أقسام الناس..
أولاً: في عالم الدنيا..
إن الناس في عالم الدنيا على أقسام:
القسم الأول: قسمٌ قانعٌ براتبٍ وظيفيّ مُتعارف.
القسم الثاني: قسمٌ لا يرضى إلا بالملايين، ولكن هذا الحرص غَيرُ مقبول، فصاحبهُ كدودة القَز: كُلما نسجت حولَ نفسِها؛ اقتربت مِنَ الهلاكِ أكثر!.. وهذا التمثيل يُفهم من رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) حيث يقول: (مَثَل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ؛ كلّما ازدادت من القزّ على نفسها لفاّ، كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً).
ثانياً: في عالم المعنى..
إن الناس أيضاً بالنسبة إلى عالم التكامُل على أقسام، ولكنّ هناك قسماً خارج هذه الدائرة، لا يرى نفسَهُ عَبدَاً!.. فكلمة الحرية والديمقراطية وغيرها من المصطلحات، لابدَ أن تصبَ في قالب الشريعة.. فالإنسان بالنسبةِ للغَير هو حر (متى استعبدتم الناس وقَد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)!.. أما بالنسبة إلى الله عز وجل فلا معنى للحُرية هنا، فهو خُلقَ عَبداً للهِ عَزَّ وجل، ألا يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾؟!.. والعبودية عَكسُ الحُرية، وهي أيضاً درجات وأقسام:
القسم الأول: هذا القسم يكتفي بالحلال والحرام؛ أي: إذا رأى الحرامَ يتركهُ، وإذا رأى الواجبَ يفعله.. هذا القِسم من أهل الجَنّةِ قَطعَاً، وهَل دِخول الجَنّة إلا بترك الحرام وفِعل الواجب!..
القسم الثاني: هذا القسم يترقى عَن الدائرة الأولى، يُريد أن يكونَ مُتعبِداً زيادة عَن الواجبِ والحرام، بمعنى: أنه يقوم بعمل المستحبات، ويترك المكروهات. إذا رأى الأمرَ مكروهاً يتركه؛ لأن رَب العالمين لا يحبه، وإذا كان مستحباً يفعله؛ لأن رَب العالمين يحبه.. فنظره ليس على العقوبة؛ لأنَّه لا عقوبة في ترك المستحب، ولا عقوبة أيضاً في فعل المكروه.. هذا القِسمُ أيضاً في دائرة التعبُد الشرعي.
القسم الثالث: هذا القسم يتقدم خطوة إلى الأمام، ولكن كُلما مشينا في هذا الطريق قَلَّ الزبائن، كما يقول العلماء: “كُلما كَثُرت القيود؛ عَزَّ الوجود”!.. هذهِ هيَّ القاعدة: كُلما أكَثرنا من المواصفات قَلَت المصاديق. هذا القِسم لا يريد التَعبُد الشرعي فَقط، عينه ليست على ذاته وجوارحه، فالتَعبُد أمر مفروغٌ منه، هو عَبد هذا لا شَكَ فيه، ولكن لَهُ هِمّة، يريد عِمارة الباطن، وتخليته مِن كُلِ شاغلٍ سواه!..
عمارة الباطن..
إن هذا الشِعار شِعارٌ فضفاض؛ كبير وعريضٌ، لذا من يُريد الوصول إلى هذهِ المرحلة يحتاجُ إلى:
١. قابلية: أي قابلية من العبد.
٢. جاذبية: هذه الجاذبية من المولى.
وكلاهما مترابطان؛ أي: إن وجدت القابلية، وجدت الجاذبية!.. مثال ذلك: البَذرة في التُراب فيها قابلية، وجاذبية الأرض تسحَبُ الجذورَ إلى أسفل.
