• ThePlus Audio
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

وقفة تدبرية في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في وداع شهر رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

هل أنت حزين لفراق الشهر؟

لو تأملنا دعاء الإمام زين العابدين (ع) في وداع شهر رمضان المبارك، لتبين لنا من فقراته شدة أنسه بأيامه ولياليه ومن هذه الفقرات قوله (ع): (فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا اِنْصِرَافُهُ عَنَّا)[١]. لو ذهبت إلى المطار ووجدت جماعة تودع عزيزا لها، لاستطعت أن تشخص من بينهم والدته، لأنها تبكي بلهفة وأنين. إننا كلنا نستشعر ألم فراق الأحبة وهذا الشهر هو كذلك بالنسبة إلى الإمام زين العابدين (ع).

ومن كان مأنوسا بأجواء الليالي والنهار في هذا الشهر وبتلاوة القرآن وقيام الليل، يوحشه فراق الشهر وقد يذرف الدموع عندما يسمع بقدوم العيد. نعم، إنه يفرح من جانب بقدوم هذا اليوم المبارك ويحزن أن يده لا زالت خالية وأنه لم يستحصل الزاد الذي أراده. وهذا الإحساس بخلو اليد وبالفقر، من موجبات التضرع والاستكانة. وقد ورد أن ليلة العيد كليلة القدر، وإن كانت ليالي القدر لا تضاهيها في السنة ليلة، ولكنها كثيرة البركان يغفل عنها المؤمنون. وبمقدار ما نعيش هذا الغم والهم لفراق الشهر الكريم؛ نعلم أننا قد استثمرنا هذا الشهر لزراعة الأعمال الصالحة.

ما كان أطولك على المجرمين…!

ومما ورد في هذا الدعاء قوله (ع) مخاطبا الشهر: (اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى اَلْمُجْرِمِينَ)[٢]. ونحن نرى الذين أفطروا في هذا الشهر من دون عذر كم يعانون من نظرات الازدراء لهم ويتمنون خلاص هذا الشهر لكي يرتاح أحدهم من هذا الخزي والعار الذي لحقه بالإفطار في شهر رمضان المبارك.

إن لشهر رمضان المبارك حقيقة كحقيقة القرآن الكريم. إن هذا القرآن المدون بين الدفتين، إنما هو مظهر للقرآن الكريم في اللوح المحفوظ والذي أنزله الله عز وجل في ليلة القدر فقال: (إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةࣲ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)[٣]. ولذا اختلفوا في الذي أُنزل على قلب النبي الأكرم (ص)؛ هل هي الآيات هذه أم أنه حقيقة الآيات ونور القرآن ومعناه؟

إن لشهر رمضان المبارك كما سائر مظاهر الوجود، ملكوت هو غير الصيام. وقد روي عن النبي (ص) في خطبته الشعبانية أنه قال في بيان شيء من ملكوت هذا الشهر: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ)[٤]. ومن يحزن على فراق هذا الشهر الكريم، فإنما يحزن على هذه الحقيقة. إنه لا يفارق الصوم الذي هو الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما يشعر بفراق النور الذي كان يلف هذا الشهر الكريم. وهو قد لا يستوحش كثيرا في ليلة العيد لما فيها من بركات وإنما تبدأ وحشته في الليلة الثانية من شهر شوال؛ فهي ليلة موحشة يتعاظم فيها شعوره بالحزن.

أجفى شهر في العام

إن الله سبحانه يُعوض عباده ببركات ليلة العيد في شهر شوال. ولكنه يبقى مع ذلك من أجفى الشهور في السنة لخلوه من المحطات العبادية كشهري رجب وشعبان وخلوه من المحطات الولائية كشهري محرم وصفر. ويُمكن القول: إن شهر شوال واحة قاحلة بعد هذه المزرعة المباركة. فلابد أن يستعد المؤمن بعد شهر رمضان المبارك، لاجتياز هذا الشهر بسلام. لأن الشياطين في هذا الشهر قد أعدت عدتها وكثفت من كيدها ومؤامراتها انتقاما لما قام به المؤمن في شهر رمضان.

ولذا ترد علينا بعض الرسائل من المؤمنين يذكرون فيها شهر شوال على أنه أسوء شهر مر عليهم. نعم، إن أحدنا كان قبل عدة أيام يُحيي ليالي القدر بما فيها من بركات وإذا به يرى نفسه في شهر شوال يفقد تدريجيا تلك البركات ويتسرب ما كسبه من خزان المعنويات…! ولذا ينبغي أن يلزم الإنسان هذا الدعاء ويدعو به في مواطن الاستجابة: اللهم لا تسلب مني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ولا تردني إلى سوء استنقذتني منه أبدا.

المعلولات قائمة بعللها

يقال في الفلسفة: المعلولات قائمة بعللها، فإذا استطعت أن تُبقي على الأسباب التي أكسبتك النور في شهر رمضان المبارك، فإن هذا النور سيستمر معك حتى بعد الشهر؛ فالمعلول يدور مدار العلة وأينما وجدت العلة وُجد المعلول. إنك تُجاهد نفسك في الحج بالتزامك بتروك الحج وكذلك تفعل في شهر رمضان المبارك حيث تجتنب المفطرات من الطعام والشراب وغيرها والأمر ذاته في الصلاة التي تلتزم ببعض التروك فيها عند تكبيرة الإحرام، هذه المجاهدات هي من أجل التكامل بالتأكيد. لماذا تألقت في شهر رمضان ساعة الافطار؟ ماذا كنت تعيش من مشاعر؟ قد تكون ممن يُقيم الليل طوال السنة ولكن شاهدت في أسحار شهر رمضان أن القيام مميز له طعم آخر، وقراءة القرآن في هذا الشهر لها حلاوة  لا تجدها في سائر الشهور.

