الاختلاف..
إن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي، فرب العالمين لم يخلق العقول متشابهة.. وكما أنه لا تعدد في بصمة يد الإنسان، كذلك لا تطابق في أفكاره.. وعليه، فإن الجَدل حالة طبيعية، ولكنه لا يعني بالضرورة حالة المقارعة والمخاصمة؛ إنما المقصود به -كما في اصطلاح اليوم- “المناقشة”.. فالبعض همه بطنهُ وفرجه، كما نرى بعض القبائل المتخلفة في الغابات، هؤلاءِ هيكلهم هيكل بشري، ولكن واقعهم واقع حيواني، لا فرقَ بينهم وبينَ باقي الدواب: فكما أن الحيوان يأكل ليتناسل وليعيش ويعيش ليأكل، كذلك بعض الناس هذا منطقه، وهذهِ فلسفتهُ في الحياة.. ولكن البعض لهُ رؤية للحياة، ولهُ فلسفة وفِكر: سواء حقاً كانَ أو باطلاً.. لدرجة أن بعض المكتشفين والمخترعين أثناء البحث والكشف عن الحقائق، يذهلُ عن نفسه فيغمى عليه لعدم تناوله الطعام.. وهذا الأمر ممكن؛ فبني آدم إذا غَلبَ عليهِ هَمٌ في الحياة يُعطيهِ كُلَّ انتباهه.
الجبن الفكري..
إن الاختلاف في: الأفكار، والرؤى، والنظريات، وفي تقييم الأمور؛ هذا أمرٌ قهريٌ لا خِلافَ فيه!.. لأنه لا يمكن أن يكون هناك شخصان متطابقان في كُل الرؤى والأفكار!.. إلى هنا الظاهرة صحية لا ضير فيها، لأن الذي لا يُدافعُ عن رأيه، والذي يخاف من الدخول في نقاشٍ معَ الغير، هذا إنسانٌ: مهزوز، لا يقينَ له، جبانٌ فكرياً.. فكما أن هنالكَ جباناً في ميادين القتال، هنالك إنسان جبان في مقام البحث العلمي، لا يبحث معَ الغير؛ لئلا يكتشف خطأَ ما هو فيه.. والله العالم أنَ سلبيات هذا الجُبن لا يقلُ عن سلبيات الجبن في عالم القتال؛ لأن القتال يكون في العُمرِ مرة معَ حضور الإمام مثلاً، أما هذا الأمر فهو مورد ابتلاء دائم للإنسان.
الجدال..
يقول تعالى في سورة الحَج: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.. ولكن بفاصل بضع آيات يتغير اللحن، فيقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾..
۱. الآية الأولى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.. يبدو من سياقَ الآية أنها تتحدث عن المقلدين -بكسر اللام- إذ أن بعض الناس لا عِلمَ له، فيُقلد تقليداً أعمى، لذا يقول عز وجل: ﴿ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.. فالبعض عندما يتكلم لا يتكلم من تلقاءِ نفسه، إنما الشيطان هو الذي يوحي إليه، فكما أن المَلك يوحي للأنبياء، وكما أن البعض مسدد في الكلام -فرب العالمين يُلهم عبدهُ المؤمن، لا كإلهام الأنبياء، بل كما قَذفَ في قلبِ أمِ موسى، وكما أوحى إلى النحل، وبما أن المؤمن أشرف عندَ الله عز وجل من النحلِ وغيرِ النحل؛ فكيف لا يسددهُ في الكلام؟!..- كذلك الشياطين أيضاً تغوي البعض، كما في قوله تعالى:
أ- ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾.. أنْ يوحي الشيطان للإنسان؛ فهذا معنى واضح!.. إذ من الممكن أن يسمع الشيطان مقالةً باطالةً من إنسيّ شيطاني، فينقلها إلى باقي الإنس، مثله مثل بعض الجراثيم الحاملة للجراثيم الأخرى.. أي بالإضافة إلى أن الشيطان لهُ خبرة في إغواءِ بني آدم، إلا أنه يستمعُ لأقوال الغاويين، ويأخذ من أفكارِهم وينشرها عندَ البعض الآخر، فهو ضالٌ ومضلٌ أيضاً.. ولكن الآية تقول: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾؛ فيمكن أن يستفاد من هذهِ الآية أنَ الإنس الشيطاني قد يوحي إلى الجن الشيطاني، والقُرآن الكريم هنا قدّم الإنس على الجن، فقال: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾.