إن الحديث عن “الباطن” حديث تخصُصي، وقَد لا يعني للبعض شيئاً الآن، ولكن بَعدَ تقدّم العُمر، والاقتراب من عالم البرزخ، في السنوات العشر الأخيرِة من الحياة، يكتشف أنه كان من الغافلين.. فالإنسان عندما تُقبَض روحه، يُعطى مقاماً بمستوى الذي كانَ عليه عِندَ قَبض الروح؛ أي: إن عاش خَمسين سَنة في غَفلة، وفي السَنة الواحد والخمسين صار من أولياء الله الكِبار، فلو جاءه عِزرائيل في هذهِ السَنة؛ فإنه يعيش الأبدية على حساب هذهِ السَنة؛ لأنَّ خواتيم العَمل كانت على هذا المستوى المتألق.. والعَكسُ أيضاً صحيح: لو عاش خمسين سَنة وهو من أولياء اللهِ، وفي السَنة الواحد والخمسين هَبطَ مستواه وتعرض لانتكاسة، فلو جاءه عزرائيل في هذهِ السَنة؛ فإنه يعيش الأبدية على هذهِ الانتكاسة؛ ويالها من خَسارة!.. لذا فمن يريد أن يُنقي باطنهُ من كُلِّ شاغلٍّ سواه، ومن يُريد الكمال الخاص بَعدَ الجوارحِ والتَعبُد، لابُدَ أن يكون فيهِ هذهِ الخاصية؛ ألا وهي: قَلبٌ مشغولٌ مُحِب، وذِهنٌ مشغولٌ مُلتفت، بمعنى: عندما يُراجع قَلبَهُ لا يرى في القَلبِ محبوباً سِواه!.. أما بالنسبة إلى موقع الزوجة والأولاد، فهناك جوابان:
الجوابُ الأول: هُناكَ شَفقة على الأولاد؛ لأن الحُب بالمعنى الحقيقي لا يتقسَم، هذا وقفٌ للهِ عَزَّ وجل، يقول الإمام الصادقِ (عليهِ السلام): (القَلبُ حَرَمُ الله، فلا تُسكِن حَرَم الله غَيرَ الله)؛ أي هذا حَرمٌ إلهي، القَلبُ خُلِقَ ليكونَ مَحلّاً لحُب اللهِ عَزَّ وجل!.. وعليه، فإن الحُب المستولي على القَلب، لا يكونُ إلا للهِ سبحانه وتعالى.
الجواب الثاني: هُناكَ حُبٌ للأولادِ والزَوجة، ولكن هذا الحُب مُستَمدٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجل؛ أي: أن رَب العالمين أمر الإنسان بمحبة الزوجةِ والأولاد؛ فأحبهم!.. لذا، لو ليسَ عنده إلا وَلد واحد، وهو في غاية الجَمالِ والكمال، ونَطقَ بكلمةِ الكُفر أمامه، هذا الوَلد لو أُقيمَ عليهِ القِصاص بعنوان “المُرتَد”، فإنه ينظر إليه ولا يعنيه أمره، بل يفرح بقتله؛ لأنَّ هذا الإنسان خَرجَ من دائرة المَحبة الإلهية.
فإذن، إن كانَ حُب الأولاد والزوجة من هذه الزاوية؛ فهذا أمرٌ جَيد!.. أما بالنسبة إلى الخاصية التي يجب أن يتمتع بها من يريد الكمال الخاص:
أولاً: قلب مشغول محب.. إن الزوج الذي يحب زوجته لأنّها فقط زوجته، ولو زادَت إيماناً وتقوى، كأن يراها تُقيم الليل بينما هو نائم، فإنْ لم يزدد حُبّه لَها، فليعلم أن حبّه ليسَ للهِ عَزَّ وجل؛ لأنه لو كان يُحبّها للهِ عزَّ وجل، من المفروض أن يزداد حُبّه لها؛ لأنها ترَقَت.. المؤمن قلبهُ هكذا.
