحة الإله، فإن الساحة الأولى هي ساحة الركوع.. والذي ينجح في الركوع، يؤهل لأن يكون ناجحاً في سجوده؛ لأن (في الركوع أدب، وفي السجود قرب.. ومَن لا يحسن الأدب، لا يصلح للقرب).
(سبحان ربي العظيم وبحمده):
يقول المصلي في ركوعه: (سبحان ربي العظيم وبحمده)!.. ما معنى التسبيح؟.. يونس (ع) في بطن الحوت قال في الذكر المعهود: {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.. فالتنزيه قسمان:
أولاً: قسم يعودُ إلى الله عز وجل: أي ننزههُ من الشريك، والضعف، والنقص.. فيثني الإنسان على رب العالمين، ويحمده بالتنزيه، وينفي صفات النقص عنه.. والله العالم كأن قلوب أغلب الناس متبرمة من الله عز وجل!.. فمن منا يرضى بكل ما حلَّ فيه؟.. نعم البعض يصبر، ولكن الصبر على المصيبة شيء، والرضا بقضاء الله وقدره شيءٌ آخر!.. والإنسان عندما لا يرضى بقضاء الله وقدره، كأنه يقول بلسان الحال -ولو قالها بلسان المقال لكفر-: أنت لستَ بحكيم، إنما الحكمة ما أراهُ أنا، مثلاً: من المفروض أن أكون غنياً؛ فلمَ أفقرتني؟.. أو المفروض أن أكون معافىً؛ فلمَ أمرضتني؟.. وهكذا بلسان الحال نتهم الله -عز وجل- في قضائه وقدره.. وبعض ذوي المصائب وخاصة النساء، عندما تقع عليها المصيبة، تصرح بهذا المعنى، ثم تستغفر الله -عز وجل- على ما نطقت به من الكفر.
ثانياً: قسم يعود ما بين الإنسان وبين ربه!.. أي يا رب أنت منزه، {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أنا الذي ظلمتُ نفسي، ولهذا بحمدي أسبحهُ وأنزهه.. عندما يقول الإنسان: بأنَ الله عادل؛ فهذا حمد.. أي أنه ليس بظالم؛ وهذا تسبيح وتنزيه عما لا يليق بالله عز وجل.
الصلاة على النبي (ص):
أولاً: إن الصلاة على النبي وآل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تقترن بذكر رب العالمين في الركوع؛ عرفاناً للجميل.. فالنبي وآله (ص) لهم فضل في تثبيت أركان الصلاة: ففي الأذان ذكرهم، وفي الإقامة، وفي الركوع، وفي السجود، وفي التشهد ذكرهم.. لقد جعل الله -عز وجل- ذكر المصطفى وآل المصطفى قريناً للمصلي، من أول أذانه إلى التشهد الأخير في ركعته الأخيرة.. يقول تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
ثانياً: إن البعض يستعجل في صلاته، فيحذف الصلاة على النبي وآله.. بينما الصلاة على النبي وآله (ص) من موجبات قبول الصلوات.. إياكَ وإياكَ أن توفر في الصلاة الواجبة!.. الأذان والإقامة والصلاة على النبي وآله؛ كلها مستحبة.. ولكن هل يليق بالمصلي أن يأتي من الوضوء مباشرة، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويدخل في بحر الصلاة من دون مقدمات، وبلا تكبيرات افتتاحية، وبلا صلاة على النبي وآله، وإذا وصلَ إلى التسليمات يكتفي بتسليمة واحدة فيقول: (السلام عليكم ورحمة الله) حتى يوفر السلام على النبي وآله؟!.. نعم، الصلاة ليست باطلة، ولكنها خسارة كبيرة!.. لذا ينبغي للمؤمن أن لا يوفر، بل عليه أن يكثر من الصلاة على النبي وآله.
ثالثاً: إن الصلاة على النبي وآله دعاءٌ بل من أفضل الأدعية، لذا إذا وفق الإنسان لزيارة الحبيب المصطفى (ص)، فليرفع يديه إلى السماء، ويقول مرة واحدة وبتوجه: (اللهم!.. صلّ على محمد وآل محمد) ويقدم طلباً؛ ألا وهو أن يرفع درجة النبي وآله.. لو أن إنساناً صلى على النبي وآلهِ مرة واحدة في العمر صلاة مقبولة، أليسَّ هو الرابح إلى الأبد؟.. وهل هنالكَ أثرى منهُ في عالم الوجود؟!.. فهو بدعائهِ وبصلاته؛ رفعَ درجة النبي (ص).. هذا الإنسان كيف سيتعامل معهُ الحبيب المصطفى (ص) يومَ القيامة؟..