ب- ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾.. إن صدر هذه الآية يحذر من تناول الطعام الحرام، الذي لم يذكر اسم اللهِ عليه.. وإذا بها تنتقل من الأكل الحرام إلى إيحاء الشياطين للمجادلين.. أي أن هذا المُجادل الذي يمشي على غير هُدىً ولا كتابٍ مُنير ولا عِلم، هذا إنسان توحي إليه الشياطين.. واللهُ العالم لعلَ الآية تُشير إلى أن هناك ارتباطاً بينَ أكل الحرام والسُحت، وبينَ الجدال بالباطل!..
۲. الآية الثانية: يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.. قيل في هذه الآية أنها نزلت في المتبوعين، كما ورد في تفسير الميزان: “قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾، صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر في النظم والأوفق للمقام، أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام، والآية السابقة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ﴾ قوله: ﴿مَّرِيدٍ﴾ في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.. وهو كذلك بدليل قوله هنا ذيلاً: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله هناك: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾؛ والإضلال من شأن المقلد بفتح اللام، والاتباع من شأن المقلد بكسر اللام”.
طرقُ المعرفة:
إن هذه الآية الكريمة تذكر ثلاثة طرق للمعرفة، ألا وهي: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾..
۱. التدبر.. إن بعض الناس يأخذُ عِلمهُ من عقله، ومن تدبره، ومن التأمل.. فبني آدم حيوانُ ناطق، ولكن ليس كنطق الببغاء، إنما ناطقٌ مُفكر.. وهذه الخصوصية هي هبة من رب العالمين للإنسان.
۲. التسديد الباطني.. إن البعض يُعبر عن “الهدى” بالتسديد القلبي، أو انكشاف الباطن، أو الحكمة اللقمانية.. فلقمان كانَ يتدبر، ولكن بعض المعاني كانت تُلقى إليه إلقاءً.
۳. االعلم النوراني.. أي اتباع أقوال الآخرين، وعلى رأسِها كلام رَب العالمين في كتبهِ السماوية.
وعليه، فإن طريق المعرفة هي: التدبر، والحكمة الباطنية، واتباع الكتاب المُنير.. فبعض الناس يُجادل، رغم أنه لا عِلمَ له، ولا تدبرَ له، وقلبهُ مُظلم، ولا يتلقى الحكمة والحَق، ولا يتبعُ الكتابَ المُنير.. هو لا يعلمُ الكتاب، ليعلمَ إنارة الكتاب!.. والكتاب المُنير يعني كلامُ رَب العالمين، ومن هو حُجةٌ على الخَلقِ أجمعين؛ أي كلامُ نبيهِ المصطفى مُحمدٍ (صلی الله علیه)، ويُعطفُ على النبي عترتهِ (عليهم السلام) لقوله (صلی الله علیه): (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)!.. فالذي يُريد أن يُجادل بغير عِلم، وبغير تسديد، وبغير اتباع الكتابِ والسُنة؛ فإنه يُضلُ عن سبيل الله.. فإذن، إن هناك أصنافاً من المجادلين عرفتهم آيات الكتاب الحكيم، هم:
أ- المجادلون عن جهل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.
ب- المجادلون عن كبر ٍ وتعالٍ على الغير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾.
ج- المجادلون لأجل هدف مقدس، وذلك للدعوة إلى سبيل الله تعالى، وتوعية المجتمع: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
قواعد الجدال على ضوءِ الكتابِ والسُنة..