ثانياً: بال مشغول ملتفت.. إن الإنسان الموزَع الذي لا يذكر الله عَزَّ وجل إلا في الصلوات، وعندَ الطواف، وفي عَصرِ عَرَفة؛ هذا إنسان باطنهُ بَعيدٌ عَن اللهِ عَزَّ وجل!.. أما صاحب الكَمال والسَيرِ إلى اللهِ عَزَّ وجل؛ قلبهُ ممتلئٌ حُباً، وذهنهُ مشغولٌ بمولاه!.. من الطبيعي إذا كانَ القَلبُ والذهنُ مشغولين، فإن اللسان يَلهجُ بذكره، والجوارح تتبعُ أوامره.
فإذن، هناك فَرقٌ بينَ التَعبد المَحض، والتعبد الذي يأتي من الذكرِ والحُب الإلهي، بينهما فَرقٌ كبير!.. فَرقُ بينَ التعبُد خوَفاً من النار وطمعاً في الحُور، وبينَ التَعبُد الذي يأتي من باب المَحبة!..
عاقبة العشق..
إن الإنسان الذي في مقام العَمل لا يُصفي فؤادهُ من هذهِ الأمور؛ أي بالهُ مشغولٌ بغيره، وقلبهُ مُتعلقٌ بسواه؛ فإن النتيجة هي ما ورد في الروايات التالية:
أولاً: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَنْ عَشقَ شَيئاً: أعْشَى بَصَره، وأمْرَضَ قَلْبَه!.. فَهْوَ يَنْظُر بِعَينٍ غَير صَحِيحَة، وَيَسْمَعُ بِأذنٍ غَير سَمِيعَة، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقلَه، وأمَاتَتْ الدُّنْيَا قَلْبَه)..
-(من عَشِقَ شيئاً: أعشى بَصره).. أي عَشِقَ شيئاً في مُقابل اللهِ عَزَّ وجل.. فالتاجر المؤمن لا يعشَق المال، هو يُتاجِر ولكنه لا يفرح رَبِحَ أم لم يربَح!.. بعض الأوقات المؤمن إذا وصلَ إلى درجة عالية من الكمال، لو احترقَ ماله، في قلبهِ لا يحزَن بَل في أعماقِ قلبهِ قَد يفرحُ قليلاً أو كَثيراً، يقول: يا رَب أخذتَ مني مالَ الدُنيا ستعوضني خَيراً، أليس هو القائل: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾؟!.. شتان ما بين بضاعتين: بضاعة تُباع في السوق، وبضاعة يخسرها الإنسان، فيُنزل عليه رَب العالمين الرحمة والمغفرة لخسرانه لها!..
-(وأمْرَضَ قَلْبَه).. أي أن قلبه مُضطرب، فعشاق الهوى المُحرم من أكثر الناسِ اضطراباً؛ لأنّهم يخشون في كُلِّ آن من ضياع المحبوب!.. وأصحاب الرئاسة والمقامات أكثر الناسِ قَلَقاً؛ لأنهم يخشون من زوالِ مُلكهم!.. وأصحاب الأموال الكَثيرة أكثر الناسِ قَلَقاً واضطرابا حتى المؤمنين؛ فهم إن كانوا تجاراً سيكون بالهم مشغولاً ببضاعتهم التي شُحنت من بلاد بعيدة في باخرة -مثلا- ولا يعلمون هل تصل الباخرة سالمة أم لا!.. وإن وصلت سالمة؛ هَل السوق يستوعب البضاعة أم لا؟.. وإن استوعَب؛ هل الربح يُعتدُ بهِ أم لا؟.. فإلى أن تصل البضاعة وتُباع، أي لمدة شهر أو شهرين، وهم يعيشون أعظم القَلق؛ هذهِ هي طبيعة الدُنيا!..
