– إن الإنسان العاقل في حركته الحياتية، لابد وأن يعمل في حقلين: حقل إيجاد الدوافع والمقتضيات، وحقل إزالة الموانع.. وفي كل علم من العلوم هنالك بحث حول الآفات التي تعترض الإنسان: في عالم الطب، هناك متحف طبي تحت عنوان: المتحف الطبي المتعلق بآفات البدن.. فلكل عضو حالة سلامة، وحالة آفة.. ومعرفة آفات الأعضاء في الطب، أمر ضروري.. والأرواح كذلك، فالأرواح والأفكار لها آفاتها.. والذي لا يبحث في آفات الفكر والقلب، تكون دراسته ناقصة.
– إن الحوزات العلمية، ليست كالمطابع التي تدخل بها رزمة من الأوراق البيضاء الخالية، وإذا بعد فترة قصيرة، تخرج مطبوعة بالصور الجميلة والكتابات النافعة، فهذه حركة ميكانيكية طبيعية!.. أما في الحوزات والجامعات، فإن الأمر ليس كذلك، إذ ليس كل من يدخل في الحوزة العلمية هو بمثابة ورقة بيضاء، تخرج ملونة مطبوعة في الطرف الآخر.. من الممكن أن يكون الأمر تقريبا كذلك في الجامعات الأكاديمية، أي أن الجامعية أو الجامعي يدخل الجامعة، وسير الأمور واضح جدا أمامه: سنوات الدراسة معلومة، والمستقبل الدراسي معلوم، والاستفادة من العلوم.. كل ذلك واضح!..
– إن المشكلة في الحوزات، هي أن الحوزة تتناول حقلين: حقل الأفكار والرؤى، وحقل القلوب.. أي أن القضية قضية معقدة من هذه الناحية، لأن طالبة العلم سواء هي قبلت أو لم تقبل، هي وارثة الأنبياء في مجالها.. الحوزات الرجالية في جانب الرجال، والحوزات النسائية في جانب النساء.. يمثلون جبهة الدعاة إلى الله -عز وجل-، ومن هنا العملية عملية معقدة ومتقومة بعناصر عديدة.
– الآفات التي تعترض العمل التبليغي:
الآفة الأولى: آفة العجب، والإحساس بالتميز الكاذب: أي إنسانة تخرج من المجتمع، وقد تكون -لا سمح الله- لها بعض الهفوات السابقة، وتنتسب إلى حوزة من الحوزات العلمية المباركة.. من الممكن أن تغش بعنوان: الطالبة، وبعنوان: الحوزية!
أولا: إن العجب من الآفات التي تؤخر الإنسان إلى الوراء، ولا يمكن أن يعد الطالب طالبا، والطالبة طالبة، مع وجود هذا الإحساس الباطني المقيت!.. في مقام علاج هذه الحالة: على الطالبة أن تجعل في بالها دائما، الحالة المثالية التي ينبغي أن تكون عليها، لا الحالة التي كانت فيها.. من الممكن أن تكون طالبة خارج إطار الحوزات، وفي جو غير ملتزم، وتأتي للحوزة فتلتزم؛ فترى نفسها أنها أحرزت نصرا كبيرا!.. والحال بأن المقياس ليس حالاتها السابقة، بل المقياس ما ينبغي أن تكون عليه طالبة العلم في الحوزة.. وما من شك أن هذه الحالة المثالية، التي ينبغي أن تكون عليه طالبة العلم هي حالة راقية جدا.. فمن منا يعطي ليله ونهاره حقه؟.. ومن منا يعطي صلاته حقها؟.. ومن منا يعطي إمام زمانه حقه؟.. هذه الحوزات منتسبة إليه، إذا فكرنا فيما ينبغي أن نكون عليه، فسوف نرى النقص جليا.. وبالتالي، فإن الذي يفكر بهذا المنطق، لا يمكنه أن يصاب بالعجب
ثانيا: إن الأمور بخواتيمها، الإنسان اللحظة الوحيدة التي يرتاح فيها، هي عندما يأخذ كتابه بيمينه، فينطلق مسرورا ويقول لأهله: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}، في تلك اللحظة، المؤمن تقر عينه.. وإلا في الحياة الدنيا، ومع تقلبات الأيام والانتكاسات، وخاصة في مجال الحوزات العلمية، لا يقر له قرار!.. مثلا: لو أن عدواً أراد أن يهلك أهل قرية، هنالك طريقان للإهلاك: الطريق الأول أن يقتلهم فرداً فرداً، يقتحم المنزل ويقتل من في المنزل أسرة أسرة.. وهذه طريقة متعبة ومكلفة، ومن الممكن أن يجتمع القوم فيدفعوا ذلك العدو.. والطريقة الثانية الأسهل: أن يذهب هذا العدو الغاشم إلى مستودع وخزان الماء في البلد، ويضع فيه سماً قاتلا يشربه الناس، فيصبحون كلهم صرعى كأعجاز نخل خاوية.
