وقفات تأملية في زيارة عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم
مكانة زيارة عاشوراء بين المؤمنين
تحتل زيارة عاشوراء مكانة خاصة عند البعض من المؤمنين وهم لا يفارقون هذه الزيارة إلى آخر أعمارهم. ولابد للاستفادة القصوى من بركات هذه الزيارة؛ الإلمام بشيء من المعاني الواردة فيها والمفاهيم التي تضمنتها. لقد سمعت من طلاب أحد مراجعنا العظام أنه كان يتمنى ألا يموت في يوم إلا وقد أكمل قراءة زيارة عاشوراء في ذلك اليوم. وهذه الزيارة مليئة بالأسرار قد نكشف للمواظب على قراءتها بعض هذه الأسرار. وقد رأيت من فُتحت لهم بعض الأبواب التوحيدية من خلال هذه الزيارة وإن كانت هي في ظاهرها زيارة ولائية مرتبطة بالحسين (ع).
لا تستعجل قطف الثمار
ولكن ينبغي ألا يستعجل المؤمن الثمار، وإن كانت العجلة فطرة متأصلة في البشر؛ فترى الرجل يُقيم صلاة الليل فترة من الزمن ثم يتسائل: أين الثمرات؟ هذا وتذكر الروايات الشريفة؛ أن من يبغي من المستحب أن يعطيه الثمرة المرجوة، فلابد وأن يصبر سنة كاملة.
هناك بحث بين العلماء هو: هل أن زيارة عاشوراء تُقرئ للحوائج أو ينبغي أن تُقرئ بلا نية الحاجة؟ فهل يصح أن نقرأ هذه الزيارة بما فيها من مضامين عالية ومبكية كقولنا: (فَأَسْأَلُ اَللَّهَ اَلَّذِي أَكْرَمَ مَقَامَكَ وَأَكْرَمَنِي بِكَ أَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ)، وقولنا: (عَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ) ونحن نريد بها زوجة أو مالا أو منزلا؟ فالأفضل أن تقرأها تودداً لله ولرسوله ولحسين (ع)، وهم أعلم بما يصلحك وسيُكرمونك بما يروه مناسبا. وبصورة عامة لا ينبغي للمؤمن أن يحدد حاجته، فقد ورد في حديث قدسي: (يَا اِبْنَ آدَمَ أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ وَلاَ تُعَلِّمْنِي مَا يُصْلِحُكَ)[١]. فلو أردت الرزق قل: يا رب، ارزقني رزقا واسعا حلالا طيبا ولا تقل: أريد العمل الفلاني والوظيفية الفلانية.
كيف يكون محياك محياهم؟
مما ورد من المضامين العالية في هذه الزيارة دعائنا: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ مَحْيَايَ مَحْيَا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمَمَاتِي مَمَاتَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ)، وهذه العبارة دقيقة جدا. الذي يبحث عن الشهادة والذي يريد الحشر مع محمد وآل محمد (ص) لابد وأن يكون محياه محيا محمد وآله (ص). لابد وأن يكون سلوكك حسينيا ومحمديا، لا أن تكتفي بلس السواد وإقامة العزاء والحضور في المجالس الحسينية في العشرة الأولى من شهر محرم. فالتاجر لابد وأن يكون أمينا في تجارته إذا أراد أن يتشبه بهم (ع) والمتزوج لابد وأن يكون بارا بأهل بيته وعياله إذا أراد أن يحيى محياهم، وبقول جامع: لابد وأن نتأسى بالنبي (ص) في جميع أفعاله. وقد كتب في هذا المجال العلامة الطباطبائي صاحب الميزان رحمه كتابا أسماه سنن النبي (ص)، يجدر بالمؤمنين الرجوع إليه للاطلاع على سنة النبي (ص) وسيرته.