(سمع الله لمن حمده):
أولاً: عندما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول: (سمعَ اللهُ لمن حمده)، سمع: فعل ماض.. ولكن العلماء يقولون: “سمعَ” هنا ليس بمعنى سمع، لأن الفعل “سمعَ” لا يحتاج إلى اللام (سمع الله من حمده)، ونقول: سمعت الصوت الفلاني، أي هذا الفعل فعل متعدّ وليسَ بلازم.. فإذن لماذا جئنا باللام هنا؟.. يقولون: (سمع الله لمن حمده)؛ بمعنى: أجاب الله لمن حمده وشكره.. والإنسان عندما يصلي، ويحمد الله عز وجل، ويصلي على النبي وآله، ثم يطلب حاجته، ثمَ يختمها بالصلاة؛ فإن هذا الدعاء لا يُرد أبداً!..
ثانياً: قد يقول قائل: لطالما دعونا ربنا ولم نجد الإجابة!.. والجواب على هذا التساؤل هو: أن رب العالمين حكيم!.. فالطفل عندما يطلب من أبيه شيئاً يضره؛ فإنه لا يعطيه طلبه، بل يعطيه ما هو أفضل له!.. كذلك رب العالمين الذي هو أرأف بالعبد من أمه وأبيه، يعطيه الحاجة إما معجلة وإما مؤجلة؛ حسب ما يصلحه.. عن الصادق (ع): (إن العبد ليدعو فيقول الله -عزّ وجلّ- للملكين: قد استجبت له، ولكن احبسوه بحاجته، فإني اُحب أن أسمع صوته.. وإن العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالى: عجلوا له حاجته؛ فإني أبغض صوته).. انظروا إلى رقة الحديث!.. ما يجعل الإنسان يطأطئ رأسهُ خجلاً من جلال الله -عز وجل- وعظمته.. وهذا الذي يحصل: أنه عندما نُعطى الحاجة؛ فلا ندعو ربنا.. وإن دعوناه، ندعوه دعاء شكلياً.
ثالثاً: (سمع الله لمن حمده)؛ أي استجابَ!.. ولكن هذه الاستجابة لا يُعلم متى تتم؟.. ربما في الدنيا، أو في البرزخ، وربما تؤجل إلى عرصات القيامة، فيقول رب العالمين لعبده: طلبتَ مني ألفَ دينار في الحياة الدنيا فلم أعطك؛ ولكن خُذ الآن ألفَ قصرٍ في الجنة.. وشتان بينَ ألف ورقيةٍ تفنى، وبين قصور تبقى إلى أبد الآبدين!.. رب العالمين هو أدرى بالمصالح، قد يعطي معجلاً وقد يؤجل.. فما دام الإنسان يدعو إلهاً حكيماً عادلاً قريباً، فإنه لا يبالي أبداً!..
الخلاصة:
١- أن الصلاة أفضل العبادة لله، وهي أحسن صورة خلقها الله.
٢- أن التكبيرات المتخللة في الصلاة بمثابة جرس تنبيه يقول للمصلي: إن الله تعالى أكبر من أن يوصف.
٣- أن الركوع نوعان: مجازي جسدي، وركوع حقيقي يستشعر فيه الإنسان التذلل بين يدي رب العالمين.
٤- أن الذي يعيش البهاء الإلهي ، والنور الإلهي؛ لا يمكن أن يترك الركوع والسجود؟!، وإنما الأمر يحتاجُ إلى مجاهدة!..
٥- أن المصلي عندما يكبر؛ رب العالمين يقبلُ عليه، ولا يرفع التفاتتهُ عنه إلا إذا رفع المصلي نظره عن المولى.
٦- أن الذي ينجح في الركوع، يؤهل لأن يكون ناجحاً في سجوده.
٧- إن الصبر على المصيبة شيء، والرضا بقضاء الله وقدره شيءٌ آخر؛ والإنسان عندما لا يرضى بقضاء الله وقدره وإن صبر فهو بلسان حاله يتهم الله جل وعلا.
٨- البعض يستعجل في صلاته، فيحذف الصلاة على النبي وآله.. بينما الصلاة على النبي وآله (ص) من موجبات قبول الصلوات.
٩- أن الإنسان عندما يصلي، ويحمد الله عز وجل، ويصلي على النبي وآله، ثم يطلب حاجته، ثمَ يختمها بالصلاة؛ فإن هذا الدعاء لا يُرد أبداً.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.