إن المجالس الحسينية تعد وسيلة لنشر وتعريف الحركة الحسينية للأمة، وقد توالت هذه المجالس عبر التأريخ قبل عاشوراء، منذ اليوم الأول لولادة الحسين (ع) كما تشهد بذلك الروايات: فقد بكاه النبي الأكرم (ص) وأبوه أمير المؤمنين (ع).. وكان أول مجلس في رثاء الحسين (ع) بعد استشهاده، هو الذي أقامته مولاتنا زينب (ع) وابنته سكينة على جثمانه الشريف المقطّع على رمضاء كربلاء.. وهذا المجلس أُعيد مرة أخرى في مجلس الطاغية، ورأس الحسين (ع) في طشت من ذهب، والخيزرانة تتهاوى على ثغره الشريف.. وأقيم أيضاً عند رجوعهم إلى أرض كربلاء، مع الإمام السجاد (ع).. وعند رجوعهم إلى المدينة أيضاً، أقيم ذلك المأتم الكبير عند قبر النبي (ص)، حينما ألقت سيدتنا زينب بنفسها على قبر جدها المصطفى، وبيدها ذلك القميص الملطخ بدماء الحسين (ع).. ولقد كان الأئمة (ع) يرعون بأنفسهم هذه المجالس، ويؤكدون على إحيائها حتى في المواسم العبادية: كالحج، وغيره؛ لربط خط الولاية بالتوحيد، حيث كان الشعراء يتنافسون في إنشاد الشعر الحسيني.. وقد روي أن أبا هارون المكفوف دخل على الإمام الصادق (ع) فطلب منه إنشاد الشعر، فبكى (ع) بكاءً بليغاً حتى توقف الشاعر، وتهايج النساء خلف الستار بالبكاء يشاركن الإمام (ع).. وهكذا تستمر هذه المجالس التي تشحذ الدم الحسيني عبر العصور، وتتوارثها الأجيال جيل بعد جيل.
س١/ ما هو الارتباط بين المجالس الحسينية، وبين الحالة التوعوية في الأمة؟..
إن البعض من خطباء المنبر الحسيني على مستوى التدريس الجامعي، مما يسمى بالنخبة الاجتماعية.. وهؤلاء تصدوا لهذا المقام العظيم، الممتد في شرق الأرض وغربها، والتي تضم في قاعاتها المتعددة -من أكواخ البوادي، إلى أفخم الأبنية- مختلف الطبقات الاجتماعية.. وهذا من أسباب التفوق العلمي في الموالين نسبة إلى غيرهم، وذلك لتعرضهم لهذا الإشعاع النوري منذ نعومة أظفارهم.. وهنا دعوة للأخوة الخطباء، بتلوين العطاء الذي سخره الله تعالى لهم، بأن يمزج القرآن الكريم بالحديث بالتاريخ بالسيرة بالبكاء والإبكاء؛ ليخرج الجمهور وقد تكامل في كل أبعاده.
س٢/ هل الثورة كانت تكليفاً للإمام الحسين (ع) فقط أم أنها ما زالت قائمة حتى اليوم عند أتباع الإمام الحسين (ع)؟..
إن هذا السؤال شغل بعض الباحثين، خاصة في العصور والسنوات الأخيرة.. فالبعض حاول أن يصور حركة الحسين، على أنها حركة استثنائية لا يمكن التأسي بها؛ لأن الإمام (ع) خالف كل الموازين المتعارفة: أولاً: خرج بمجموعة من أهل بيته، بما فيهم النساء والطفل الرضيع.. وثانياً: أن الإمام (ع) خرج على الأقل قبيل عاشوراء، وهو يعلم أن هنالك معادلة غير متكافئة: عدد قليل فوق السبعين بقليل، وفي المقابل ذلك الجيش العرمرم، المليء بالقساوة، وعدم وجود أي قيمة من القيم الإنسانية والإسلامية فيه.. ومع ذلك بقي الإمام (ع) مصرا على موقفه حتى اللحظات الأخيرة -وكل أئمة الهدى (ع) كذلك، فهؤلاء يمثلون بطواعية الخطة الإلهية المرسومة لهم، حيث أن هنالك عهدا معهودا من الله- وفي ليلة العاشر قال لأصحابه: (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا)؛ أي ليخرج كل واحد إلى أهله.. البعض حاول أن يقول: بأن هذه القضية خاصة بالإمام الحسين (ع)، ولكن أنقل لكم هذا النص للإمام (ع) الذي من الراجح أنه صدر يوم عاشوراء: قال: (يا أيها الناس!.. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يعتبر بما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله…).. نلاحظ أن هذه الجملة (من رأى منكم سلطاناً..) جملة شرطية مطلقة، فالإمام (ع) لم يقيد بعصر ولا زمان.. نعم، قد تختلف طريقة المواجهة بما يناسب تلك الظروف، فتارة تكون (بالصلح) حسنية، وتارة (بالدم) حسينية، وأخرى (بالمدرسة الثقافية) صادقية وباقرية.. ومهما اختلفت طرق المواجهة، إلا أن العنوان الجامع لكل هذه المواجهات، هو مواجهة الباطل، والوقوف بوجه الظلم في كل زمان ومكان.
