– إن الناس هذه الأيام لا يحتملون الأحاديث المطولة، والخطب الطويلة.. ولكن لم لا نجلس على مائدة علي -عليه السلام- في خطبه القصيرة؟!.. هذه الكلمات الحكمية التي تفرد بها علي -صلوات الله وسلامه عليه-، فنهج علي في بيان الفكرة، نهج متميز.. ومن هنا نلاحظ هذا الامتياز لنهج البلاغة.
– إن عليا -عليه السلام- يقول: (أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره).. أولاً: المراد بأزرى بنفسه؛ أي حقرها، وأهانها.. ثانياً: من الأشياء المؤسفة، أن الفرد يفكر في كل شيء: من تجارة مربحة، وزوجة مؤمنة -للمؤمنين-، أو فقط جميلة -لغير المؤمنين-، وحياة وادعة، وثروة متراكمة، ومنصب يعتد به، وذرية كثيرة.. ولكن كل هذه الاهتمامات، هي خارج دائرة النفس.. والحال بأن المكلف هي النفس، والتي تكرم في البرزخ والقيامة هي النفس، والتي تأتي الرب وحيدةً فريدةً كما خلقنا أول مرة هي النفس.. فإذن، هذه النفس هي مادة السعادة والشقاء.. وهذا البدن الذي ننعمه ونعالجه ونكرمه؛ هو في النهاية لقمة سائغة لديدان الأرض.
– إن الإنسان بدلاً من أن يفكر في متعة هذا البدن، عليه أن يفكر في النفس؛ فهذا البدن ما قيمته حتى نفكر في مُتعه؟.. وهذا البدن له شؤون كثيرة منها: الطعام، والشراب، وغيرها من الشهوات.. وعلي -عليه السلام- كأنه يُريد أن ينقلنا إلى هذه النقطة: أن يجعل الإنسان نفسه محور الاهتمام.. قد يقول قائل: أين الاهتمام بالمجتمع؟.. أولاً: ابدأ بهذه النفس، هذه النفس إن قدرت عليها، كنت على غيرها أقدر.. فالإنسان الذي لم يصلح أمر نفسه، كيف يصلح زوجته؟.. هناك بعض المؤمنات يشتكين من سلوك أزواجهن السيئ معهن، رغم أن الزوج قد يكون له صيت في المجتمع، ومشرف منتدى إسلامي مثلاً، وفي قريته يضرب به المثل في التقوى.. ولكن هي تقول -معنى كلامها-: لو كانت هذه الجامعة صحيحة، ولو كان الذي يقتدي به، والذي يروج له، والذي ينشد في حقه، والذي يُبكي الناس في مُناسبته، إذا كان هذا هو الدين صحيح.. فلماذا لم يُرب زوجي هذا في خلواته، وفي تعامله؟..
– إن الإمام -عليه السلام- يقول: (أزرى بنفسه من استشعر الطمع)؛ أي حقرها من عاش حالة الطمع.. السؤال هنا: ما الفرق بين الطمع وبين الطموح؟.. هي كلمات متشابهة، هذا فيه عين وذاك فيه حاء!.. الطموح ممدوح عليه صاحبه، والطمع مذموم!..
أولاً: الطموح: إن الفارق بكلمة واحدة، فرق بين إنسان يطمح في حياته، يطمح في أن يعيش حياة مادية مريحة، لأهداف شتى منها: أن يكفيه الله -عز وجل- شر الاحتياج إلى الخلق، إن الذي يعيش حالة استجداء الناس، إذا كان ابتلاء من الله فأكرم به!.. ولكن عادةً يكون نتيجة التقاعس أيام الشباب، فهذه نتيجة عدم الجدية في الحياة، وعدم التخطيط للمستقبل.. وعندما نلاحظ حياة البعض منهم، نرى أنه كان في حالة جيدة، إلا أنه بالحرام والقمار والمخدرات وما شابه ذلك، وصل لهذه الحالة التعيسة.. فإذن، إن المؤمن في سعيه الدنيوي، هدفه أن يستغني عن شرار الخلق، لأنه -صلى الله عليه وآله وسلم- سمع عليا يقول: (اللهم!.. أغننا عن خلقك، فقال: لا تقل هكذا، فإن الخلق يحتاج بعضهم إلى بعض، ولكن قل: اللهم!.. أغننا عن شرار خلقك)!..
– إن الإنسان المؤمن السائر إلى الله -عز وجل-، له سبيل إلى ربه، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.. فالإنسان المؤمن في حركته الدائبة إلى الله -عز وجل- يحاول أن يخفف، ويمتص، بل يلغي كل مصادر التشويش في حياته.. فهو إنسان غير متفرغ، ليدخل كل يوم في نزاع مع الآخرين.. إذا جاء من المحكمة وهو في عراك مع خصمه ومع القاضي، هذا الإنسان كيف يصلي صلاة خاشعة؟.. والذي يدخل إلى المنزل، وتستقبله الزوجة بكلمات نابية، هذا الإنسان يصلي وهو يفكر كيف يؤدبها بعد صلاته: بفعلٍِ، أو بقول، أو ما شابه ذلك.. ولعله في أثناء الصلاة سهواً، يتلفظ بألفاظ على زوجته -مثلاً- إذا بلغ به ما بلغ.