تأمل في سيرتهم لتتأسى بها
وينبغي كذلك أن تكون للإنسان وقفة وتأمل في سيرة الأئمة (ع) قبل زيارتهم. فلا تزر الإمام وأنت جاهل بمقامات وحاول أن تطلع ولو على شيء يسير من خلال كتاب بحار الأنوار، أو كتاب منتهى الآمال للشيخ عباس القمي إن أردت الاختصار. وبإمكانك أن تستثمر طريق الزيارة لقراءة هذه الكتب النافعة، والاطلاع على شيء من مقاماتهم التي لا نُحيط بها. فعلى سبيل المثال يقول أبوهاشهم الجعفري أنه دخل على الهادي (ع) فأخبره بما كان يدور في ذهنه، فتعجب من ذلك، فبين له الإمام (ع) أنه ليس هذا إلا شيء يسير من مقامات المعصوم.
لماذا تعجب من مقامات المعصوم؟
إن هؤلاء حجج الله على الخلق، وخلفائه في الأرض ولابد من سنخية بين الخليفة والمستخلف. لو قام السفير في دولة بإنجاز علمي مثلا، لكان هذا الإنجاز يُحسب للدولة التي استسفرته ولا تضاد ولا ندية بينهما. فإذا ما ظهرت من المعصوم كرامة؛ فهي لا تُخل بعظمة الله عز وجل – والعياذ بالله – بل تؤكد عظمة الله عز وجل أن له خليفة بهذه القدرة. فلماذا لا يفهم البعض هذه الحقيقة على بساطتها ويُسارع إلى اتهامنا بالشرك والغلو؟
إن عفريتا من الجن ينقل عرش بلقيس في لحظة من اللحظات، والذي عنده علم من الكتاب يأتي به أسرع من ذلك. فكيف بعد هذا نعجب إذا نقل الإمام (ع) شيئا من مكان إلى آخر؟ إذا فعنا مستوى الوعي فإن هذه المفاهيم ستكون مستساغة ولا تحتاح إلى أبحاث عميقة. وإننا نطلب أن يكون محيانا محياهم لما روي: (أَلاَ مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً)[٢]؛ فالذي يموت على حبهم ملحق بهم وهو قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰٓئِكَ رَفِيقࣰا)[٣].
هل يُثاب الإنسان على قراءة زيارة عاشوراء لقلقة من دون توجه؟
وقد يسأل سائل فيقول: هل يُثاب الإنسان على قراءة زيارة عاشوراء لقلقة من دون توجه؟ أقول: نعم، فلا يُعقل أن يلهج المؤمن بهذه الزيارة أربعين يوما من دون أن يرق ولو في مقطع من مقاطع هذه الزيارة؛ فلو سلم على الإمام (ع) بتوجه في إحدى هذه المرات لكان لهذا السلام أثره الكبير. لا يُعقل أن تكون سنابل القمح كلها خاوية؛ فلابد وأن تجد فيها ولو حبة واحدة وهي غنيمة بحد ذاتها.
وإذا قرأت هذه الزيارة يوما قراءة لفظية من دون التفات إلى المعاني؛ حاول أن تتدارك ذلك بإتقان السجدة الأخيرة التي تدعو الله عز وجل فيها. وهناك الكثير من الزيارات التي تنتهي بالدعاء كزيارة أمين الله. لو قرأت المقطع التعلق بالزيارة لما استغرق أكثر من دقيقة وبعد ذلك الدعاء والمناجاة التي تبدأ بـ : (اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاِجْعَلْ نَفْسِي مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِكَ رَاضِيَةً بِقَضَائِكَ)، وإلى آخر هذا الدعاء. ثم تنتقل إلى لوحة أخرى تبدأ بـ (اَللَّهُمَّ إِنَّ قُلُوبَ اَلْمُخْبِتِينَ إِلَيْكَ وَالِهَةٌ).