-(فَهْوَ يَنْظُر بِعَينٍ غَير صَحِيحَة، وَيَسْمَعُ بِأذنٍ غَير سَمِيعَة؛ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقلَه، وأمَاتَتْ الدُّنْيَا قَلْبَه).. مثال ذلك: الشاب الذي يتعب أبواه في تربيته، فيتعلق بفتاة لا تناسبه؛ فتاة في منبت السوء، أو على غَيرِ مِلة الإسلام، وإذا به يتصرف كالمجانين: يبيعُ دينَهُ ودُنياه، يبيعُ والديه وأسرته، بَل يبيعُ وطنه!.. البَعضُ يُهاجِر إلى بلادٍ بَعيدة، وينقطعُ عَن وطنه، فيخرج أولادُهُ من الدين كما نُلاحظ في بعض بلاد المَهجَر. إذن هذا لا عقلَ لَه (خَرقَت الشهواتُ عَقلَه، وأماتت الدُنيا قَلبَه).
ثانياً: سئل الصادق (عليه السلام) عن العشق فقال: (قلوبٌ خلت عن ذكر الله؛ فأذاقها الله حبّ غيره)!..
-(سئل عن العشق).. المُراد بـ”العِشق” هنا عشق الفانيات، ومنها هذهِ الوجوه الحِسان.
-(قلوبٌ خلت عن ذكر الله).. أي هذا القَلب صارَ خالياً، هذا المكان أو هذهِ المساحة التي أمامَ المنزل، كانَ من المفترض أن تُزرعَ بالريحان والورود، ولكن بما أنها لم تُزرع، فإن الناس يرمون فيها النفايات.. فمدخل البَيت: إما أن يكون حديقة غناء، وإما أن يكون مكباً للنفايات.. وهذا أمر طبيعي: أن الأرض التي لا تُستثمر ولا تُزرع بالورود، تُرمى فيها القمامة.
-(فأذاقها الله حبّ غيره).. إن القَلب الذي خلا من حُب اللهِ عَزَّ وجل، يذيقهُ اللهُ حُبَّ غَيره!.. ولكن المسألة ليسَ فيها جَبر، فرَبُ العالمين إذا أرادَ أن يخذُل إنساناً؛ يرفَعُ عنه الحَصانة، فينتهي الأمر!.. وإن أراد به خيراً، يربط على قلبه فلا يميلُ إلى الحرام، ألا يقول تعالى: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾!.. ولكن إذا أرادَ له الخِذلان يرفَعُ عنه هذهِ المزايا، وإذا به من أولِ نَظرة يقع في حُب الحرام، ويجعل في قلبه حُبَّ غيره.. أحد المؤمنين كانت لَهُ امرأة مؤمنة بمستوىً جَيد، ومظهَر حَسَن، ولكن قلبه تعلقّ بمن لا تستحق المحبة؛ فسُلبت منه الزوجة، وسُلبت منه الذُريّة، وكانَ آخر أمرهِ فُرطا، وانحرفَ عن الطريق المستقيم؛ هذا هو الخِذلان، وهذهِ عاقبةُ الانحراف عَن طريقِ رَب العالمين!..
ثالثاً: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بلسان فيه عِتابٌ بَليغ، يقول: (الهِجرانُ عُقوبَةُ العِشقِ)!.. أحياناً يتعلق إنسان بامرأة، ثُمَّ ينفَصِل عنها، فيراها بَعدَ عشرين أو ثلاثين سَنة، وإذا بِها عجوز شمطاء، ذَهبَ جمالها، وذَهَبت زينتُها، فيستغرب من نفسه، كيف علّق قلبه على أمرٍ زالَ في الدُنيا قَبلَ الآخرة، هذه العجوز الشمطاء هِيَّ التي كان يهواها قَبلَ ثلاثينَ سَنة، وعَمل ما عَمل لأجلِها، فيشعر في الدُنيا بحسرة وأيّما حَسرة!..
سبب العشق..
هذا العشق من أين يأتي؟..
١. روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (رُبَّ صَبابَةٍ غُرِسَت مِن لَحظَةٍ).. لذا، ينبغي للشباب الذينَ يشتكونَ هذهِ الأيام من الغليان الباطني، أن يراقبوا أنفسهم، ويغضوا بصرهم.