فمن أراد أن يُبقي على هذه اللذات الرمضانية؛ فلابد أن يقوم ببعض المجاهدات التي كان يقوم بها في شهر رمضان. فاستمر على أقل التقادير عشرة أيام من شوال بقيام الليل وتلاوة القرآن والحفاظ على أجواء الشهر. وإنني أعتقد أنك بعد هذه الأربعينية بما فيها من قيام وصيام وتلاوة قرآن وترك حرام، يتغير مزاجك وتُحلق في أجواء عالية راقية.

لا تسلب اختيارك باختيارك…!

لقد روي: (لاَ يَزَالُ عَلَى اَلْحَاجِّ نُورُ اَلْحَجِّ مَا لَمْ يُذْنِبْ)[٥]؛ فلا ينبغي أن يغتر الحاج بما كسب في الحج ويظن أنه قد نال صك الغفران؛ بل عليه الحذر من الزلة الأولة التي تطفئ هذا النور المكتسب بعد جهد ونصب. وليس هذا الأمر خاصا بالحج؛ بل هو سار في مكتسبات الإنسان في شهر رمضان المبارك. ويُمكننا تشبيه الزلة الأولى بالخطوة الأولى التي يخطوها المتزحلق على الجليد؛ فهو يرفع الخطوة الأولى باختياره ولكن ينتهي به المطاف في نهاية الوادي من دون اختيار. ولهذا يقال في الاعتقاد: سلب الاختيار بالاختيار لا ينافي الاختيار. إن الشيطان يستزلك لهذه الخطوة نظراً محرما أو قولاً أو فعلا، لينتهي بك المطاف في واد العصيان السحيق.

ومما يطلبه الإمام (ع) في دعاء الوداع قوله: (اَللَّهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَهْلِ دِينِنَا جَمِيعاً مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ)[٦]. وهذا الدعاء يُبين لنا نهجا ثابتا عند أئمة أهل البيت (ع) جميعهم؛ فقلوبهم تتسع لجميع الخلق حتى العاصين منهم. وقد قال النبي (ص) للمشركين يوم فتح مكة: (اِذْهَبُوا فَأَنْتُمُ اَلطُّلَقَاءُ)[٧] وقال (ص) عندما طلب من جبرئيل أن يدعو على من رموه بالحجارة حتى أدموه: (اَللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)[٨]. وكان الإمام علي (ع) يسمع عن الاعتداء على ذمية في بلاد المسلمين فيقول: (فَوَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ اِمْرَأً مَاتَ مِنْ دُونِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ عِنْدِي مَلُوماً، بَلْ كَانَ عِنْدِي جَدِيراً)[٩].

أين أنت عن الدعاء للعاصين؟!

وهذا إمامنا زين العابدين (ع) يعم الخلق بدعائه وبهذا يتأسى المؤمن ويعم الخلق بدعائه ويحمل في قلبه هم هداية العاصين. وقد تحير أحد العلماء في ليلة القدر بما يدعو به فقال بعد طول فكرة: اللهم اغفر للعصاة ومن على غير المسلمين بالإسلام…! فما المانع من أن تُغير ياء النسبة بنون المتكلمين؟ فتقول بدل اغفر لي، اغفر لنا؟ إنني أدعو إلى الالتزام بالمأثور من الأدعية وعدم تغييرها كقول الله عز وجل: (رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنࣲ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا)[١٠] أو قوله عز من قائل: (رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنࣰا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ)[١١]. إن هذا الإحساس بطلب المغفرة الجماعية تكشف عن حالة من الرأفة الإيمانية في نفس المؤمن.

[١] الصحیفة السجادیة ص١٩٢.
[٢] بحار الأنوار / الجلد ٩٥ / الصفحة ١٧٢.
[٣] سورة الدخان: ٣.
[٤] الأمالی (للصدوق)  ج١ ص٩٣.
[٥] المحاسن  ج١ ص٧١.
[٦] الصحیفة السجادیة ص١٩٢.
[٧] الکافي  ج٣ ص٥١٢.
[٨] بحار الأنوار  ج٢٠ ص١١٦.
[٩] شرح الأخبار  ج٢ ص٧٤.
[١٠] سورة اللفرقان: ٧٤.
[١١] سورة نوح: ٢٨.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • من كان مأنوسا بأجواء الليالي والنهار في هذا الشهر وبتلاوة القرآن وقيام الليل، يوحشه فراق الشهر وقد يذرف الدموع عندما يسمع بقدوم العيد. نعم، إنه يفرح من جانب بقدوم هذا اليوم المبارك ويحزن أن يده لا زالت خالية وأنه لم يستحصل الزاد الذي أراده.
  • إن لشهر رمضان المبارك كما سائر مظاهر الوجود، ملكوت هو غير الصيام. وقد روي عن النبي (ص) في خطبته الشعبانية أنه قال في بيان شيء من ملكوت هذا الشهر: (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة). ومن يحزن على فراق هذا الشهر الكريم، فإنما يحزن على هذه الحقيقة.
Layer-5.png