حمد الشاكرين أم الصابرين
إننا نقول في سجدة زيارة عاشوراء: اللهم لك الحمد، حمد الشاكرين لك على مصابهم. وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال؟ هل المصاب يشكر أم يصبر؟ أليس من المفترض أن نقول: حمد الصابرين لك على مصابهم؟ لقد قُتل الحسين (ع)، فهل نشكر الله على ذلك؟ عن أي شكر تتحدث هذه العبارة؟ لابد أن يسأل كل واحد منا نفسه: لو لم يخرج الحسين (ع) ولم يُستشهد، ماذا كان حال الإسلام؟ لو لم يخرج (ع) لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه ولما اجتمع اليوم الموالون في أنحاء العالم يُقيمون له العزاء وينهلون من معين آل البيت (ع). لو لا الحسين (ع) هل أتيحت الفرصة للصادقين (ع) نشر العلوم في هذه الأمة؟
ولذلك قيل: الإسلام محمدي الحدوث، حسيني البقاء. لماذا قال النبي (ص): (حُسَيْنٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنِ)[٤]؛ إذ كيف يُمكن أن يكون الجد من الحفيد؟ إنما يعني بذلك (ص)؛ أن ديني من الحسين (ع) ولولاه لضاع الدين. وهذه الرواية من الروايات المعروفة بين المسلمين؛ حتى إنني وجدتها مكتوبة على مقام رأس الحسين (ع) في القاهرة.
السفينة الأسرع والباب الأوسع
وينبغي أن يعلم المؤمن أن جميع الأئمة (ع) سفن نجاة؛ ولكن سفينة الحسين أسرع، وجميعهم أبواب الهدى ولكن باب الحسين (ع) أوسع، وهو الذي عوضه الله سبحانه بقتله بخصائص وردت في الرواية الشريفة: (اَلْمُعَوَضِ مِنْ قَتْلِهِ أَنَّ اَلْأَئِمَّةَ مِنْ نَسْلِهِ وَاَلشِّفَاءَ فِي تُرْبَتِهِ وَاَلْفَوْزَ مَعَهُ فِي أَوْبَتِهِ وَاَلْأَوْصِيَاءَ مِنْ عِتْرَتِهِ)[٥]. إنك إذا حصلت على تربة قبر النبي (ص) لا تستطيع أن تتناول منها ولكن تحتفظ بها تبركا؛ فالشفاء خاصية من خواص تربة الحسين (ع).
ومما تقول في السجود بعد الزيارة: (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى عَظِيمِ رَزِيَّتِي). كيف يقرأ المؤمن هذه العبارات قضاء للحاجة؟ هل تذهب إلى والد قد فُجع بولده فتقول له: يا فلان، أعطني مالا مثلا؟ ألا يقول لك: جئت معزيا أم مستغلا تبحث عن المال؟ وإذا أعطاك قال لك: اخرج من مجلسي، فأنت لم تأتني معزيا، وإنما تتحين الفرص لكسب المال. لا تقرأ الزيارة لتتعامل مع الإمام (ع) معاملة العبيد والتجار؛ بل كن حرا وهو أن تزوره لأنه أهل للزيارة.
ثم تقول: (اَللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي شَفَاعَةَ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَوْمَ اَلْوُرُودِ). إننا نطلب من الله سبحانه أن يوجه هذا النور الساطع نحونا، فحتى الشفاعة لا تكون إلا بإذنه تعالى، لقوله: (مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِ)[٦]. فالذي يسير في اتجاه معاكس لاتجاه الحسين (ع) لا تشمله شفاعة الحسين (ع).
ما هي الشفاعة التي نترجاها؟
والشفاعة من الشفع؛ مقابل الوتر. والوتر هو الواحد، فكأنك تقول: يا رب، إنني قدمت الأعمال ولكنها لم تُسفعني فقد فقدت حسناتي وبقيت مفلسا؛ فلن يُنجيني هذا العمل إن لم تشفع لي يا أبا عبدالله. فعلى سبيل المثال قد يكون وضوئك باطلا، ومن أجل ذلك تُرد جميع صلواتك؛ فلا مسامحة في الوضوء. لو تبين لك بعد خمسين سنة من البلوغ أنك كنت تتوضأ خطأ فلابد من أن تعيد الصلاة كلها، بخلاف ما لو كانت قراءتك خاطئة. ويُقال لك هناك: هلا تعلمت وقد كنت في زمان التواصل، وكان في هاتفك كل ما هب ودب. فلماذا لم تبحث عن الأحكام الشرعية؟ فلابد من تقديم العمل قبل طلب الشفاعة.
لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ اَلنَّاسِ أَحَدٌ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)[٧]، إننا نستبعد أن يكون النبي (ص) كذلك ولكننا نعتقد أن الجميع بحاجة إلى الشفاعة ما عدا المعصومين (ع).
قدم صدق مع الحسين (عليه السلام)
ثم تقول: (وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ اَلْحُسَيْنِ). إننا لا نضمن لأنفسنا الثبات على الطريق والعواقب التي قد تكون مخيفة؛ خاصة في زماننا هذا. هل تعلم أن شمر الذي باشر قتل الحسين (ع) وحز الرأس الشريف كان ممن بايع أمير المؤمنين (ع)؟ إننا اليوم نقف أمام الضريح نبايع أمير المؤمنين (ع) بكل يسر وسهولة ولكن الأمر لم يكن كذلك في زمن معاوية. كانت بيعته (ع) في ذلك الزمن بيعة مكلفة ومع ذلك بايعه الشمر وقاتل معه في صفين ولعله كان ممن جُرح في تلك الحرب ولكنه انحرف عقائديا حيث التحق بالخوارج وانحط شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى أن يكون قاتل الحسين (ع).
الصحابي الجليل الشمر…!
لو قيل للشمر يوم بايع أمير المؤمنين (ع): إنك قاتل ابن أمير المؤمنين (ع) لاستعاذ بالله من ذلك. فلنحذر تراكم المعاصي فلسنا بمأمن من هذه العواقب السيئة، وقد قال سبحانه: (ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ)[٨]. إن المعاصي وإن كانت صغيرة فإنها تتراكم شيئا فشيئا فتؤدي إلى انحراف الإنسان عن الطريق القويم. وقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَزَلَ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ اِئْتُوا بِحَطَبٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اَللَّهِ نَحْنُ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ مَا بِهَا مِنْ حَطَبٍ قَالَ فَلْيَأْتِ كُلُّ إِنْسَانٍ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَجَاءُوا بِهِ حَتَّى رَمَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ هَكَذَا تَجْتَمِعُ اَلذُّنُوبُ ثُمَّ قَالَ إِيَّاكُمْ وَاَلْمُحَقَّرَاتِ مِنَ اَلذُّنُوبِ)[٩].
كيف يُختم على قلب البعض من البشر؟
وقد يصل الإنسان إلى مرحلة الختم على القلب؛ فيرى الباطل حقا. إن أئمتنا مع أنهم مظهر الرأفة والرحمة قد لعنوا البعض ممن كانوا يُعرفون بأصحابهم. فقد ورد أن الإمام الحجة (عج) لعن الشلمغاني الذي كان من فقهاء الشيعة في زممن الغيبة وكان قد حسد سفير الإمام (عج) حسين بن روح وجعله يعتقد بالحلول؛ أي أن الله حل فيه والعياذ بالله، فقال عنه: (عَلَيْهِ لَعَائِنُ اَللَّهِ تَتْرَى)[١٠]، وليس هو الوحيد بين الملعونين فقد لعن (عج) جماعة أخرى منهم: (أَنَّنَا فِي اَلتَّوَقِّي وَاَلْمُحَاذَرَةِ مِنْهُ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ مِنَ اَلشَّرِيعِيِّ وَاَلنُّمَيْرِيِّ وَاَلْهِلاَلِيِّ وَاَلْبِلاَلِيِّ وَغَيْرِهِمْ)[١١]. إن هؤلاء كانوا يوما من رواة الأحاديث ومن أصحاب الأئمة (ع) وقد انحرفوا كما انحرف قبلهم الخوارج الذين كانت جباههم كركب المعزى من كثرة السجود.