– إن من موجبات الاستقرار في الحركة الروحية إلى الله -عز وجل- انتفاء المشوشات.. رحم الله سلمان المحمدي، هذا التلميذ الأول لمدرسة النبي وأمير المؤمنين -عليهم السلام- حيث يقول: {إن النفس قد تلتاث على صاحبها، إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه.. فإذا هي أحرزت معيشتها، اطمأنت}.. فالإنسان إذا لم يكن عنده قوت السنة، من الطبيعي أن يفكر في رزقه.. ولهذا قال الرسول الأكرم (ص): (من لا معاش له، لا معاد له).
فإذن، إن الطموح أمر جيد!.. والذين يريدون أن يتفرغوا في الثلث الأخير من حياتهم للعبادة، وخدمة الخلق في سنوات التقاعد، عليهم أن يكدوا ويجتهدوا أيام الشباب الأولى، حتى يكون لهم رأس مال.. وعندها يستطيع السفر للمشاهد المشرفة، أو يقوم بدعم المشاريع الإسلامية، وخدمة المؤمنين.. نعم هذا هو الطموح!..
ثانياً: الطمع: إن الطمع حالة مرضية، وهو أن تطلب المال لأجل المال؛ فيكون المال هدفا، لا وسيلة.. كم يبلغ بالإنسان من قلة العقل والتدبير، أن يرى ارتفاع رصيد أمواله في بنوك سويسرا وغيرها -مثلاً- مزية له، وهو جالس لا يحول ماله لا إلى خير، ولا إلى لذة.. فقط يراقب الأرقام، وكيف تتصاعد شهرا بعد شهر!.. هذا هو الطمع الذي يوجد حقارة النفس.. بعض الظرفاء ألفوا بعض المقالات والكتب عن حالات البخلاء في التاريخ، يصل الأمر إلى درجة مضحكة جداً.. وهذا الأمر يبلغ مداه عندما ينتقل الإنسان من هذه النشأة، ليرى أن كفة حسناته مع سيئاته متوازية، ويحتاج إلى درهم واحد ليدخله الجنة.. فلو أن له صدقة جارية في الحياة الدنيا، أو لو ترك ولداً صالحاً يدعو له، أو علماً نافعاً بين يدي الناس؛ لأنقذه مما هو فيه!..
– إن الإنسان المؤمن إنسان دؤوب في حياته، (كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، فقال: هل له حرفة؟.. فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني.. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟!.. قال: لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة، يعيش بدينه).. البطالة التي لا يكون فيها الإنسان مقصراً، لا البطالة التي لا حيلة فيها.. ذلك أمر آخر.
– إن عليا -عليه السلام- جعل النفس مصباً للحديث (ورضي بالذل، من كشف عن ضره).. قد ترى إنسانا -حسب الظاهر- مرتاحا ومستقرا، ولكن عندما تدخل في عمق حياته، أو عندما يشكو إليك همه.. تراه متورطا في مصيبة من المصائب: إما في ماله، وإما في بدنه، وإما في أهله، وإما في ولده، وإما في والديه، وإما في وسوسته.. وقد تكون جميع أمور الحياة متسعة له، ولكنه يصاب -مثلاً- بالوسواس القهري، فيعيش عالم الخيال والوهم.. إن بناء رب العالمين، ألا يرخي الحبل لعباده، وإلا طغوا في الأرض {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}.. لماذا يكشف الإنسان أوراقه لكل أحد؟.. هب أن الإنسان مبتلى!.. فإن الخطوة الأولى قبل أن يشكو همومه للناس، عليه أن يلتجئ لرب العالمين، كما في دعاء المشلول: (يا جاري اللصيق!.. يا ركني الوثيق!.. يا إلهي بالتحقيق!.. يا رب البيت العتيق!.. يا شفيق يا رفيق!.. فكني من حلق المضيق، واصرف عني كل هم وغم وضيق، واكفني شر ما لا أطيق، وأعني على ما أطيق)!.. يشهد الله -عز وجل- لو أن أحدا قرأ هذه الفقرات مرة واحدة بتوجه، فإنه لا يحتاج إلى ورد ألف مرة، يقرأه أربعين يوماً.. فقط يقرأها مرة واحدة، وهو يستشعر هذا الحنان الإلهي، وخاصة إذا كان عند الحطيم، أو تحت الميزاب، أو في الطواف، أو في السعي، أو تحت قبة الحسين -عليه السلام-.. لو قالها مرة واحدة بإنابة وبانقطاع إلى الله -سبحانه وتعالى-، فإن الأبواب تفتح له على مصراعيها!..
