موضوعنا اليوم تأملات في حياة الإمام الرضا (ع) ، وهو الإمام الثامن ، هذا الإمام الذي كان الإمام الصادق (ع) يبدي شوقه لولادته ، ويتمنى أن يرى هذا الحفيد من ولده موسى بن جعفر (ع) .
سبب التسمية :
الإمام الجواد (ع) يُفسر السبب في تسمية الإمام بالرضا حيث يقول : ( رضي عنه الموافق و رضي عنه المخالف ) ؛ فالإمام (ع) وصل إلى درجة من درجات الثبات في هذه الأمة ، وشهرته أطبقت الآفاق ، بحيث أن المأمون رأى أن حكمه لا يثبت ، إلا بالاستعانة باسم الإمام الرضا (ع) ؛ لهذا فقد أجبره على الهجرة من مدينة جده المصطفى (ص) ، قاطعا البراري والقفار ، لكي يجبره على قبول ولاية العهد .
والإمام (ع) لم يصل إلى هذه الدرجة من الشُّهرة والمقبولية في قلوب الأمة ، إلا بأمرين : أولا : بجهاد أجداده كالحسين (ع) ثانيا : بما أسسه أجداده الإمامين الباقر والصادق (ع) من العلم و الفكر.. فمعجون الدم والجهاد و معجون القلم والفكر أنتجا هذا الاسم اللامع في حياة الأمة ، حتى أن الإمام الجوادي الإمام الهادي (ع) كانا يلَقَبَان بابن الرضا لشهرته (ع) .
الإمام الرضا وولاية العهد :
من الواضحٌ أن الإمام الرضا (ع) لو تُرك وما هو فيه لما تقدم نحو هذه الخلافة الباطلة قيد أُنملة ، فالإمام (ع) لا يعترفُ بمن تسلم أمر هذه الأمة بدون إذن شرعي ، السلطة والسلطنة والعزة لله وللرسول ، ولمن حدد الله والرسول ، ذلك المنهاج الذي ينطبقُ عليه (ع) ، ولنستمع إلى ما يمثل هذا المعنى بين الإمام الرضا (ع) وبين المأمون ، وقد روي في علل الشرائع وفي العيون والطوسي ، فقد قال له المأمون في حركة ذكية : يا ابن رسول الله قد عرفتُ فضلَك وعلمَك وزهدك وورعك وعبادتك ، وأراك أحقّ بالخلافة منّي. وكان يريد أن يجس ميل الإمام (ع) في إمرة هذه الدنيا ، فقال له الرضا (ع) إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك ، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك .. وطال النقاش بين الإمام (ع) والمأمون إلى أن قال المأمون : لا بد لك من هذا الأمر ، قال الرضا (ع) : لستُ أفعل ذلك أبدا ، فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله ، وأخيرا وصل الأمر إلى تهديد إمامنا (ع) ، ذلك التهديد الذي نُفذ في أيام استشهاده ، فقد أراد المأمون أن يوصل رسالة غير صحيحة عن الإمام (ع) للناس مفادها : إن الإمام الرضا (ع) لم يزهد في الدنيا ، ودليل ذلك قبوله ولاية العهد من بعد المأمون طمعا في الخلافة ، والإمام (ع) أورد هذه المعاني للمأمون ، عند ذلك غضب المأمون وقال : فبالله أُقسم لئن قبلتَ ولاية العهد وإلا أجبرتُك على ذلك ، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك . وقد بلغ الإمام (ع) مبلغا في نفوس الأمة ، ولهذا نرى أن الخلفاء مثل المنصور لم يُجبر الإمام الصادق (ع) على قبول ولاية العهد .. كذلك هارون الرشيد لم يجبر موسى بن جعفر (ع) على أن يقبل ذلك ، و هذه هي ثمرة الاستقامة .. والعلم .. والجهاد ..
دروس بليغة من حياة الإمام الرضا (ع) :
أولا : الرضا بقضاء الله وقدره : فالإمام (ع) يخرج من مدينة جده .. تاركا ولده الجواد (ع) وأهل بيته .. وتاركا تركة موسى بن جعفر (ع) .. وجوار أمه الزهراء (ع) .. وقبر جده المصطفى (ص) ، ويذهب إلى بلاد طوس النائية ، في أقصى المشرق الإسلامي ، لماذا ؟ .. لأن الله رضي له بذلك . و في الحقيقة إن المعاناة التي عاشها الإمام الرضا (ع) معاناة عظيمة جدا ، إلى درجة أن إمامنا تمنى الممات في مُقابل ذلك ؛ لأنه وُضع في موضع لا يَليقُ بالإمامة أبدا ، فالدنيا بحذافيرها لا قيمة لها عند المعصوم (ع) حتى يُجعل ولي عهد للطاغية المأمون العباسي .