س٣/ إن الإمام (ع) كان يؤكد في نهضته على أن الأمر مفروض وتكليف عليه (ع)، بقوله: (لقد شاء الله ان يراني قتيلا).. فكيف نوفق بين مسألة القضاء والقدر، وبين اختيار الإمام وأصحابه في القيام بهذه الثورة؟..
إن القيام القدري لا يعني الإلزام، إنما هو بمعنى رسم الخطة الإلهية.. والحسين (ع) اطلع بنفسه على هذه الخطة، من خلال وصايا جده المصطفى وأبيه أمير المؤمنين علي (ع).. وهو لم يخرج من غير اختيار، بل إنه قام بما قام، وملؤه العشق والحب الإلهي.. ولو نفينا عنصر الاختيار في حركة الإنسان، وفي حركة الأئمة والأنبياء (ع)، لما بقي الأجر في هذا المجال.
س٤/ كيف دُوّن المقتل الحسيني بهذه الكيفية من التفاصيل والجزئيات الخصوصية، ثم كيف لنا أن نصدق بعض ما نقل من الأمور غير المعقولة؟..
هنالك مجموعتان من روايات أهل البيت (ع): المجموعة الأولى: في الآداب والسنن.. وهذه العلماء يتسامحون في سندها، وفي أبحاثها الرجالية؛ لأنها لا تثبت حكماً شرعياً -مثلاً- تأتي راوية ضعيفة: بأن نصلي ركعتين في ذلك الوقت، وهذه الرواية ليس فيها إلزام، ولا تحريم، ولا حتى اعتقاد بالاستحباب.. فالبعض يقول: هذه الروايات تدل على رجحان القيام، من دون إثبات صفة الاستحباب، أي لا مانع من العمل بها برجاء المطلوبية.. المجموعة الثانية: الروايات التاريخية المرتبطة بالأحداث.. هذا الحدث وقع أو لم يقع، وهذه الأحداث أيضاً لا تحمل بعداً حكمياً إلزامياً.. فإذن، نحن عندما تصلنا رواية من هذا القبيل في جزيئات المقتل، لسنا مطالبين بالبحث السندي المفصل؛ لنثبت أن فلان الصحابي برز قبل ذاك أو لم يبرز، أو قتل بأية كيفية.. وهنالك نقل في المقاتل المعروفة: أبي مخنف، والسيد ابن طاووس، وغيره، وفي كتاب البحار، يكفي هذا النقل.. إن الإنسان المؤمن يريد أن يتفاعل مع جزيئات المقتل، ولا يشغل باله في مثل تلك الأمور.. إن ما جرى يوم عاشوراء، لم ينعكس من خلال النصوص بشكل كامل، إذ أن من المؤكد أن هنالك بعض الفقرات من الفاجعة -سواءً في يوم عاشوراء، أو أيام السبي، أو في جزئيات مقتل نفس الإمام (ع)- لم ينقله التاريخ، والذي يعرف هذه الأسرار هو صاحب الأمر (عج)، وحق له أن يبكي صباحاً ومساءً.. وهنا دعوة للأخوة الخطباء، بتجنب ذكر الأمور التي قد تشغل ذهن المستمع في التفكير بصحة الرواية.
س٥/ للإبكاء على الحسين (ع) مقام وثواب خاص، كيف يمكن للطبقة المثقفة التي لا تجيد الشعر والرثاء التوفيق لذلك؟..
إن الإبكاء على الحسين (ع) لا يحتاج إلى صعود المنابر والأعواد أو الجمهور العريض.. فبإمكان الإنسان المؤمن أن يجمع العائلة والأطفال الصغار، وينقل لهم جزيئات المقتل ولو بشكل سرد عادي.. وقد سمعنا عن بعض مراجع التقليد، أنه يخلو مع أسرته، ويقرأ لهم المقتل؛ ليلحق بهذا الركب.. قال الإمام الصادق (ع): (من أنشد في الحسين فأبكى عشرة، فله الجنة.. ثم جعل ينتقص واحدا واحدا حتى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحدا، فله الجنة!.. ثم قال: من ذكره فبكى، فله الجنة).. أي أن هنالك ما يقتضي دخوله الجنة.. ولو أن الإنسان جاء يوم القيامة، وقد تساوت حسناته وسيئاته، ولم يبقَ في دفتر أعماله إلا هذا البكاء على سيد الشهداء (ع) قطعاً وبلا ريب أن له الجنة.
س٦/ كيف نغلب العاطفة على الفكر في نوادي ومنتديات النخبة المثقفة؟..
إن من الضروري الموازنة بين العقلانية والعاطفة، فالذي يتكلم عن ثائرية الحسين (ع)، عليه أن يكون في مقام العمل رسالياً ينتهج منهج الحسين (ع).. ولا بد له من طراوة عاطفية؛ لينقل الفكرة إلى مستوى الجوارح.. فهذا غاندي وهو غير مسلم يقول بأنه تعلم من الحسين (ع) كيف يكون مظلوماً فينتصر.