إن المتأمل في حركة الحسين (ع) يرى إرادة الله سبحانه جلية في كل تفاصيل هذه الواقعة. خرج الإمام (ع) من المدينة إلى مكة وخرج من هناك مجبرا حيث لم يُكمل حتى حجته، وكان كما قال الشاعر:
وقد انجلى عن مكة وهو ابنها
وبه تشرفت الحطيم وزمزم
لم يدر أين ينيخ بدن ركابه
فكأنما المأوى عليه محرم
مثل ابن فاطمة يبيت مشرداً
ويزيد في لذاته متنعم
كان من المفترض بحسب الموازين الظاهرية أن يُدفن الحسين (ع) ويُدفن معه ذكره ولكن حصل العكس تماما. لقد أمر الله إبراهيم (ع) بأن يؤذن للحج ولم يكن ثمة أحد؛ ولكن كان عليه الأذان وعلى الله سبحانه البلاغ. وقد لبى الدعوة هذه الملايين من البشر ويجتمع الحجاج في كل عام وقد يموت منهم من يموت في هذا الطريق إلا أن الشوق يأتي بهم ولا يقف أمامه أي حاجز؟
شكر الله لأم إسماعيل (عليه السلام) سعيها
وقف إبراهيم (ع) على الحجر ليبني الكعبة فصار الحجر مقاما وقال سبحانه: (وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلࣰّىۖ)[١٢]. ثم طلبت من زوجته الأولى سارة أن يأخذ هاجر الأمة بعيدا عنها، فاصطحبها معه هي وابنها إسماعيل (ع) وتركهما في واد غير ذي زرع بحسب تعبيره، وفي صحراء قاحلة بين الأعداء؛ ولكنه أوكل أمرهما إلى الله عز وجل. وعندما ماتت هاجر دُفنت في الحجر وهو نصف قوس عند الكعبة لا تستطيع أن تمشي عليه؛ ففي هذا الحجر قبرها وقبر ولدها إسماعيل (ع). ولولا الحجر لكان طوافنا انسيابياً ولما حصل التدافع الذي يحصل عادة عند هذه النقطة ولكن لا ينبغي للحجاج أن يطئوا تلك الأرض التي دُفنت فيها هذه الأمة التي شكر الله لها سعيها. فرب العالمين شكور وقد ورد في الحديث القدسي: (مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)[١٣].
لا تقل: كيف لمثلي اكتساب مثل هذه المقامات أو الحصول على مثل هذه الذرية؟ لو أراد رب العالمين لجعل نسلك نسلا مميزا. لقد التقيت بأبناء أحد المراجع الكبار، فذكر لي أن جده كان قرويا فلاحا ولكنه قام بمجاهدة وطلب من الله ذرية طيبة، فرزقه الله سبحانه هذا المرجع الذي أصبح أستاذ المراجع، وهذه هي الأبدية التي ينبغي أن تبحث عنها. لا أن تموت فيموت ذكرك ويرثك أبنائك ويذهب بها شرقا وغربا للاستمتاع بها، فيكون المهنأ له والوزر عليك.
لقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (أَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ وَإِذَا عُصِيتُ غَضِبْتُ وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ اَلسَّابِعَ مِنَ اَلْوَرَى)[١٤]؛ فالذي خلد ذكر الحسين (ع) هو الذي بيده مقاليد الأمور.
الجمع بين العبادة والسياسة
إننا قد نصف الحسين (ع) بالثائر ولا أظن أن هذه الكلمة تفي ببيان حقه. إن الحسين (ع) وهو ثأر الله وحجته في الأرض جميع بين أمرين في يوم عاشوراء: خدمة الفقراء والاهتمام بشئونهم، والدعوة إلى الله سبحانه. سُئل زين العابدين (ع) عن آثار كانت على ظهر الحسين (ع) لم تكن آثار جراح، فقال لهم: (هَذَا مِمَّا كَانَ يَنْقُلُ اَلْجِرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ إِلَى مَنَازِلِ اَلْأَرَامِلِ وَ اَلْيَتَامَى وَ اَلْمَسَاكِينِ)[١٥]. وهذه هي الجامعية التي كانت عند الحسين (ع)؛ أن يجمع بين آثار الجراب وآثار الجراح التي أصابته في سبيل الله عز وجل. ولا يُمكن بعد ذلك أن يخدم المؤمن في الموكب وبسبب الإرهاق يترك صلاة الفجر مثلا؛ كيف يكون ذلك وإمامه الذي يخدمه لم يترك صلاته وهو تحت وابل من الأسهم؟ إن المؤمن يجمع بين التكليف الرسالي وبين العبادة بين يدي الله عز وجل.