درجات الرضا بالقضاء والقدر : الناس بالنسبة لقضاء الله على درجات ، وكلنا مطالب بأن يغوص في أعماق وجوده لكي يعرف إلى أي درجة هو ينتمي ، فالقضاء والقدر قد يوافق المزاج مرة ، كأن يُوفق المرء إلى زوجة صالحة ، ولكن الامتحان العسير عندما لا يوافق القضاء والقدر المزاج ، كخسارة مالية كبرى .. فقد عزيز .. فهنا يُقيِّم الإنسانُ نفسه . وهناك أنماط للناس بالنسبة لمواقفهم من القضاء والقدر :
النمط الأول : هو الخاسر الذي يتبرم من القضاء والقدر ، ويُظهر هذا التبرم ، ويتهم الله عزوجل في قضائه ، فإذا كان كلامه بوعي وشعور فهو كافرٌ بالله عزوجل .
النمط الثاني : هو الذي لا يُظهر التبرم لعلمه أن هذا يُساوق الكفر ، ولكنه يعيش الغليان الباطني ، يخاف أن يتفوه بكلمة ، لهذا عندما يواجه البعض يقول لا تستفزني لعلي أكفر بالله عزوجل ، فهذا لم يكفر بالله عزوجل ، ولكنه على حافة الكفر النفسي ، وإن كان بعيدا عن الكفر اللساني والاعتقادي .
النمط الثالث : هو القسم الذي يُسلم ، فليس عنده سخطٌ وليس عنده رضا ، بل هي حالة وسطية ، يرى نفسه مُسَلِّمَا بين يدي الله عزوجل ، كالمريض بين يدي الجراح ، هو لا يرضى بهذه العملية لما فيها من آلام ، وفي نفس الوقت لا يتبرم ، وإنما يوقع على العملية المؤلمة وقد تُودي بحياته ، ولكنه يعيش حالة التسليم
النمط الرابع : وهو النمط الأرقى ، فإذا تحول الإنسان إلى هذه الدرجة أصبح أسعد إنسان ، لأنه لا يرى في الوجود إلا جميلا ، كما رأته زينبا (ع) في يوم عاشوراء ، وكما قالت أمام الطاغية في مجلسه ، عندما سألها : كيف رأيت صنع الله بكم ؟ فقَتْل الحسين (ع) جميلا ؛ لأن الله شاء أن يراه قتيلا ، و شاء أن يراهن سبايا ، وهو نمط الرضا بقضاء الله وقدره .
معادلتي الرضا بالقضاء والقدر : إخوتي ، اجمعوا في نفوسكم بين معادلتين اجمعوها في قلوبكم ، ولا حاجة بكم بعدها إلى طبيب نفساني أو دواء مخدر : ١. سطر مقتبس من القرآن : ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا – التوبة ٥١ ﴾ ٢. وآخر من العقيدة والبرهان والوجدان : ( ما كتب الله لنا فيه صلاحنا ) كمؤمنين وكمرضيين … وما النتيجة المنطقية ؟ .. ( قل لن يصيبنا إلا ما فيه صلاحُنا ) فالذي يعيش هذا المنطق يرى أن الله عزوجل لا يكتب له إلا ما فيه الصلاح ، فهل يا ترى يعيش هذا الإنسان مرحلة الكفر والسخط بالقضاء والقدر ؟.. لا ، بل أنه يترقى عن ذلك ويتمنى ما يكتب الله عزوجل له .. ويرى أن ماوقع به منحة من رب العالمين . مثال : أحدُ العلماء في عيد الغدير ابْتُلِيَ بوفاة ولده ، فعندما سمع الصراخ في المنزل قال : إن هذه عطية الله وهديته في يوم الغدير . نعم ، هو ينظر بهذا المنطق لمجريات الأمور .