القاعدة الأولى: التخصص.. إن أول قواعد الحوار السليم والهادف هو: التخصص في موضوع الحوار.. فمن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي يحترم فيه جميع العقلاء أرباب التخصص في الطب والهندسة وغير ذلك من فروع المعرفة، فإننا نرى في المقابل أن الكثيرين مستعدون للإدلاء بدلوهم في أمور الدين من دون سلطان مبين!.. إن الذي لا عِلمَ لهُ، عليهِ أن لا يُدلي بدلوه، لأنه إذا أرادَ أن يُجادل؛ فإنه من المُمكن أن يُبطل الحَق أكثر ممّا يُحقه، فيعطي صورة سلبية عن الحق الذي هو يمثله.. فإذن، يجب الابتعاد عن الجدال!.. وإن جادل فعليه أن يكون على مستوى من التخصص بأدنى صوره!..
القاعدة الثانية: التسلسل الهرمي.. يجب الابتعاد عن النقاش في الفروع قبل تثبيت الأصول!.. فالعقائد مسألة تلامس شغاف القلب، وقضية مرتبطة بالجذور الأساسية للإنسان، وإذا أردنا أن نناقش في الأبحاث العقائدية، فلا بد أن نلتفت إلى أن الأمر مرتبط بأعماق الوجود.. ففروع الدين تختلف عن أصول الدين، وتمسك الإنسان بالأصول هو تمسك بليغ؛ لأن قِوام الدين بالأصول!.. ولهذا فإنه لابد من النفوذ إلى قلب الطرف المقابل عند مناقشة أية مسألة عقائدية.. فإذا كان الشخص معتقداً بمقدس خطأً: لابد أولاً من رفع القداسة عما يعتقد، ثم إخراج ذلك الأمر من قلبه.. أما إذا كان هو يعتقد بقدسية شيء، وأخذنا في الهجوم على هذا الأمر المقدس دون أن نزلزل تلك الأصول؛ فإن هذا ليس من الأسلوب المنطقي في المجادلة.. فهل من المعقول مثلاً:
أ- أن نقنع المنكر لوجود الله تعالى بعدالته؟!..
ب- أن نقنع المنكر لنبوة النبي الخاتم (صلی الله علیه) بعصمته، فنناقش إنساناً نصرانياً بأن ﴿الم﴾ هذهِ جُملة مفيدة لها معنى، وهو لا يعترف بالقرآن أصلاً؟!.. نعم، إن استطعنا أن نثبت له بأن هذا الكتاب هو كتابُ رَب العالمين؛ واقتنع بذلك؛ عندئذ عليه أن يسلّم بأن ﴿الم﴾ هو كلامُ الرَب سواء فهم أم لم يفهم.. وبالتالي، فإن المناقشة في الأحرف المقطعة مع من ينكر القرآن؛ هذا ليس ببحث علمي أبداً!..
ج- أن نقنع المنكر لمبدأ الإمامة واستمرارية التشريع من خلالها، بفروع المذهب الثابتة من خلال كلمات أئمة الهدى (عليهم السلام): كالجمع بين الصلاتين، وسقوط قرص الشمس عند الإفطار، والتقية، والتبرك، والزواج المؤقت، والسجود على التربة، وغير ذلك من التفريعات الفقهية؟!.. إن كان هذا الإنسان لا يشتركُ معنا في الأصل؛ فلماذا نناقشه في الفروع؟.. فنحن كلامنا ينتهي إلى أنَ الصادقِ والباقر (عليهما السلام) قالا هذا الكلام، وهو لا يعترفُ بإمامتهما.. وبعضُ الأوقات ليس لنا دليل إلا قول الصادقِ والباقر؛ فكيف نجادل ونناقش إنساناً في هذا الفرع وهو لا يعترف بأهل البيت؟.. هذا ليسَ من المنطقِ أبداً!.. وبالتالي، فإنه علينا أن نبدأ بأصل الإمامة، ونبيّن الفارق بينَ الإمامةِ وغير الإمامة.. والفرق بين مدرسة النَص ومدرسة الاستحسانِ والقياس..الخ.. عندما نثبت أصل الطريق، عندئذٍ نعطيه رسالة عملية تمثل هذا الاتجاه!..