س٧/ وفي رواية: (الظالم يحوم حوم نفسه، والمقتصد يحوم حوم قلبه، والسابق بالخيرات يحوم حوم ربه).. فهل للمؤمن أن يحوم حول الحسين (ع) لاستمداد الفيض الإلهي في تربية النفس، وبناء الشخصية والأجيال؟..
الحومان حول الحسين (ع)، بمعنى الحومان حول شخصية الإمام (ع)، وحول مبادئه، وفكره.. لا بمعنى الحومان حول الذات بما هي ذات، أو الجسد بما هو جسد وقعت عليه الجراحات.. فالإمام (ع) حتى وهو في لحظاته الأخيرة، لم يذهل عن ذكر الله عز وجل، بل كان يلهج: (رضاً بقضائك، وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك).
س٨/ كيف لنا أن نقتدي بالحسين (ع) في الارتباط الإلهي والخشوع في الصلاة في كل الأحوال، وخاصة عند الأزمات من الأمور التي قد تذهل المؤمن؟..
إن مما يؤسف حقاً ما يُرى عند البعض، من الانشغال ببعض الأمور عن أداء الصلاة، بعذر أنهم يقيمون عزاء الحسين (ع).. والحال بأن صاحب المناسبة (ع) كان يترقب دخول وقت الصلاة، وقد دعا (ع) لذلك المقاتل الذي ذكّره، بأن يجعله الله من الذاكرين.. وعليه، فإنه ينبغي الاهتمام بموضوع الصلاة خصوصاً في أيام عاشوراء، وفي الأزمات.. فالإمام (ع) له مقام الجامعية، أي أنه مأمور بتفقد أحوال أهله وأصحابه، ولكن عندما يقف بين يدي الله عز وجل ينقطع عن كل شيء، كجده المصطفى (ص).. إن أم المؤمنين عائشة تنقل عن النبي (ص) فتقول: (بأنه كان يحدثنا ونحدثه، فإذا دخل وقت الصلاة فكأننا لا نعرفه ولا يعرفنا).. وكذلك كانت مولاتنا زينب (ع) ليلة الحادي عشر من شهر محرم، وهي مثخنة بهذه الجراح الباطنية، وفي تلك الليلة الموحشة بجوار الجثث، صلت صلاتها في حال الجلوس.
س٩/ إن البعض قد يثير الشبهات في بعض الأساليب والمظاهر الحسينية، بأنها لم تكن في زمان الأئمة (ع)، فما هو التعليق على ذلك؟..
إن الشارع المقدس في طريقته، يعطي العموميات والكليات.. فهو قد طلب منا المودة في القربى، والحزن لحزنهم، والفرح لفرحهم.. ولا شك في أن إبداء هذه المعاني، ليس حكراً على البكاء فقط، فلكل زمان وعصر ولكل بيئة طريقتها.. ولا يعني ذلك أن هذه المظاهر تعد بدعة، بل إنه ينبغي الابتكار في الأساليب المؤثرة، مع الاحتفاظ ببعض الأمور التقليدية.. ومن مصاديق العزاء الحسيني: الأفلام، والتمثيليات، والمواكب العزائية.. فهذه الأساليب كانت مؤثرة في الوجدان الشيعي طوال التأريخ.
س١٠/ كيف يمكن استثمار العطاءات الإلهية في هذا الموسم المبارك والاستفادة منها، بحيث تكون عاملاً للاستقامة طوال العام؟..
أولاً: حاول في هذه الفترة قراءة سيرة الحسين (ع) العملية، فإن ذلك يكشف بعداً لم يكن يراه من قبل.
ثانياً: حاول أن تصطحب أهلك وأولادك وأصدقاءك لمجالس الحسين (ع)؛ فإنها مضان التحول الجوهري حتى للنفوس العاصية، ولا شك أنه يترك أثراً لا شعورياً في نفوس الأحداث.. وذلك لأن للمعصوم (ع) عنايته وإشرافه بعد وفاته، كما أن الأمر كذلك في حياته.. فإذا كان الشهيد حياً مرزوقاً، فكيف بإمام الشهداء؟!..
ثالثاً: العمل على محاولة تغيير جوهري للملكات الفاسدة في أعماق النفس؛ كرامة لهذه الدموع التي يقول عنها الإمام الرضا (ع): (فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)!.. فالإنسان في مثل هذه المواسم المباركة يخرج بهذه الطهارة، فلماذا يفقد هذه النورانية ببساطة؟!..
س١١/ ما هو الحكم الشرعي للممارسات التي تسيء للمذهب: كالتطبير، وغيره؟..
إن من سيرة الأئمة (ع) مسألة مراعاة الظروف، وعدم نقض الغرض.. فينبغي مراعاة ذلك، وخاصة مع كثرة الذين يتحينون الفرص، ويتصيدون المناظر التي يريدونها؛ لتحقيق أغراضهم الدنيئة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.