وتصور لو كان السياسيون من الوزراء والمدراء من أهل الدين؛ كيف كان وضعنا اليوم؟ ألسنا نقول: اللهم اجعل لنا نورا نمشي به في الناس؟ لماذا يخطأ السياسيون كثيرا؟ أليس ذلك لأنهم لا يملكون هذا النور؟ لا نور في العين ولا نور في الباطن؛ بل حتى الطيب يُجرب حظه ويستلم مشروعاً فيفشل، لأنه كذلك لا نور له وقد قال سبحانه: (وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورࣰا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ)[١٦].
فتأس بالحسين (ع) حيث جمع بين العبادة والخدمة. فالمؤمن في الليل كما وصفه أمير المؤمنين (ع): (أمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالُونَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً)[١٧]، وفي النهار: (أَمَّا نَهَارَهُمْ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ)[١٨]، وورد في وصفهم أيضا: (كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ اَلْقَائِلِينَ)[١٩]؛ فلا تكن أحادياً إن الشوارع ذات الاتجاه الواحد تكثر فيها حوادث السير، فخذ طريقين دائما: طريق الخلق وطريق الخالق.
إياك والابتعاد عن خط المرجعية
ثم إنك لابد وأن تحتاط في دينك، فقد امتلأ العالم ظلما وجورا وزيفا. إن قلب المؤمن يضيق بما يرى من الأسى في العالم فكيف بقلب إمام زماننا؟ لقد كثرت هذه الأيام المدارس المنحرفة فكريا، وعم الانحراف كل شيء حتى الفلسفة والعرفان، وأصبح مع كل حق باطل؛ فحتى الذهب والماس لا تستطيع أن تشتريه إن لم تكن عارفا به، فيوجد من البدل الكثير. علينا أن ننتبه إلى أصحاب الادعاءات الكاذبة وأن نلتزم الطريق الواضح وهو خط المرجعية.
لقد أوكل الإمام (عج) في زمن الغيبة أمر الشيعة لمراجعنا، وهم لو تأملت في سيرتهم منذ الغيبة لا ترى فيهم فاسدا ولا منحرفا وكأن الواحد منهم نسخة عن الذي سبقه. لقد وصلت المرجعية إلى أحد العلماء في النجف فدعا ربه وكان مستجاب الدعوة: اللهم إن كانت مرجعيتي لا تنفع الإسلام؛ فخذني إليك، فلا أريد هذه المرجعية، وكان له صاحب قد طلب منه أن يؤمن على دعائه، وبالفعل مات بعد عدة أشهر. وقيل للشيخ الأنصاري الملقب بالشيخ الأعظم: أنت المرجع؟ قال: كلا، اذهبوا إلى مازندران في إيران، فقد كان لي زميل في الدراسة هو أعلم مني. وهؤلاء نموذج من مراجعنا الزاهدين المتقين. أ فهل نترك هذا الطريق الواضح وندخل في طريق فرعي يؤدي إلى المستنقع أو إلى البئر؟
إياك والمنحرفين في طريق القرب إلى الله
إننا عندما نجد عالما ربانيا، فأول ما نسأل عنه؛ ورد أو دستور. كان هناك عالم رباني عندما يُسأل عن الذكر والورد يقول: عليك بالعمل بالرسالة والمفاتيح ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، وانتهى الموضوع؛ فلا تحتار بعد ذلك. فإن كنت تبحث عن المزيد؛ فإليك كتاب الطريق إلى الله فهو من الكتب القيمة والنافعة.
