- ThePlus Audio
آفة الغيبة؛ آثارها وعلاجها
بسم الله الرحمن الرحيم
آفة الغيبة
إن من الآفات والرذائل التي يسهل ارتكابها ويعظم دمارها هي الغيبة. وليس في القرآن الكريم آية تقبح عملاً – تقريبا – كالغيبة. يقول سبحانه: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)[١]. إن أكل لحم الخنزير مذموم في الشريعة كثيرا وقد حرمه سبحانه، ولكن ليس الكلام في الغيبة عن أكل لحم الحيوان وإنما الكلام عن أكل لحم الإنسان وليس أي إنسان وإنما الإنسان الميت.
لو قيل: أن في قرية من القرى في أدغال الأمازون يوجد من يذهب ليلاً للمقابر لينبش القبور ويقطع اللحم ويأكل منه؛ كم سيكون هذا الخبر مقززا؟ ثم ألم يكن ليصبح هذا الخبر على صدر الأخبار العالمية الملفتة؟ ولكننا وللأسف الشديد نقوم بهذا العمل. وليته كان المأكول لحمه عدواً لك تريد أن تشفي منه غيظك. كالوحشي قاتل سيدنا حمزة (ع) والذي فعل بجسده ما فعل. ولكن تصور أن يكون المأكول لحمه أخوك الذي مات قبل يوم وأنت تنبش قبره لتأكل لحمه. وفي الحقيقة لولا القرآن الكريم ولولا بيان رب العالمين لما استطاع أحد أن يصور قبح هذا العمل.
ما هو علاج الغيبة؟
ما من إنسان إلا وهو مبتلى بهذه المعصية إجمالا. ورحم الله الشهيد في كتابه القيم حول الغيبة يقول فيه: إن بعض المؤمنين يذكرون الله أثناء الغيبة، فهو يستعمل اسم الله المقدس في أقبح شيء. ولكن كيف ذلك؟ يقول: سبحان الله كيف فعل فلان ذلك العمل؟ أو أن يقول: الحمدلله الذي ما ابتلاني بما ابتلى به فلان. إنه يقول: الحمدلله وسبحان الله ولكنه يأتي بهذه الأذكار في أقبح المعاصي.
أو يريد أن ينصح ولده – على سبيل المثال – فيقول: يا بني لا تفعل كذا وكذا كما يفعل فلان ابن فلان. إنه ينصح ولده ويغتاب صاحبه. إن هذه مشكلة الجاهل حيث يغتاب من حيث لا يشعر. إن هناك رواية معروفة وهي ما روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اَلْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلزِّنَا)[٢]؛ فقيل في توجيه هذه الرواية: أن الزنى وإن كان قبيحا إلا أنه عملية توافقية بين رجل وامرأة؛ فيتوافقان على المعصية في ليلة حمراء تنتهي عند الصباح، ولو تابا تاب الله عليهما. ولكن من هتك مؤمنا وأسقطه عن الاعتبار هل يكفيه أن يقول: استغفرالله؟ وكما يقال: إن استغفارك هذا بعد خراب البصرة.
إنني أعرف بعض المؤمنين قد ترك الحضور في المساجد؛ بل هجر المجتمع لأنه هتك فيه. فهو يقول: إنني إن حضرت في المسجد كيف سأتحمل نظرة الناس إلي؟ أليست هذه جريمة؟ بل يتفق أن البعض يهجر وطنه ويهاجر إلى بلاد الغربة فراراً من الهتك الذي وقع عليه.
أقبح الغيبة
إننا كنا في زيارة لأحد المراجع الماضين رحمهم الله فقال لنا كلمة قيمة: إن الغيبة لها درجات منها ما هو قبيح ومنه ما هو أقبح. ثم قال: إن من أقبح أنواع الغيبة أن تغتاب عالماً أو مؤمنا. ثم قال كلمة جميلة: إن غيبة العالم هي أكل للحم الميتة المسمومة. فتخيل إنساناً مات منذ سنة وقد تعفن جسمه ثم يأتي من يأكل هذه الميتة؛ فكيف سيكون حاله؟ كلما كان المغتاب مؤمناً مباركاً مقدساً عند الله عز وجل كانت غيبته عظيمة.