– إن الشياطين والأبالسة، يرون بأن أقصر الطرق للقضاء على جماعة، هو الوصول إلى هذه المخازن المائية.. والحوزات العلمية تمثل هذه المخازن، ورجال الدين وطالبات العلم هم النمير، وهم العلم، وهم الغدير الذي منه يستقي الناس.. فإذا أمكن للشيطان أن يبث سمومه، ويقضي على هذه الفئة.. فإنه يكون قد أنجز المهمة، وبالتالي طالبة العلم عندما تتحول من الجامعة للحوزة، ومن العمل للحوزة، ومن البيت للحوزة.. عليها أن تعلم أنها في مرمى الشياطين، فالشياطين تضاعف من جهودها من أجل إسقاطها في فخه.. وحقيقة {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}.. {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، لم يستثن إلا المخلَصين، ونحن لم نصل إلى درجة المخلِصين، فضلاًَ عن درجة المخلَصين!.. درجة المخلَصين يحتاج إلى جهد جهيد، فكيف بالوصول إلى مرحلة المخلِصين المخلَص؟.. بعبارة موجزة: المخلَص هو ذلك الوجود المنتقى.. وهناك ثلاثة من المعصومين، ألقابهم في إطار الانتقاء الإلهي: النبي هو المصطفى، ووصيه هو المرتضى، ووصيه الآخر هو المجتبى.. فهذه الكلمات في فلك واحد: المصطفى، والمرتضى، والمجتبى.. وهي تدل على الاصطفاء الإلهي، هذا هو المخلَص؛ أي الذي انتخبه الله -عز وجل-.. والقرآن الكريم لإثارة الغيرة في النساء، ذكر عينة من المصطفيات في التأريخ، ألا وهي: سيدتنا مريم، سيدة نساء زمانها، رب العالمين اصطفاها وطهرها، لأنه رأى فيها القابلية، فأنبتها نباتا حسنا.
– فإذن، إن الذي يريد أن يعجب بنفسه، فليعلم أن الخواتيم غير مضمونة، وخاصة في آخر الزمان.. في روايات آخر الزمان، يبدو هناك إشارة لما نحن فيه الآن من: تنوع صور الإفساد الشهواني، والفكري، والعقائدي.. عن رسول الله (ص): (يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً.. ويمسي الرجل مؤمناً، ويصبح كافراً: يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل).. إن للمعصوم نظرة ولائية، النبي (ص) بنظراته، وبلحن قوله؛ ليّن قلوب الجاهليين.. فالمعصوم ليس كباقي المبلغين، ومع ذلك نلاحظ من أصحابهم من انتكس انتكاسة ذريعة: فالواقفة هم أصحاب الإمام موسى بن جعفر (ع)، هم رواة حديثه، ولهذا في كتب الرجال عندما يقيّم الراوي، يقال: بأنه -مثلا- ثقة، إلا أنه واقفي.. وقفوا على الإمام موسى بن جعفر (ع)، ولم يعترفوا بإمامة الرضا (ع).. عندما نراجع التأريخ، ونبحث عن سبب الوقف، وإذا به المال، إذ استولوا على أموال موسى بن جعفر (ع)، واعترافهم بالإمام اللاحق، يقتضي دفع الأموال إليه.. فآثروا أن ينكروا إمامة إمام زمانهم، مقابل دريهمات!.. وأصحاب كتاب التكليف، هؤلاء كانوا من خيار أصحاب الأئمة (ع)، هم أصحاب المجموعات الروائية المفصلة، والبعض منهم بلغ به الانحراف إلى أن صدر اللعن في حقهم من قبل أئمتنا (ع)، هذه انتكاسات!.. وكذلك معركة الجمل، وما كان فيها من الصحابة، الذين قتلوا تحت ذلك الجمل الزبير وغيره!..
