- ThePlus Audio
آثار انشراح الصدر على حياة المؤمن
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف لا أتأثر بكلام الآخرين؟
إن من منن الله على رسوله (ص) أن شرح صدره فقال عز من قائل: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[١]. ولشرح الصدر آثار كبيرة في حياة الإنسان. الأثر الأول: قوة التحمل. فالؤمن كالجبل الراسخ، لا تزعزعه العواصف ولا يتأثر من أدنى كلام أو تعريض أو نقد، خاصة إذا كان باطلا مجانبا للصواب. الكثير من الناس، يتأثر بكلام الآخرين وإن كان باطلا، والحال أن الذي يتهمك ويقول فيك باطلا لا وزن له عند الله عز وجل، فكيف تقيم له وزنا؟ فإذا عملت بهذه القاعدة لن تُقيم وزن إلا لمن كان صائبا في كلامه، وإلا ضربت بالكام عرض الحائط.
الأثر الثاني: الاستعداد الباطني لتلقي الفيوضات والتسديدات الإلهية أو انشراح الصدر بالمعارف. لقد التقيت في حياتي بالكثير من عوام الناس ممن لم يتزي بزي أهل العلم ومع ذلك قد فتح الله عليه. إن الله سبحانه يبحث عن القلوب القابلة، كقلب لقمان الذي لم يكن نبيا، بل كان إنسانا متعارفا ولكن آتاه الله الحكمة وأصبح حكيما. إن المؤمن يسأل الله عز وجل في مواطن الإجابة، أن يريه الطريق وأن يهبه النور الكاشف.
ما هو النور الكاشف؟
إننا في حياتنا اليومية لا نواجه مشاكل فيما يتعلق بالحلال والحرام. فنحن نراجع الرسالة العملية ونأخذ التكليف من العالم المجتهد وكما يُقال: نضعها في رقبته ونلقي بالمسؤولية عليه وتنتهي مشكلتنا. ولكن ماذا نفعل في سائر جوانب الحياة؟ ترى الرجل يريد هدم عشه الزوجي بعد ثلاثين سنة، فيتحير في أمر طلاقها. من حرم الطلاق؟ نعم، إنه أبغض الحلال وهو قرار مصيري ليس من السهل اتخاذه وإن لم تصب فيه الهدف، ستعيش في دوامة لا نهاية لها، ولكنك مخير في فعل ذلك أو تركه.
فقد نجد من يود التخلق من زوجته بالطلاق، فيفر من المطر إلى الميزاب. لقد أراد بالطلاق أن يرتاح منها وإذا به يدخل في معركة مع أهلها وأقربائه وأخرى مع أولاده، فتحيط به الزوابع من كل حدب وصوب، ولو كان يرى بعين الله عز وجل وكان ممن وهبهم الله النور الكاشف، لم يُقدم على الطلاق. ويصل الأمر به إلى أن يُظهر الندم ويقول: ليتني تحملتها ولم أتحمل كل هذه التبعات.
التصدي لدعوة الآخرين إلى الله
الأثر الثالث من آثار شرح الصدر؛ أن تتأهل للدعوة إلى الله عز وجل. إننا نجد البعض من الصالحين له مكان كالصومعة يغيب فيه ولا هم له إلا نفسه، وهو دائم الصمت، ينتقل من مشهد إلى آخر في حالة من الاعتكاف الروحي، ولا يُحدث زوجةً ولا والداً ولا أماً. وعندما تسأله عن سر هذه الأحوال، يقول لك: أريد أن أربي نفسي، وأريد التكامل ودرجات القرب. إنه لا يدري أنه ناقص؛ فمن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أن تأخذ بيد التائهين الآبقين. نعم، أن تعتكف فترى زمنية للعبادة ولكسب شيء من درجات الكمال، فلا بأس بذلك ما لم تطل هذه الفترة. فلقد أمضى رسول الله (ص) ثلثي عمره بالعبادة في غار حراء.
إنني لا أدعو إلى الاعتزال أربعين سنة، ولكنني أقول: عش حياة الوحدة والعزلة فترة من العمر لا تطول وركز فيها وحقق بعض المكتسبات المعنوية، ثم تصدى بعدها لهداية الآخرين. لا أعني أن تكون مجتهدا أو عالما متخصصا بالفقه والأصول بالضرورة، ولكن كن هاديا، فما أكثر العصاة من حولك…! إنني أرى بعض المؤمنين في درجة عالية من التقوى، ولكن تجد أخته أو أخوه في درجة سافلة. لماذا لا تعمل على هدايتهم؟ لا تقل: قد ختم الله على قلوبهم، تريد بذلك التبرير لتقصيرك. إن كنت صادقا احمل همومهم، وحاول معهم الكرة والكرتين، وادع الله عز وجل أن يلين قلوبهم، وقد قال عز وجل لنبيه (ص): (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين)[٢].