فإذن، يجب اتباع الهرمية في البحث العلمي، فلا ينتقل الإنسان إلى مُقدمةٍ مترتبةٍ على مُقدمةٍ سابقة؛ لأن الخَصم لا يُسلمُ بذلك.
القاعدة الثالثة: النيةُ الصادقة.. إن المؤمن يتحرز من الحوار مع من لا يريد الوصول إلى الحقيقة، فلا يجادل إلا المستفهم، والمتحير، والباحث عن الحقيقة.. حيث أن هناك صنفاً من السوفسطائيين يجادلون لهدف الجدال نفسه، فتراهم يتكلمون في كل ما هب ودب!.. وهناك من يحترف المجادلة رغبة منه في الدفاع عن عقيدته؛ فيفتح النقاش مع كل أحد؛ ولكن هذه حالة من حالات اللغو!.. أما بيان العقيدة؛ فإنه أمر يحتاج إلى نفوس مستعدة.. فالشخص الذي لا يعترف بك ولا بكلامك؛ لماذا تفتح معه أبواب النقاش والجدال؟!.. فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إنّ حديثكم هذا لتشمئز منه القلوب قلوب الرجال، فانبذوا إليهم نبذاً فمن أقرّ به فزيدوه، ومن أنكره فذروه)؛ أي عليك أولاً أن تكتشف نية الطرف المقابل، بأن تعطيه كلمات بسيطة، فإذا وجدته طالباً للمعرفة فأعطه المزيد.. والقُرآن الكريم يقول: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾؛ المُتكلم هنا هو رَب العالمين، فانظروا إلى المنطق الهادئ، هكذا يجب أن نتعلم فَنَ الجدال!..
القاعدة الرابعة: تجنّب التحدي.. إن البعض يُجادل وهو على الحَق، ولكن طبيعة الكلام تسوقُ الطرف الآخر إلى المكابرة والمعاندة، واستعمال المُقدمات الكاذبة.. فهو بذلك يبدأ بالحق وينتهي إلى الباطل، رغم أن نيته سليمة، ولكن عندما يتبع أسلوباً غير علمي فإنه يحيي الباطل ويُميت الحق، كما ذكر صاحب تفسير الميزان -الذي وفقهُ الله عزَ وجل لكتابةِ أفضلِ تفسيرِ لأفضلِ كتابٍ في تاريخ البشرية- فإنه عندما يصل للمجادلة؛ ينصح من منطلق الكتاب والسُنة، فيقول: “ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد، وسوقه إلى المكابرة واللجاج، واستعمال المقدمات الكاذبة، وإن تسلّمها الخصم إلا في المناقضة، ويحترز سوء التعبير والإِزراء بالخصم، وبما يقدّسه من الاعتقاد والسبّ والشتم وأي جهالة أُخرى.. فإن في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل؛ أي إماتة الحق كما عرفت.. والجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة، ولذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها، ولم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن، وقال أيضاُ: والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه”.
القاعدة الخامسة: ترك الجدال فيما لا يعني.. إن مشكلتنا نحنُ أيضاً هي الاختلاف معَ من نتفق معهُ في الأصول، وقد يكون أخاً نسباً وصُلباً.. فالبعض إن اختلف مع أخيه في مرجع التقليد؛ وإذا به لا يزوجه، وينتقص منه، وقد يصل الأمر أنه لا يصلي خلفه.. رغم أنه يشتركُ معه في كُل الكُليات، إلا أنّهُ يأخذُ أحكام الغُسل والتيمم والوضوء من فقيه آخر؛ فما هذا المنطق؟.. بينما الإمام الرضا (عليه السلام) يقول: (يا عبد العظيم!.. أبلغ عنّي أوليائي السلام، وقل لهم: أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة؛ فإنّ ذلك قربة إليّ.. ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً؛ فإنّي آليت على نفسي أنه مَن فعل ذلك، وأسخط ولياً من أوليائي، دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين…).