– إن الإنسان عندما ينظر إلى المستقبل، يراه مجهولا تماما، وبفضل الله -عز وجل- من الممكن أن يعيش الإنسان حالة الأمل.. ولكن هل هناك من يقسم على القرآن الكريم، أنه سيموت على الإيمان؟.. من المؤكد لا!.. لأن هذا الأمر يحتاج إلى يقين جازم!.. هل أحد منا يقسم أنه سيموت على الحالة التي يريدها الله -عز وجل-؟.. فبما أنه ليس هناك ضمانة، فإن قلوبنا لا تقوى على هذا القسم.. وبالتالي، فنحن على خطر عظيم!..
– فإذن، لا ينبغي التأثر بالعناوين، ويفضل عدم استعمال لقب طالبة الحوزة، بلا هدف.. فالبعض قد يستعمل هذا التعبير -لا قدر الله- للمباهاة، وللفخر، وإظهار الإنية والذاتية، وما شابه ذلك.. إذا كان الإنسان في مقام التعريف، ليؤثر كلامه في الغير.. لا بأس أن يعرف نفسه، طبعا رجل الدين مميز في زييه، ولا يحتاج إلى تعريف، أما المرأة فإنها تحتاج إلى شيء من التعريف، ليكون كلامها مؤثرا.. أما أن تستخدم هذا اللقب، وهذه الوظيفة، من أجل جلب الأنظار إليها.. فهذه صورة من صور الشرك الخفي، الذي ينبغي أن نعالجه في نفوسنا، فإنه (أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود، في الليلة المظلمة).
الآفة الثانية: عدم استثمار العلم: وهذه آفة الحوزات النسائية بالخصوص، فهذا العلم يبقى محصورا لدى البعض في الصدور.. البعض منهن لا تخمس ولا تزكي علمها، إذ أن لكل شيء زكاة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.. يقول العلماء: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}، سواء كان مالا أو كان علما!.. فهذا العلم جاء من وراء مال، ووقت المعاهد العلمية، والحوزات مبنية على أموال صاحب الأمر (ع)، أضف إلى الأوقات والأعمار المصروفة.. فالعلماء الأفاضل هؤلاء، يصرفون أعمارهم وأوقاتهم في تربية الحركات النسائية المباركة.