دع الانتقام لله عز وجل
إنني عندما ألتقي ببعض المؤمنين يشتكي لي من مزعج أو من عدو يغتابه وهو يفكر في الانتقام؛ أقول له: يا فلان ما لك والانتقام (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[٣]؛ فاجعل الله محامياً. إنك قد تذهب ألى المخافر ثم ينتهي الأمر، ولكن قل في جوف الليل: يا رب، ادفع عني شر فلان. فهذه الدعوة تسمى بسهام الليل، وسهام الليل لا تخطأ. ولكن لا ترمي بهذه السهام مؤمناً أخطأ في حقك؛ بل قل: اللهم اهده. إن النبي الأكرم (ص) دعى بذلك لأهل مكة وهم كانوا من كبار الفسقة والفجرة.
إن الأصل في المؤمن السكوت. إن المؤمن صموت دائما. ما لك والثرثرة وكثرة الكلام؟ قبل أن تتكلم قلب الأمور وفكر جيدا. فإن رأيت الكلام يجدي فتكلم وإلا كن صامتاً. إن هذا الصمت سيورثك الحكمة. فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (إِذَا رَأَيْتُمُ اَلْمُؤْمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي اَلْحِكْمَةَ)[٤].
الأصل في المؤمن الصمت
إن القاعدة الأولى أن ترى الكلام ثقيلاً عليك. إن بعض المؤمنين عندما يتكلم معك يقول بينه وبين نفسه: اللهم اشهد أني لا مزاج لي بالكلام وإنما أتكلم قربة إليك لأنه يشغلني عن الذكر. وعندما زار ذلك الرجل الإمام الصادق (ع) قال له الإمام: (لاَ تُفْسِدْ عَلَيَّ وِرْدِي)[٥]؛ أي لا تقطع على ذكري[٦]. وتذكر رواية لم أطلع عليها بنفسي ولكن إن صحت الرواية فهي رواية بديعة. فيروى أن حلاقا كان مشغولا بتقصير شارب أمير المؤمنين (ع) وكان الإمام (ع) مشغولاً بالذكر؛ فطلب منه أن يسكت قليلا، فرفض ذلك الإمام (ع) وقال له: لا أقطع الذكر أبدا هل تريد أن تشغلني عن الذكر لتزين شاربي مثلا؟ وأمير المؤمنين فوق هذا المقام. إن المؤمن يشمئز من أي شيء يشغله عن الذكر .ومن وصل إلى هذا المقام انتهت مشكلته؛ فهو إن أعرض عن الكلام المباح كان عن الكلام الحرام أعرض.
التربص بعيوب الناس
إن بعض الناس قد يعيش معك فترة من الزمن كشريك أو زميل فيتصيد أخطائك. وهذا وارد في عالم السياسة؛ فالمنافس السياسي ينظر إلى عيوب خصمه ويحفظها ليكشفها في ساعة من الساعات حتى يسقط أخيه من الأعين وهذه جريمة كبيرة. إن النبي الأكرم (ص) يلحق هذا الإنسان بالكفار. إن أعلى الكفر إنكار الربوبية ولكن يقول النبي (ص): (أَدْنَى اَلْكُفْرِ أَنْ يَسْمَعَ اَلرَّجُلُ مِنْ أَخِيهِ اَلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظَهَا عَلَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَفْضَحَهُ بِهَا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ)[٧]؛ وقد يحفظ البعض في جهازه صورة لأحدهم في مكان ما بهيئة غير حسنة يريد أن يبتزه بها.