تاجر جمع بين التجارة والتبليغ
إن بعض البلاد البعيدة في شرق آسيا مثلا، قد دخلها مذهب أهل البيت (ع) ببركة تجار كانوا يحملون هذا الهم في قلوبهم وكانوا يرون أنفسهم معنيين بهداية الآخرين ودعوتهم إلى الله عز وجل. إنهم كانوا أصحاب همم عالية، فجمعوا بين التجارة والدعوة إلى الله عز وجل إلى درجة أصبح للبعض منهم مزارا يزوره أهل ذلك البلد.
ما هو الهم الذي أنقض ظهر النبي (صلى الله عليه وآله)؟
إن الله سبحانه يخاطب نبيه (ص) في سورة الشرح، فيقول: يا رسول الله، نحن شرحنا لك صدرك. ويتبين لنا من ذلك؛ أن القادة الذين بيدهم مقدرات الأمور، وأهل الحل والعقد، وأصحاب القرار كالوزراء والرؤساء الذين يؤثر توقيع واحد منهم على حياة الكثيرين، هم أحوج إلى هذا الشرح ولن يتحقق إلا بقيام الليل. إننا نرى الكثير منهم يعيش على حساب تجربة الخطأ والصواب، فيقول: لأجرب هذا الطريق، فإن تبين لي خطأه، سرت في غيره…! وهو أمر يكلفه كثيرا ولكن لا يبالي.
ويخاطب الله عز وجل في هذه السورة رسوله (ص) أيضا قائلا: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)[٣]. والذي أنقض ظهر النبي الأكرم (ص)، حمل هموم الدعوة، وإلا كانت حياة النبي (ص) الشخصية مستقرة وكانت له زوجة كخديجة (س) وابن عم كأميرالمؤمنين (ع)، ولو رفع يده عن الدعوة إلى الله عز وجل، لعاش في مكة محترماً مقدراً مهاباً. ولكنه (ص) كان يحمل هم المجتمع، ذلك الهم الذي أنقض ظهره.
هل تحمل هموم المسلمين؟
واحمل هم المسلمين حتى في صلاة ليلك. إن هم البعض من المؤمنين لا يتجاوز الأربعين الذين يستغفر لهم في صلاته، ولكن البعض من كبار الأولياء يدعو للمسلمين من المحيط إلى المحيط، فهم عنده أمة النبي (ص) التي ينبغي أن يحمل همها. فأين الأربعين من أمة بأكملها؟ ألم يمت هما أمير المؤمنين (ع) عندما سمع بامرأة ذمية في بلاد المسلمين، اعتدي عليها، وقال: (فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)[٤]. ولذا يستعيذ أهل اليقظة بين الطلوعين في كل يوم لأنفسهم ولأهلهم وأولادهم وإخوانهم في الدين والتي تشمل جميع المسلمين بحسب الظاهر، حتى أولئك الذين يختلفون معنا بالرأي. إذ تجمعنا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ومما خص الله به نبيه (ص) في هذه السورة قوله عز من قائل: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[٥]. إن الله سبحانه لم يُكرم بشرا من أول الخليقة ولن يُكرم إلى قيام الساعة، كما أكرم حبيبه المصطفى (ع) حيث قرت ذكره بذكره في الأذان والإقامة والتشهد والتسليم، والشهادتين. فلو أراد أحدهم الدخول في الإسلام لن يكون مسلما ولو هلل الله ألف مرة ما لم يشهد بنبوة النبي (ص). لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (قال لي جبرئيل قال اللّٰه عزّ و جلّ إذا ذكِرْتُ ذكِرتَ معي.)[٦] فقرن الله عز وجل ذكر حبيبه مع ذكره ورفع له بذلك ذكره.
لا يرتفع لك ذكر بالتحايل
وشتان بين من يتحايل لرفع ذكره ويذهب من أجل ذلك يمينا وشمالا ويريد أن يصبح معروفا بشتى الطرق وبين من يطرق بابه ويتوسل به. لا ينبغي أن يبحث المؤمن عن الشهرة والعاقل يفر منها فراره من الأسد. إن هذه الأيام أصبحت الشهرة آفة، وقد تُكلف الإنسان حياته. وهو يريد الزيارة مثلا، فلا يأخذ حريته ولا يتنقل إلا متخفيا. لماذا تبحث عن الشهرة؟ في عالم الأرزاق اطلب من الله الكفاف وفي عالم الذكر اطلب من الله الخمول وأن يكون قبرك مندرسا بين القبور. لا تتمنى أن تُذكر بين الناس، لأنهم إن أقبلوا عليك أخذوا شيئا من رصيدك الباطني.
مولدة الباطن التي تنطفئ في آخر النهار…!
