إكرام الضيف..
إن الشريعة هي عبارة عن مجموعة من: الواجبات والمحرمات، ومجموعة من الآداب والسنن.. بعض السنن واضحة جداً، كصلاة الليل؛ فهي من الآداب المستحبة.. ولكن بعض السنن هناك من لا يراها بنورانيتها كما ينبغي، ومنها: إكرام الضيف!..
أولاً: إن إكرام الضيف عملية مادية، عبارة عن تقديم طعام إلى إنسان ليأكل.. فلو أن إنساناً دعا أخاه المؤمن إلى بيته: فأكل، وشرب، وخرج -طبعا من دون لغو وحرام- هذا هو إكرام الضيف المطلوب شرعاً!..
ثانياً: إن مجالس الضيافة لا تحتوي دائماً على محاضرة، أو كلام نافع.. ولكن الضيافة بما هي ضيافة؛ مطلوبة!.. فإن كان هناك مجلس بعد الضيافة؛ فهذا أمر آخر، نور على نور!..
ثالثاً: كلما كان هناك حاجة للضيافة؛ يكون الثواب أعظم!.. ولكن هذه الأيام -تقريباً- قضية إكرام الضيف، ليست كالأزمنة السالفة: في سابق الأيام لم يكن هناك دور أو فنادق، لذا عندما كان يأتي الضيف الغريب إلى البلد، فإن دعوته إلى منزل أحدهم؛ فرج عظيم بالنسبة له.. ولكن ليس معنى ذلك أن الضيافة فقط في الأزمنة السالفة، الآن أيضاً عنوان الضيافة عنوان شرعي، ولكن كل الأعمال مشروطة بقصد القربة، كي يأخذ الإنسان الأجر الكامل.
آداب الضيافة..
أولاً: عدم التكلف.. عَنِ النَّبِيِّ (صلی الله عليه) أَنَّهُ قَالَ: (لا يَتَكَلَّفَنَّ أَحَدٌ لِضَيْفِهِ مَا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ).. بينما بعض الناس يقع في ضيق لإكرام الضيف، فقد تكون امرأته مريضة تعبة: فلا هو يأتي بالطعام من خارج المنزل، ولا هو يرضى من زوجته بالميسور، وبما أمكن!.. وقد يغضب ويرفع صوته، علماً أن إطعامها للزوج هو غير واجب؛ فكيف بالضيوف؟!.. بعض الناس لديهم شريعة، وهي: أنه لابد من إكرام الضيف كيفما اتفق؛ بينما الأمر يحتاج إلى توافق داخلي!.. وقد يذهب إنسان -في بعض الأوقات- إلى دار مؤمن، فيحدثه بكلمة أو بموعظة؛ وإذا به يريح قلبه، لا يملأ معدته فقط، فمجرد النظر إلى وجهه، والاستماع إلى حديثه؛ يغنيه عن الطعام والشراب.. فكيف إذا كان معه أيضاً طعام وشراب؟!..
ثانياً: التقدير.. إن الضيف هو عبد الله، وعبد الله مقدر!.. لذا، فإنه ليس من آداب الضيافة، إغلاق الباب وراء الضيف بمجرد خروجه؛ وكأنه ارتاح منه.. ورد في كتاب الوسائل عن النبي الأكرم (صلی الله عليه) أنه قال: (من حق الضيف أن تمشي معه، فتخرجه من حريمك إلى الباب).. هذا حق من حقوق الضيافة، أن يشايع الإنسان ضيفه ويمشي معه قليلاً.. وهناك من يقف على الباب إلى أن يمشي الضيف مسافة، ثم يرجع ويغلق الباب.
ثالثاً: توجيه الدعوة.. إن بعض المجالس كأنها وقف على الأغنياء، لا يدخلها إلا غني.. هذه المجالس يكره الذهاب إليها، ويكره إجابة دعوة من يشهد وليمته الأغنياء دون الفقراء، وكأن هذا المكان خاص بالمترفين.. ولكن هذا لا ينطبق على إنسان يدعو جميع الناس إلى بيته، فيأتي الأغنياء وغير الأغنياء؛ هذا ليس له ذنب.. إنما المقصود هو عدم إجابة دعوة إنسان علاقته فقط مع الأغنياء ومع المترفين!..
إن إكرام الضيف كانت سنة إبراهيم الخليل (عليه السلام) فقد كان يحب الضيف، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾، والذين جاءوا لا يعرفهم، لأنهم كانوا ملائكة على شكل بشر، ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ لا يعرفهم ومع ذلك يكرمهم!..