آثار الرضا بالقضاء و القدر : فالإمام الرضا (ع) أراد بحركته أن يوضح لنا هذا المفهوم من خلال عمله ، إخواني ثقوا أن الذي يرضى بقضاء الله وقدره ويحب ذلك خيره وشره .. لذيذه ومره هذا الإنسان بلغ بلوغين : أولا : بلوغ في عالم التفكير ، لأنه وصل إلى مرحلة اعتقد بأن الله عزوجل هو الرب الودود .. الرب الذي لا يمكن أن يكتب لعبده المؤمن إلا ما فيه الخير والصلاح ، ثانيا : البلوغ القلبي الذي لا يرى لنفسه وجودا في قبال الله عزوجل . يقول بعض علماء الأخلاق من أعلى درجات الكمال في الوجود أن يرى الإنسان نفسه عبدا بين يدي الله عزوجل .. فأنت تحس بالزوجية من أول لحظات الزواج .. تحس بالأبوة من اللحظات الأولى لقدوم المولود ..عندما تضع قدمك في الوزارة تحس بحالة الوظيفية .. فهل أحسست يوما من الأيام بالعبودية بين يدي الله عزوجل ؟!… والعبودية معنى من المعاني ، وبلوغٌ في عالم القلب ، فهل تحس به ؟.. ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً – مريم ٩٣ ﴾
ثانيا : سعة الصدر : بعض المؤمنين يشتكي من عدة مواقع … البعض يسأل : ماذا أعمل قِبال ظلم الزوجة ؟ .. رب العمل يشتكي من العامل والعكس .. ويعيش حالة من حالات التبرم وضيق القلب … ولكن انظروا إلى سعة صدر الإمام الرضا (ع) إلى عظمة عفوه ، ذلك العفو المقتبس من عفو الله عزوجل ، فليس جُزافا أن يُسمى الإمام (ع) بالإمام الرؤوف . مثال : الجَلُّودِي كان في خلافة الرشيد ، وقد هجم على دور آل أبي طالب في المدينة .. وقد ذهب ليسلب النساء من آل النبوة . فنظر إليه الإمام الرضا (ع) بعد أن وضع النسوة في بيت ووقف على باب البيت ، فقال الجلودي : لابد أن أدخل البيت ، فأسلبهن كما أمرني الرشيد .. فقال الإمام الرضا (ع) : أنا أسلبهن لك ، و أحلف ألا أدع عليهن شيئا إلا أخذته ، فدخل الإمام (ع) على نساء النبوة ، فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن ، وخلاخيلهن ، واُزرهن إلا وأخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل أوكثير . تمر الأيام ، ويذهب الإمام (ع) إلى طوس ، ويُنادى بولاية العهد ، يُكتب اسمه على سكة التداول في أسواق المسلمين ، وإذا بالجلودي يُدخل على المأمون في جريمة اقترفها ، فقال الإمام الرضا (ع) : للمأمون : هب لي هذا الشيخ !!.. وكان الإمام (ع) يريد أن يخلصه مما هو فيه ، فقال المأمون : فقال المأمون : يا سيدي ! هذا الذي فعل ببنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعل من سلبهن ! !.. فنظر الجلودي إلى الإمام ( عليه السلام ) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له ، فظن أن الإمام يعين عليه ، لما كان قد فعله من اقتحامه دار الإمام ، وإرعابه أهل بيته . فقال الجلودي : يا أمير المؤمنين ! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في ! ! فقال المأمون : يا أبا الحسن ! قد استعفى ، ونحن نبر قسمَه .فقُدم وضُربت عُنقه . وهذه القصة مما لا نستغربه على إمامنا الرضا (ع) ، وهذا جده أمير المؤمنين (ع) يُوصي خيرا بقاتله ابن ملجم .
الدرس : أن لا نستمع لهذه القصة لنعيش حالة الأمل بالشفاعة يوم القيامة فحسب ، و لكن أن نتأسى بالرضا (ع) .. فالجلودي عمل ما عمل ، ولكن الإمام (ع) لم ينتقم من هذا الإنسان ، لماذا ؟ ( صل من قطعك ، أحسن إلى من أساء إليك ) هذه سنة النبي (ص) والمعصومون من ذريته .
ثالثا : التواضع : دخل الإمام (ع) وهو على هيبته ليستحم ، وإذا أحدهم يقول للإمام (ع) : يا فلان دلكني ، وهو لا يعلم أنه إمام زمانه ، فقِيْل له : أتعرف خاطبت من ؟.. فلما عرف جعل الرجل يعتذر من الإمام الرضا (ع) وهو يُطيب قلبه ويُدلكه . وهذا هو التواضع .. والترابية .. والأريحية . بعض المؤمنين لا تدري من أين تكلمه .. خوفا من غضبه وانفعاله .. تدخل من أكثر من باب حتى تمرر فكرة بسيطة ، وهذا ليس من دأب المؤمن ، فالمؤمن هيِّن .. ولنا في رسول الله قدوة حسنة ، إذ يرى رجلا يرتجف وهو يتكلم معه ، فيقول له : ( هَوِّن عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ).