إنني أشبه العلاقة بالناس بمولدات الكهرباء التي تعمل بشكل منتظم ما لم تسحب منها طاقة أكثر من الذي تُنتجه. فإذا أوصلت جهاز تسخين أو تبريد بها، تبدأ بالتأتأة وقد تنطفئ سريعا. وأنت كذلك، توفر الطاقة في صلاة الليل، ولكن تفقدها شيئا فشيئا بلقاء مع هذا وصراع مع ذاك وبرفع صوتك على أحدهم إلى أن تنطفئ مولدتك الباطنية آخر النهار. المؤمنون العاديون أو المستضعفون من المؤمنين يولدون الطاقة ولا يصرف منها إلا قليلاً، ليبقوا في حيوية ونشاط روحي.
لا تبحث عن الشهرة
فلا تسعى برجليك إلى الشهرة، بل قل: يا رب، إن قدرت لي الشهرة، فالأمر إليك. لقد سمعت بواسطة ثقة، أنه انتقلت المرجعية إلى أحد مراجعنا الماضين قبل أربعين أو خمسين سنة بشكل غير متوقع. عندما قيل له: يا فلان، أصبحت مرشح المرجعية العامة، قال لأحد العلماء الكبار: تعال معي إلى الحرم أدعو وتؤمن، وقال: يا رب، هذه المرجعية إن لم تكن لصالحي فاقبضني إليك سريعاً، ولم تمض إلا أشهر حتى توفاه الله عز وجل ورفع عنه هذا الثقل. وعندما ثنيت الوسادة للشيخ الأنصاري رحمه الله، قال: كان لي زميل في ما مضى كان يفهم الدرس جيدا، فاذهبوا إليه، فلعله هو الأعلم، فإنني لم أره منذ زمن طويل. لا تبحث عن الشهرة ولكن إذا أتتك رغماً، فقل: يا رب، لا حول ولا قوة إلا بك، فإنها مصيبة قد وقعت.
مع كل عسر، يسرين…!
ثم يقول سبحانه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[٧]. تقول القاعدة النحوية: إذا تكررت المعرفة في الكلام؛ فهو في حكم الواحد لا الاثنين. فالعسر في هاتين الآيتين عسر واحد. فإذا ابتليت بمرض لا علاج له، فإنه عسر واحد معه يسران. فهناك نكرتان ومعرفة واحدة؛ يعني هنالك يسران وعسر واحد، ولن يغلب العسر الواحد عسرين كما روي. والآية دقيقة جداً، فهي لم تقل: إن بعد العسر يسرا، بل قالت: إن مع العسر؛ أي أن العسر واليسر متماأنت مريض والشفاء معك، وأنت واقع في ورطة والحل معك، فقل: يا رب، هذا الذي معي، بينه لي، وامزج لي هذا العسر باليسرين.
ثم يقول عز من قائل: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ)[٨]؛ أي يا رسول الله، إذا فرغت من الدعوة ومقارعة المشركين أمثال أبي جهل وأبي لهب، وانتهيت من بعض مشاكل الدعوة الكثيرة، وفرغت من إرشاد الناس في ذلك اليوم، فأتعب نفسك بالعبادة ولا تقل: انتهت المهمة وانتهى دوري لهذا اليوم. وأنت إذا ما أنجزت مشروعاً أو ألقيت خطاباً أو ألفت كتاباً أو حللت مشكلة عويصة، اذهب إلى محرابك وأتعب النفس بالعبادة. وبعبارة أخرى: إذا أردت مزيدا من التوفيق، فارعب في المزيد من العبادة.
كيف نحصل على مزايا القرب من الله؟
يأتيني بعض الشباب الطيب في المشاهد ويسألون: كيف نحصل على مزايا القرب؟ فأقول لهم: ماذا تريد بالمزايا؟ كن عبدا لله عز وجل ولا تبحث عن المزايا، فهو أعلم بما ينفعك. ارغب إلى ربك لا إلى عطائه وجنته وحوره وقصوره…! فالكريم هو أعلم بما يُعطيك وما لا يعطيك. إن أيوب الذي أصبح مضرب مثل في الصبر والذي ابتلي بأعظم الابتلاءات، كان مؤدبا مع ربه إلى أبعد الحدود، فقال وهو الذي كان غرضا لنبال المصائب: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[٩]؛ أي يا رب، لا أعلمك ماذا تصنع بي ولكن قد مسني الضر والأمر إليك؛ فأنت أرحم الراحمين.
خلاصة المحاضرة
- يأتيني بعض الشباب الطيب في المشاهد ويسألون: كيف نحصل على مزايا القرب؟ فأقول لهم: ماذا تريد بالمزايا؟ كن عبدا لله عز وجل ولا تبحث عن المزايا، فهو أعلم بما ينفعك. ارغب إلى ربك لا إلى عطائه وجنته وحوره وقصوره…! فالكريم هو أعلم بما يُعطيك وما لا يعطيك.
- لقد التقيت في حياتي بالكثير من عوام الناس ممن لم يتزي بزي أهل العلم ومع ذلك قد فتح الله عليه. إن الله سبحانه يبحث عن القلوب القابلة، كقلب لقمان الذي لم يكن نبيا، بل كان إنسانا متعارفا ولكن آتاه الله الحكمة وأصبح حكيما.