– فإذن، إن طالبة العلم أخذت من أموال الناس، والأهم من ذلك من أوقات الناس الكثير.. فأين ضريبة هذا العلم المأخوذ؟.. إذا كان الهدف هو التثقيف الذاتي: فبحمد الله هذه الأيام المواقع، -وببركة أهل البيت (ع)- والفضائيات الولائية منتشرة بكثرة، والكتب تكفي للتثقيف الذاتي.. فإذن لماذا ترك المنازل، وترك الأولاد والأزواج، والمجيء إلى هذه الحوزات؟.. إذا كان لأجل التثقيف الذاتي، فإن هذا أصبح ممكنا خارج الحوزات أيضا.. وهناك فكرة لإنشاء حوزة الكترونية: يأخذ الإنسان المواد الحوزية، ويستمع للدروس من خلال الإنترنت، ويقدم امتحانا لا يكلف شيئا.. فإذن، إن الهدف من الحوزة: أن نتربى، وأن نكون الجنود في النصف الثاني في المجتمع، فطالبة العلم بيدها نصف المجتمع، هذا النصف المهمل.. من المسئول عن الانحرافات الموجودة في الجانب النسائي؟.. فبما أن الرجال تعاملهم مع النساء في إطار ضيق ومحدود، فإن النصف من البشر الحوزات العلمية النسائية هي مسئولة عنها.. وبالتالي، فإن طالبة العلم عليها هي أن تقتحم الميادين، ولا تنتظر أن تأتيها دعوة مختومة، وبثناء جميل من شخصيات أو من حوزات لدعوتها للعمل الرسالي، بل عليها هي أن تبادر.. فالطبيب المثالي هو الذي يبحث في الزوايا عن المرضى، ويعطيهم الدواء رغم أنوفهم إذا استلزم الأمر.. الأطباء الماديين هم الذين يفتحون عيادات، ولكن هناك أطباء يعالجون البشر لدوافع إنسانية، لا يريدون جزاء ولا شكورا.. في الطب المادي هكذا موجود، ولكن في الطب الروحاني نلاحظ بأن هذه الهمة مفتقدة لدى البعض.
– وعليه، يجب أن لا يكون طلب العلم لذاته، أو أن يكون الهدف من العلم هو تنمية الذات فحسب!.. من قال ذلك؟.. فإن آية النصر صريحة {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} التفقه بجانب الإنذار.. وفي آية أخرى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.. تعلم الرسالات الإلهية مقدمة للتبليغ، {يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ}، هناك إشارة جميلة في هذه الآية، أنه جعل التبليغ إلى جانب التعلم، فالذي لا يعلم الرسالات الإلهية، كيف يبلغ؟.. إذن يتعلمون الرسالات الإلهية، ويبلّغون، ويزكون أنفسهم ويخشونه.. فالخشية حركة قلبية، وهذه الحركة لا تأتي بالنية، ولا تأتي بالعلم.. إنما تحتاج إلى عمل معمق في النفس، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.. هذه الآية من أفضل الآيات حول الحوزات العلمية؛ لأنها جامعة بين: التزكية، والتعليم، والتبليغ.. {يُبَلِّغُونَ}، و{رِسَالاتِ}، و{يَخْشَوْن}.
الآفة الثالثة: حالة التقوقع، والانعزال، وترك المجتمع في فترة من فترات العمل الرسالي: إن المسؤولين عن الحوزات العلمية، شكواهم: أن المرأة وهي فارغة، وقد تكون لم تتوفق للدخول في بعض المعاهد العلمية، تأتي للحوزة، وتتفوق.. وقد تكون لا ترغب في دروس الجامعة، وترغب في الدروس الدينية الإسلامية.. ولكنها -مع الأسف- بعد أن تتقدم في العلم شوطا، وتصبح امرأة في معرض التكامل، وإذا بها تتزوج وتكون أسرة ومنزلا و…الخ.. وإذا بها تغير جهة حياتها من عالم إلى عالم: من عالم حب العلم، والتكامل، والتقرب، والتزكية.. إلى العالم المنزلي المتعارف عند كل النساء.
– إن المؤمنة لابد أن تكون وفية لهذا الخط ولهذا الطريق، فطريق الحوزة من أفضل الوظائف على الإطلاق في عالم الوجود: الأطباء شغلهم مع اللحم والدم والجروح والقروح، المهندسون شغلهم مع الحديد والأسمنت والرمل والطين.. وباقي العلوم قس عليه فعلل وتفعلل!.. بينما طالب العلم يصبح ويمسي وحديثه عن قول الله -عز وجل-، وعن قال الصادق والباقر (ع)، وعن تفسير كتاب الله -عز وجل-.. إن شرف العلم بشرف موضوعه: فموضوع الطب؛ البدن الفاني.. وموضوع الهندسة؛ البنيان الفاني.. وموضوع طلب العلم؛ الرسالة الإلهية والأنفس أي أرواح البشر.. فشتان بين الأرواح والأبدان، وشتان بين الرسالة والبنيان!.. فبالتالي هذا العمل من أشرف الأعمال وأجلّ المهن.. فإذن، لابد من اتخاذ مسار أبدي في هذا المجال.