٢. روي أيضاً عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (من غض طرفه؛ أراح قلبه)!.. من يُسيطر على العَين، يصبح قلبه نَظيفاً لا انشغال فيه؛ لأن حَوض القَلب مرتبطٌ بالروافد، فالرافِد القَذِر يجعل القَلبَ قَذراً!.. يقول تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، فالذي يغضُ بصره يبقى قلبهُ سَليماً.
جزاء العفة..
إن الإنسان العَفيف الذي تعرضَ لِما تعرضَ لَهُ يُوسف (عليه السلام) فعَفَ، وكَتمَ شهوته، هذا جائزتهُ واحدة، كما جاء الأحاديث الشريفة، ولكن يالها من جائزة!..
١. روي عَن النَبي الأكرم (صلی الله عليه) أنه قال: (مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ، ثُمَّ مَاتَ، مَاتَ شَهِيدًا).
٢. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ).. أي: قَدِرَ على الحرام، وكل الأمور كانت مهيأة له، مثل يوسف (عليه السلام) حيث ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾، هذا الإنسان في حكم الشَهيد، وإن لم يمت شَهيداً؛ هنيئاً لمن وصلَ إلى هذا المقام!..
٣. عن النبي (صلی الله عليه): يَقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (إذا كانَ الغالِبُ عَلَى العَبدِ الاشتِغالَ بي: جَعَلتُ بُغيَتَهُ ولَذَّتَهُ في ذِكري، فَإِذا جَعَلتُ بُغيَتَهُ ولَذَّتَهُ في ذِكري؛ عَشِقَني وعَشِقتُهُ، فَإِذا عَشِقَني وعَشِقتُهُ؛ رَفَعتُ الحِجابَ فيما بَيني وبَينَهُ، وصَيَّرتُ ذلِكَ تَغالُباً عَلَيهِ، لا يَسهو إذا سَهَا النّاسُ، اُولئِكَ كَلامُهُم كَلامُ الأَنبِياءِ، اُولئِكَ الأبطالُ حَقّاً)..
-(جعلتُ بُغيتهُ ولذته في ذكري).. انتهى الأمر!.. أولياءُ الله يتلذذون بذِكر اللهِ عَزَّ وجل، تَلَذُذ لا قضية قربة، كُلُّ ليلة عِندَهُ ليلة سعيدة، الشباب لَهم شَهرُ عَسَل، أما المؤمن فعمره كله عَسَل، كُل ليلة لَهُ لَذة، “أينَ المِلوك وأينَ أبناءُ المِلوك من هذهِ اللَذَة”؟!.. هكذا كانَ يصيحُ قائلهم في جوف الليل، إلى ساعة الاحتضار وهو يعيش هذه المشاعر وهذهِ اللذائذ، فشتان ما بين لَذة الأبدانِ ولَذةُ الأرواحِ!.. الناسُ لَذتهم في مَلبَسٍ ناعم، وفي قطعةِ حلوى لذيذة، و..الخ.. ولكنَ الولي يعيشُ لَذةً متصلة، في كُلِّ آن يعيشُ لَذةً، وهُناكَ عِبارة في كُتب أهل المعرفة تقول: “لا تكرارَ في التجلي”؛ أي: صلاة الليلة غَير البارحة، وصلاة ظُهرِ اليَوم غَيرَ هذهِ الليلة، في كُلِّ صلاةِ لَذة، ولهذا الذينَ اكتشفوا هذا المنجم لم يقفوا عند حَد.
-(فإذا عشقني وعشقته؛ رفعتُ الحِجاب فيما بيني وبينَه).. ماذا يجري في هذهِ المَرحلة، اللهُ أعلم ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾!.. المؤمن يتلذذ بهذهِ المعاني؛ لأن من يتلذذ بحُبهِ وذكرهِ في الدُنيا؛ يتلَذَذُ بِهما في البَرزَخ، ومَن يتلّذَذَ بهِ في البَرزخ؛ يتلّذَذَ بهِ في عرصات القيامة، ومَن يصل إلى هذا المقام؛ هو في جَنّةٍ متصلة من الآن إلى أبد الآبدين!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.