احذروا المنحرفين في الطريق إلى الله سبحانه. إن الله أعطاك عقلاً، فلا تتبع من لا عقل له، والعم أن الحق لا يُعلم بالمنامات والاستخارة والإشارة. بل يصل الأمر بالبعض أن يجعل انطفاء الكهرباء علامة…! والعجيب أن تجد الرجل الأكاديمي يفقد عقله ويتبع بعض هؤلاء. رأيت شاباً في الثمانية عشر من عمره أخذ يدعي هذه الدعاوي. وقد رأيت أحد السادة العلماء وكان قد ضمد يده، فقلت له: ما الأمر؟ قال: إن أستاذي – يعني الشاب صاحب الثمانية عشر – أمرني بأن أحرق يدي….! لا أدري هل يُسحر هؤلاء حتى يرضخوا لهؤلاء الدجالين أم أن الأمر قلة عقل؟
سلب العقول من قبل المدعين
وكان لي قريب ذهب إلى المملكة المتحدة للعلاج، فذكر لي أنه كان يمشي في أحد الشوارع، فطلب منه أحدهم بطاقته المصرفية والرمز، فأعطاه ما أراد وبعد أن سحب المال من حسابه وأرجع له البطاقة، أفاق من غفلته، فذهب إلى الشرطة ليشتكي على الرجل، فقالوا له: هؤلاء كثيرون، وهم يسلبون عقلك من حيث لا تدري. وهذه الطرق مستعملة هذه الأيام في سلب العقول؛ فلا تقترب منهم. شارك في المجالس الحسينية فهي أفضل مكان لدينك؛ فكن في هذه المواكب والمساجد في خدمة المؤمنين وفي خدمة الدين وأهله ليشملك الحسين (ع) برعايته.
[٢] كشف الغمة ج١ ص١٠٧.
[٣] سورة النساء: ٦٩.
[٤] كشف الغمة ج٢ ص٦١.
[٥] بحار الأنوار ج٩٨ ص٣٤٧.
[٦] سورة يونس: ٣.
[٧] بحار الأنوار ج٧ ص١١.
[٨] سورة الروم: ١٠.
[٩] الکافي ج٢ ص٢٨٨.
[١٠] بحار الأنوار ج٥١ ص٣٨٠.
[١١] بحار الأنوار ج٥١ ص٣٨٠.
[١٢] سورة البقرة: ١٢٥.
[١٣] مستدرك الوسائل ج٥ ص٢٩٨.
[١٤] الکافي ج٢ ص٢٧٥.
[١٥] بحار الأنوار ج٤٤ ص١٩٠.
[١٦] سورة النور: ٤٠.
[١٧] بحار الأنوار ج٧٥ ص٢٨.
[١٨] بحار الأنوار ج٧٥ ص٢٨.
[١٩] بحار الأنوار ج٦٤ ص٣١٤.
خلاصة المحاضرة
- قد يوصي البعض بقراءة زيارة عاشوراء طلبا للحوائج العظام وبغض النظر عن صوابية هذا الرأي، لابد أن يتسائل المؤمن: كيف أقرأ المضامين المبكية في هذه الزيارة وكيف أجعل هذه المصيبة وسيلة لكسب مال أو زوجة أو عقار؟ فالأفضل أن تقرأها تودداً لله ولرسوله ولحسين (ع)، وهم أعلم بما يصلحك.
- إننا عندما نجد عالما ربانيا، فأول ما نسأله؛ ورد أو دستور. كان هناك عالم رباني عندما يُسأل عن الذكر والورد يقول: عليك بالعمل بالرسالة والمفاتيح ونهج البلاغة والصحيفة السجادية؛ فلا تحتار بعد ذلك. فإن كنت تبحث عن المزيد؛ فإليك كتاب الطريق إلى الله فهو من الكتب القيمة والنافعة.