– إن مشكلة المرأة أنه إما تعمل في مجتمع نسائي كبير، أي أن المرأة مسئولة عن الحوزات، أو أن لا تعمل.. بينما يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.. لو أن الأخوات المؤمنات يفكرن في حماية أسرهن، وأسر أقاربهن، وأسر أزواجهن، والقرية، أو المحلة التي يعشن فيها.. إذا كل طالبة علم تعمل بهذه الوظيفة، انتهى الأمر!.. فلا ينبغي أن ننتظر الوظائف ذات العناوين العريضة البراقة، إذ يكفي أن نعمل بقوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.. والمرأة التي تتقن العمل الرسالي التبليغي في دائرة ضيقة، فإن رب العالمين يبارك لها، ويفتح لها من الآفاق ما يفتح.
– إن إحدى المؤمنات مسئولة عن إحدى الحوزات العلمية في مكان ما، امرأة طاعنة في السن تعمل صباحا ومساء في خدمة الحوزة، وحوزتها من أفضل الحوزات.. وهي الآن مشغولة بالتبليغ في كندا مع المؤمنات في تلك البلدة، تنتقل من مكان لمكان تحمل الرسالة الإلهية.. هي نجحت في حوزتها المصغرة، فرب العالمين كافأها بأن رزقها القبول.. أي جعل التأثير في قولها، ورزقت القبول من الناس.. إذ أن البعض قد يكون له أعلى الدرجات العلمية في مختلف الحقول، ولكن الناس لا تعبأ به.. فهناك أسرار في هذا المجال، أمور ترى وأمور لا ترى.
الآفة الرابعة: النمو اللامتوازن: وهذه آفة كبيرة!.. أخت تستهويها الأبحاث العلمية، فتتحول إلى مكتبة متنقلة، تتحول إلى قرص مدمج، لا إلى قرص مرن، بل إلى قرص صلب مدمج فقط يحمل العلم.. وفي ساعة من ساعات موجبات الحدة والغضب، وإذا بها تغضب كأي إنسان عادي.. وفي مجال الأكل والشرب وباقي الشهوات البهيمية، لا نكاد نجد فرقا بينها وبين غيرها.. فالإنسان وجود متكامل: له عقل، وله قلب، وله جوارح.. ولابد أن نعطي كل هذه حقوقها: إيمان في الفكر، وحب مشاعر في القلب، وعمل للجوارح.. والبعض -للأسف- يتوجه لحقل العبادة والأوراد والأذكار والختومات وما شابه ذلك، ويهمل الجانب العلمي.
– إن الأخلاق الصحيحة أو العرفان الصحيح، هو الذي يقترن بالتفقه والفقاهة.. وإلا فالمتدروشون طوال التأريخ كثيرون، والحركات الصوفية المنحرفة كثيرة، وطريقتهم لا تمت إلى الإسلام بصلة.. ولكن الفخر كل الفخر، أن نجمع بين العالمين: عالم التفقه، والعبادة.. أي أن نتقن المسائل الشرعية بكل حذافيرها: بأحكامها الظاهرية، وبأحكامها الباطنية، كما قال النبي (ص): الجهاد الأكبر: بجهاده العلمي.. فالنمو اللامتوازن كلفنا الكثير طوال التأريخ، بعض الحركات الانحرافية هذه الأيام في فرق المسلمين، جاءت من هذه الناحية.. فالبهائية ينتسبون إلى من كان في الحوزات العلمية، هذه الحركة باطلة هدامة واضحة البطلان، ولكن نشأت من الانحراف في بعض الذين كانوا في هذه الحوزات.. وعليه، لابد من الحركة المتوازنة في كل الأبعاد، وإلا فإنه لا يمكن للإنسان أن يكون وجودا معطاء.