– إن المشكلة هي أننا نتعامل مع الله -عز وجل- على أنه منتقم جبار، ولا نتعامل معه على أنه أقرب إلينا من حبل الوريد.. إن الأمومة معنى من ألطف معاني الوجود، ولكن هذه الأمومة ممن؟.. هي شعبة من رحمة الله عز وجل، يقول الإمام الحسين (ع): {وعطفت علي قلوب الحواضن، وكفلتني الأمهات الرواحم}.. هذا الحنان؛ حنان الأمومة، بعض الحيوانات في الأدغال كالأسد هذا الحيوان المفترس، الذي لا يرحم حيواناً، عندما يصل إلى أشباله يتواضع، واللبوة عندما تصل إلى أطفالها، وكأنها هرة بين أيديهم.. وهذا النسر أو هذا العقاب الذي يختطف الحيوان من الأرض برجليه ويطير، يأتي إلى العش ليجعل الطعام في فم الفراخ؛ يزق الطعام زقاً.. فحنان الأسد في الأدغال، وحنان العقاب والنسر في العش، وحنان الأمهات على أطفالهن؛ كل ذلك شعبة من رحمة الله -عز وجل- فكيف بالحنان الإلهي؟..
– إن الحنان الإلهي لعبده يظهر كذلك يوم القيامة، عندما يجتاز العبد مراحل المحاكمة الإلهية، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}.. يأتي يوم القيامة حاملاً ثقله على ظهره، تتطاير الكتب، وبعد الامتحان توزع الشهادات: شهادات النجاح، مكتوب على شهادة النجاح: مقبول للأبدية في الجنة، يا لها من شهادة قيمة!.. فهو خالد في جنان الخلد، (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت)، فهذا الإنسان حي لا يموت بإذن الله.. وإنسان يأخذ كتابه بشماله، مسود الوجه، يريد أن يتحدث مع ربه، لا يؤذن له.. ويربط بسلاسل عرصات القيامة، وهي سلاسل مجرد الاقتراب منها هو عين العذاب!.. فكيف إذا لُف بها الإنسان، وأدخل أبواب جهنم التي عليها ملائكة غلاظ شداد؟.. ملائكة الله، هذه الوجودات النورية اللطيفة، تتحول إلى وجودات غليظة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.. فلينظر الإنسان إلى الحنان الإلهي!.. لو كل العبيد يوم القيامة مثل هذا العبد!.. عن الرسول الأكرم (ص): (إن آخر عبد يؤمر به إلى النار، فإذا أمر به إلى النار التفت فيقول: الله -عز وجل-: أعجلوه!.. فإذا أتي به قال له: عبدي!.. لم التفت؟.. فيقول: يا رب، ما كان ظني بك هذا!.. فيقول الله -جل جلاله-: عبدي، وما كان ظنك بي؟.. فيقول: يا رب، كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني جنتك.. فيقول الله الجبار -جل وعلا-: يا ملائكتي!.. وعزتي، وآلائي، وبلائي، وجلالي، وعلوي، وارتفاع مكاني!.. ما ظن بي عبدي ساعة من حياته خيرا قط، ولو ظن بي ساعة من حياته خيرا، ما روعته بالنار!.. أجيزوا له كذبه، وأدخلوه الجنة).. بعض الناس يتفاجئ بجهنم!.. إذ أن هناك أناسا في الدنيا ضامن جهنم لسوء عمله، ولكن {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، هنا المصيبة!.. فهذا الإنسان يمشي في طريق غير مستقيم، وهو يظن أنه يسير على الطريق المستقيم.
فإذن، إن عليا (ع) يقول: (ورضي بالذل، من كشف عن ضره)؛ أي على الإنسان أن يقدم شكواه إلى رب العالمين.. ولكن في نفس الوقت، عليه أن يختار من عباد الله الصالحين من يمكن أن يجري الخير على يديه.
– إن من أفضل الطرق للوصول إلى الله -عز وجل- خدمة العباد، فيكون بذلك مظهرا للخير على وجه الأرض.. قال موسى (ع) -مضمون الرواية-: (يا رب!.. إذا كنت عبداً ما كنت تصنع؟.. وإذا بالجواب يأتيه: لو كنت عبداً، لخدمت العباد)!.. وخدمة العباد لا تحتاج إلى خزائن الأرض، أو إلى حسابات سرية في البنوك، ليس الأمر كذلك!.. وإنما خدمة العباد قد تكون من خلال كلمة يفرج بها الإنسان عن أخيه المؤمن، أو إنسان ضال يأخذ بيده، وعندما يأتي إلى إحياء ليلة القدر، فليأخذ بيد إخوانه وأخواته وأقربائه!.. لماذا يأكل هذا الخير وحده؟.. فليأخذ بيد هؤلاء، نعم هذا هو الخير الذي يجريه الله على يد المؤمن.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.