وفي إحدى المرات رُئي أمير المؤمنين حزيناً، فقيل: له: مِمّ حزنُك؟.. قال: (لسبعٍ أتت لم يضف إلينا ضيف)!.. ولهذا فإن من بركات الذهاب إلى المساجد دعوة المؤمنين، ما المانع أن يأتي الإنسان إلى المسجد ويتصفح وجوه الأخوان، ويدعو إلى منزله من يرتاح إليه؟!.. و﴿أَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾، هو عليه أن يوجه الدعوة، وإن لم يلبِّ الطرف الآخر الدعوة لظرف وغيره، فإنه يكتب في ديوانه: إكرام الضيف؛ وهو مأجور على ذلك!..
رابعاً: إكرام الضيف.. إن المبالغة في الإنفاق على طعام الضيف ليس إسرافاً، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لو أن رجلاً أنفق على طعام ألف درهم، وأكل منه مؤمن؛ لم يُعدّ مسرفاً).. هنا الإمام (عليه السلام) يدعونا لإكرام المؤمنين، وخاصة عند الدعوة، حيث أن هناك فرقاً بين إنسان يأتيه ضيف من دون دعوة، وبين إنسان يوجه دعوة ويقيم وليمة.. ففي:
الحالة الأولى: إذا جاء الضيف، فإن من الجود بذل الموجود، عن الإمام علي (عليه السلام): (أفْضَلُ الجُودِ بَذْلُ المَوْجُودِ)..
الحالة الثانية: إذا دعا الضيف، عليه أن يجعل وليمته وليمة محترمة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أتاك أخوك فأتِهِ بما عندك، وإذا دعوتَه فتكلَّف له).
خامساً: إطعام الطعام.. إن بعض الناس لهم -بحمد الله تعالى- بيت واسع، وعندهم مطبخ متميز، وخدم وحشم؛ ولكنه لا يستغل هذه النعمة!.. هذه نعمة طيبة، أن تكون داره مضافة للمؤمنين، عن الإمام علي (عليه السلام): (من كلام له (عليه السلام) بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده وهو من أصحابه، فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟.. أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج!.. وبلى إن شئتَ بلغت بها الآخرة: تُقري فيها الضيف، وتصل منها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها؛ فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة…)..
-(فلما رأى سعة داره).. فمن بركات الأزمنة الأولى، أن نظام هذه الشقق لم تكن موجودة عندهم، وذلك من سعادتهم.. في تلك الأيام من يملك أرضاً واسعة، يبني على قسم منها منزلاً، والبقية يتركها للتأمل، فيتأمل في خلق السموات والأرض.
-(قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟.. أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج)!.. أي لو تصغرها، والباقي تبني به داراً في الجنة.
-(وبلى إن شئتَ بلغت بها الآخرة).. ولكن الإمام كأنه استثنى، فقال: من الممكن أن تجعل هذه الدار مقدمة للآخرة!..
-(تُقري فيها الضيف).. إن شققنا هذه الأيام، لا تناسب ضيافة المؤمنين؛ لأن فيها تداخلاً بين الرجال والنساء.. بعض الناس بيته مصمم بطريقة ليس فيها اختلاط بين الرجال والنساء، وهذه مزية من مزايا أن يبني الإنسان بيتاً بناء ولا يشتريه جاهزاً: إذا بنى داراً، فليجعلها داراً على وفق ما يريده المولى.
-(وتصل منها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها؛ فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة…).. أي إذا جعلت هذه الدار مقدمة للآخرة؛ فهذه دار أخروية.
سادساً: الضيافة المعنوية.. إذا كان إدخال الطعام في بطن المؤمن له هكذا ثواب وأجر عظيم، فكيف بإذهاب الهم والغم عنه؟!.. واضح من المقدمات العقلية، إذا كان إدخال السرور على المؤمن بملء معدته؛ له ما له؛ فكيف إذا رأى الإنسان مؤمناً ملهوفاً غريباً مهموماً مغموماً، ففرّج عنه بكلمة؟!.. ربما هذه الضيافة المعنوية، هي عند الله عز وجل أرقى من الضيافة المادية!.. ولعل هذا المعنى شاهد، ولو من باب المصداق، عن الباقر (عليه السلام) في قول الله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، قلت: ما طعامه؟.. قال: (علمه الذي يأخذه ممن يأخذه).. بما أن العلم نوع من أنواع الطعام، فإن تعليم العلم أيضاً نوع من أنواع الإطعام!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.