الآفة الخامسة: تحول طلب العلم إلى مهنة: إن الإقبال في الحوزات، يكون في السنوات الأوائل.. فالطالب عندما يأتي إلى الحوزة أول سنة، يكون في أفضل حالاته: حالة روحانية راقية، وحالة مراقبة، حتى أنه في أول أيام التعمم، يرى بأن العمامة تاج ثقيل على رأسه، وكأن هموم ومسؤوليات الدنيا وقعت على رأسه.. ولكن بعد فترة، فإن الأمر يهون عليه.. وهناك في الروايات إشارة إلى أن العبادة لها إقبال، ثم تنتهي إلى فترة العلم.. كذلك طالبة العلم بعد فترة من طلب العلم في الحوزات، وتكرر الدروس والمواقف و… الخ، لا ترى تلك البهجة!.. وبالتالي، فإنها تتحول إلى طالبة علم بمعنى طالبة العلم الجامعي: تأتي للحوزة صباحا، فتأخذ المواد الدراسية، وترجع إلى المنزل، من دون أن تتحول إلى عنصر الأسوة والقدوة الحسنة.
– إن مجرد الدخول في هذا البناء المبارك، أو إدخال الاسم في قائمة أوراق طلبة العلم.. هذا لوحده لا يكون عاصما، إذ لابد من المراقبة المستمرة، والاستحضار.. هذه الوكالة عن الله ورسوله، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، فكيف بالمؤمن، وكيف بطالب العلم؟.. فطالب العلم شاء أم أبى، هو خليفة الله، حيث أن هناك أربعة من موجبات الخلافة الإلهية: آدميته، وإسلامه، وإيمانه، وحوزويته؛ أربعة عناوين تؤكد الخلافة الإلهية في الأرض، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، نحن كلنا خلفاء الله في الأرض.. وعليه، لابد لطالبة العلم بين فترة وفترة أن تراجع نفسها.. إن البعض نموهم الحوزوي بطيء جدا، فالإنسان في الجانب العلمي، قد يبذل جهده، ذاك إنسان مطالب بالتكليف، ولكن عندما ينظر الأبوان إلى طالبة العلم أو الأقرباء، فإنهم لا يرون هذه الفترة التي أمضتها ابنتهم في الحوزة متناسبة مع نموها الباطني.. حيث أن ست أو سبع سنوات تدخل الطالبة للجامعة، تسمى دكتورة، وتخرج، وتعالج المرضى، وتقوم بمهمة في المجتمع.. مع الأسف البعض منا من الممكن سبع أو عشر سنوات وأحدنا يقتات من الحقوق، وغير ذلك، ويصرف عمره.. والتقدم الباطني الفكري الروحي، هذا التقدم لا يتناسب مع طبيعة أو مدة المرحلة التي قضاها في هذه الأماكن.
– إذا أردنا الحصانة في هذا المجال، لابد من أن ننسجم مع عمادة الحوزة -إن صح التعبير- فالحوزات العلمية منتسبة إلى الإمام (عج) انتسابا مباشرا، لأنه هو المعني بشؤوننا، ونحن نمثله شئنا أم أبينا.. فطالبة العلم، لابد أن تكون لها علاقة متميزة بإمام زمانها من (بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء): لابد أن تكون لنا وقفة يومية معه: بدعاء العهد، ووقفة أسبوعية: بدعاء الندبة، وبالسلام عليه في كل صبيحة، وبالدعاء له في قنوت الصلاة بدعاء الفرج، وبالتصدق، وبزيارة نيابة عن وجوده الشريف.. والأهم من كل هذه الحركات الظاهرية، أن ندخل عليه السرور بأعمالنا.. عن الإمام الصادق سلام الله عليه: (كونوا زيناً لنا، ولا تكونوا شيناً علينا)!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.