علاج التورط في الغيبة
ثم إن جلست في مجلس الغافلين وتورطت في استماعك لغيبة المؤمن كيف تعوض ذلك؟ عوض ذلك بدافعك عن أخيك المؤمن. فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (مَنِ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ اَلْمُؤْمِنُ فَنَصَرَهُ وَأَعَانَهُ نَصَرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصُرْهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ خَذَلَهُ اَللَّهُ وَحَقَّرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ)[٨]؛ خاصة إذا كان ذلك المؤمن ممن لا يعنيك أمره. فتارة يكون المغتاب ولدك أو أخوك وتارة يكون من لا وزن له فتدافع عنه قربة إلى الله عز وجل. ولهذا إذا ذهبت إلى ديوان إلى مجلس ثم تورطت في الغيبة قولاً أو سمعاً؛ تعقد من ذلك المكان، وقل: يا رب، إن هذا المكان أوقعني في المعصية لا أقترب منه بعد هذا أبدا.
استثناءات الغيبة
إن الإسلام دين الواقعية وهو دين عملي. ولكل قاعدة شواذ، ولكل عام خاص. إن هذه الغيبة على قبحها قد أذن الشارع المقدس فيها لرفع الظلم إن وقع عليك يوما. فإن رأيت من تستنصره بين له ما وقع عليك من الظلم ولا تكن مهذاراً هنا وهناك لكل من هب ودب. إن وجدت عالما أو حاكما أو وجيها يرفع عنك الظلم؛ فبين له ظلامتك بمقدار ما يرفع الظلم وإياك أن تذكر عيباً لا شأن له بالظلم الذي وقع عليك. قد يريد الرجل أن يزوج ابنته فيسألك عن الشاب، قل له إجمالا: لا أنصحك به. أو ولد يرتكب الحرام ولا ينتهي إلا إذا أخبرت والده بذلك ويجوز ذلك لأنك في مقام النهي عن المنكر. وهذه استثناءات الغيبة مذكورة مفصلة في الرسائل العملية .
توبة المغتاب
اقد تنظر إلى ماضيك وترى إن جمعوا الغيبات التي اغتبتها ستمثل جثثاً كثيرة. فإنك ربما اغتبت مئة أو ألفا. فإذا جعلنا في مقابلة كل غيبة لقمة من لحم ميت فستكون قد أكلت عشرات الجثث الميتة منذ بلوغك. ولكن ما هو الحل؟ الاستغفار أولا والقيام بالصالحات نيابة عمن اغتبته ثانيا. وذاكر دعاء الإمام زين العابدين (ع): (فَأَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِكَ أَوْ أَمَةٍ مِنْ إِمَائِكَ كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلِمَةٌ… أَوْ غَيْبَةً اِغْتَبْتُهُ بِهَا…غَائِباً كَانَ أَوْ شَاهِداً حَيّاً كَانَ أَوْ مَيِّتاً فَقَصُرَتْ يَدِي وَضَاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّهَا إِلَيْهِ وَاَلتَّحَلُّلِ مِنْهُ فَأَسْأَلُكَ يَا مَنْ يَمْلِكُ اَلْحَاجَاتِ وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ بِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ إِلَى إِرَادَتِهِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِمَا شِئْتَ)[٩].
خلاصة المحاضرة
- لو قيل: أن في قرية من القرى في أدغال الأمازون يوجد من يذهب ليلاً للمقابر لينبش القبور ويقطع اللحم ويأكل منه؛ كم سيكون هذا الخبر مقززا؟ ثم ألم يكن ليصبح هذا الخبر على صدر الأخبار العالمية الملفتة؟ ولكننا وللأسف الشديد نقوم بهذا العمل من خلال اغتياب المؤمنين في كل يوم.
- إن الأصل في المؤمن السكوت. إن المؤمن صموت دائما. ما لك والثرثرة وكثرة الكلام؟ قبل أن تتكلم قلب الأمور وفكر جيدا. فإن رأيت الكلام يجدي فتكلم وإلا كن صامتاً. إن هذا الصمت سيورثك الحكمة. فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة).
- إن الإسلام دين الواقعية وهو دين عملي. ولكل قاعدة شواذ، ولكل عام خاص. إن هذه الغيبة على قبحها قد أذن الشارع المقدس فيها لرفع الظلم إن وقع عليك يوما. فإن رأيت من تستنصره بين له ما وقع عليك من الظلم ولا تكن مهذاراً هنا وهناك لكل من هب ودب.