رابعا : الأريحية والتواصل مع المؤمنين : هذه الرواية من الروايات التي تُثير العواطف نتمنى لو كنا أدركنا عصر المعصومين (ع) لنتنعم بفيضهم ، هذا الفيض الذي كان عاما لشيعته ومحبيه . البزنطي من المقربين من أصحاب الإمام الرضا (ع) ، ولعل المراجع في عصرنا هذا أفضل علما وعملا من بعض أصحاب الأئمة (ع) ، لأنهم في عصر الغيبة ، وقد آمنوا بسواد على بياض ، أتعبوا أنفسهم في استنباط الأحكام الشرعية ، وأصحاب الأئمة كانوا في رفقة المعصومين (ع) ، فإذا بلغوا مرتبة من المراتب فلا عجب في ذلك . تقول الرواية : بعث الإمام الرضا (ع) للبزنطي بدابة .. قال : فركبت الدابة وأتيته ، فأقمت عنده بالليل إلى أن مضى منه ماشاء الله ، فلما أراد أن ينهض قال : لا أراك أن تقدر على الرجوع إلى المدينة ، قلتُ : أجل جُعلتُ فداك فقال : فبِتْْ عندنا الليلة ، واغدوا على بركة الله عزوجل ، قلتُ : أفعل ، عندئذ قال : يا جارية ، افرشي له فراشي واطرحي عليه ملحفتي التي أنام فيها ، وضعي تحت رأسه مخادِّي ، قلتُ في نفسي من أصاب ما أصبتُ في ليلتي هذه ، لقد جعل الله لي من المنزلة عنده وأعطاني من الفخر ما لم يُعطِهِ أحداً من أصحابنا ، وأنا أُحدثُ نفسي ، قال الإمام (ع) : يا أحمد إن أمير المؤمنين (ع) أتى زيدا في مرضه يعوده فافتخر على الناس بذلك فلا تذهبن نفسك إلى الفخر ، وتذلل لله عزوجل ، واعتمد على يده فقام . نعم ، هذه الأريحية ، هذا التواصل ، هذه المحبة الغامرة ، بين أجواء المؤمنين ، فلنتأسى بهم (ع) .
خامسا : عدم التوقف في زمان ولا في مكان : أن لا يتقيد الإنسان في حركته في سيره إلى الله عزوجل بمكان ما ، البعض إذا هاجر من بلاد المسلمين ، إذا ابتعد عن المسجد لظرفٍ ما ، إذا فارق إمام جماعة يُحبه ، إذا ابتعد عن أجواء الهدى ، وإذا به ينتكس وينتكس ، وكأنه قد أُعفي عن كل شيء . فالإمام الرضا (ع) يترك المدينة إلى أرض طوس ، وأرض طوس بقعة عادية من بقاع الله عزوجل ، ولكنها تبركت بمدفن الإمام الرضا (ع) . الإمام يتحرك من مكان إلى مكان ، وهو يعيش مع رب العالمين . في زمان النبي (ص) هاجر جعفر بن أبي طالب ، وثلة من المؤمنين إلى بلاد الحبشة هجرة إلى الله عزوجل وعبدوا الله حق عبادته ، وفي زمان الرسول أيضا يذهب أمير المؤمنين (ع) لتبليغ الدين إلى اليمن يبتعد عن رسول الله وهو يعيش أجواءه .
علينا أن نجعل سبيلا إلى الله ﴿ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً – الفرقان ٥٧ ﴾ أينما حلَّ ونزل في حجٍّ .. في عمرة .. في سفر .. في حضر .. في غرب في شرق .. عليه أن يعيش جوَّهُ ولا يتأثر بتغير الزمان والمكان ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ – الحديد ﴾
﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ – البقرة ١١٥ ﴾.
دروس من حياة الإمام الرضا :
أولا : الرضا بقضاء الله وقدره
ثانيا : سعة الصدر
ثالثا : التواضع
رابعا : الأريحية والتواصل مع المؤمنين
خامسا : عدم التوقف في زمان ولا في مكان
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.