القاعدة السادسة: الالتزام بآداب الحوار.. إن النبي (صلی الله علیه) نهى عن الجدال، حيث قال: (ثلاث مَن لقي الله عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنّة من أي باب شاء: مَن حَسُن خُلُقه، وخشي الله في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقّاً)!.. ولكن الإمامُ العسكري (عليهِ السلام) يقول: ذُكر عند الصادق (عليهما السلام) الجدال في الدين، وأن رسول الله والأئمة المعصومين (عليهم السلام) قد نهوا عنه.. فقال الصادق (عليه السلام): لم ينه عنه مطلقاً، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾)؟!.. بينما البعض يدعو إلى سبيلِ ربه بالموعظة الخشنة لا الحسنة، فالأب الذي يعظ زوجته وأولاده وهو في قمة الفوران؛ تكون موعظته منفرة!.. لذا، فإن بعضَ الأولاد يرتكب خلاف قناعته إغاظة لأبيه الذي أهانه أمامَ الآخرين، فينتقم منه بأن يظهر بمظهرٍ غيرِ لائق.
القاعدة السابعة: تعيين الهدف من الدعوة.. يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي أن هذا السبيل هو سبيل الله تعالى، وليسَ سبيلاً شخصياً؛ فلمَ التوتر؟.. إن الإنسان الذي يجادلُ وهو في حال توتر، يكون ذلك جلباً للمال أو لمنفعة.. أما الذي يهمهُ أمر الدين؛ فإنه يكون مؤدباً في هذا المجال، فيطرح ما عنده بكل هدوء، ولا يذهب يميناً وشمالاً، ولا يغضب ولا يثار، ولا يكون ملكياً أكثر من الملك!.. فإذن، الذي يُجادل عليه أن يطرح ما معه من بضاعة على حسب المواصفات والشروط الشرعية، ولا يستميت في سبيل قبول الطرف الآخر لمقولته، يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾.
القاعدة الثامنة: الإلمام بطرق التبليغ.. إن هُناك ثلاثة طُرق لتبليغ الدين، وترويج سبيل رب العالمين، كما ورد في الآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى.. قال: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي أن الجدالُ على درجات، فهناك جدالٌ حَسن وهناك جدالٌ بالتي هيَ أحسن.. أما بالنسبة إلى الموعظة فقد قال: ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ لم يقل: الأحسن!.. لأن القضية ليست بتلكَ الخطورة، ولكن في الجدال العلمي إذا لم يتبع الإنسان الجدال بالتي هيَ أحسن؛ فمن المُمكن أن يشوه سُمعة الدين.
القاعدة التاسعة: التعلم والتفقه والتثقف.. في الوقت الذي نهى فيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن الجدال مع الخصوم بغير أدلة دامغة، لأن ذلك مما يزيد من عداوتهم وتعصبهم؛ فإنهم في الوقت نفسه يفرحون بوجود طبقة مثقفة متفقهة في الدين: تعرف ما هو مطروح في الساحة من أفكار وشبهات، وتحسن التصدي لها؛ إعزازاً لكلمة الحق في عصر عاد فيه الدين غريباً.. صحيح أن الإنسان الذي يتعلم معالمَ دينه، ويتثقف ويتفقه في الدين، قد لا يحصل على شيء في الدُنيا، ولكن أنظروا إلى جائزته يوم القيامة!.. يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (من أعاننا بلسانه على عدونا؛ أنطقه الله بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ).. ولا يستبعد أن الذين يجادلون للدفاع عن الحق في زماننا هذا، إمامُ زمانهِ في تلكَ الساعة يرفعُ يديهِ إلى السماء طالباً من الله عزَ وجل أن يسددهُ في قوله.. البعض يقول: أنا أتكلم وليس لي دليل، ولكن عندما أتكلم أرى نوراً يتغلغل في قلبي؛ فمن أينَ هذا النور؟.. نعم، إن الإمام (عليه السلام) عينهُ على مُحبيه، وعلى رأسِ محبيه الذينَ يسعونَ لنشر الهدى!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.