- ThePlus Audio
هل يُمكن الوصول إلى الله من دون دليل ومعين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
عناصر الوجود جميعها في حركة منسجمة نحو ساحة الحق تعإلى
إنَّ مسألة السفر إلى الله (سبحانه وتعإلى) تعتبر من أهم المسائل في حياة المؤمن الملتفت، وهذه المسألة لا يمكن إغفالها أو إهمالها لأي سبب من الأسباب؛ لأن محور حياة المؤمن هو النظر إلى مراد الله (تعإلى) وامتثاله، ومن ثم السفر إليه وتحصيل رضوانه، فالإنسان شاء أم أبى هو في حركة دائبة منسجمة مع كل عناصر هذا الوجود نحو ساحة الحق (تعإلى)، فالكون بمجراته وذراته في حالة عبادة تكوينية، والوجود برمّته يُسبح بحمد الله (عزّ وجلّ)، وإنْ كُنّا لا نفقه هذا التسبيح المتواصل قال (تعإلى): (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[١]، ولا شك في أنَّ الأسرار المودعة في هذا الوجود فوق تصوراتنا، وأحد الشواهد على ذلك بعض الأحداث التي ذكرها القرآن الكريم بين سليمان (عليه السلام) وبين بعض مخلوقات هذا الوجود، كالنمل والهدهد، والحوار الملفت بين هذا النبي العظيم (عليه السلام) وبين طير جاء من سبأ بنبأ يقين[٢]، فقد جاء بتحليل اجتماعي ديني لما عليه بلقيس وقومها، والذي ينبغي ملاحظته أنّ هنالك حالة من الالتفات والشعور عند هذا الهدهد، قد يقال بأنّ هذا الهدهد لم يكن كبقية أبناء جنسه وإنَّه كان هدهداً متميزاً عنهم، لكنّ بعض علماء التفسير يقولون: إنه لا دليل على أنّ هذا الهدهد كان متميزا معجزا مثلا؛ بل كان عادياً كبقية أبناء نوعه، وفيما يبدو أنّ هذه الحالة من الالتفات والفهم والشعور حالة في جميع الطيور والدواب، فقد يقول قائل بأنّ تلك النملة التي ميزت سليمان وجنوده نملة خاصة أو الهدهد كذلك، ولكن البعض يعتقد ومنهم السيد صاحب تفسير الميزان بأنّه لا دليل على ذلك، وإنما يمكن القول إنّ هنالك بعض الأسرار المودعة في كائنات هذا الوجود، ومن هنا يقول سليمان شاكرا ربه أنه: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)[٣]، فهنالك منطق خفي على باقي البشر وعلِمَه سليمان (عليه السلام) ومن قبل ذلك داوود (عليه السلام)، إن قلنا أنّ الضمير في (عُلِّمْنَا) يعود إلى الولد وأبيه.
نعمة الاختيار لدى الإنسان أمانة إلهية
فهذا الوجود برمته في حركة دائبة إلى الله (تعإلى) مطيعٌ له، قال (تعإلى): (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[٤]، ولكن الإنسان الوحيد من هذا الخلق الذي أكرمه الله (تعإلى) فجعل له الاختيار في أن يكون مطيعاً أو عاصياً، ولعلّ الأمانة الإلهية المودعة في بني آدم هي هذه الحالة من الاختيار، وقد أشفقت السماوات والجبال من تحمل هذه الأمانة[٥]، وهي أمانة تحمل التكليف على بعض الأقوال، والإنسان حمل هذه الأمانة، لكنّ القرآن الكريم يصف هذا الإنسان بأنه في مقام العمل أنه في خُسر، هو ظلوم، هو جهول، لأنه لم يقم بلوازم تحمل هذه الأمانة الإلهية.
ابتداء سفر الإنسان إلى الله (تعإلى) ومنتهاه
يبدأ سفر الإنسان المؤمن من اللحظة الأولى التي يتوجه إليه التكليف، وهي مرحلة البلوغ، وإنْ كان هناك سفرٌ يمكن للإنسان أنْ يبتدأ به قبل ذلك، إلا أنّه لا يُعد سفراً بالمعنى الحقيقي، إذ أنّ هنالك رأياً فقهياً يقول: إنّ عبادات الصبي مقبولة ولها أجرها ومنزلتها عند الله (عزّ وجلّ)، ولكن الحركة الرسمية للعبد تبدأ من ساعة بلوغه، ومنتهى هذا السفر لحظة الوفاة والانتقال من هذه النشأة إلى عالمٍ آخر، وإنْ كان هناك رأيٌ آخر يتبناه بعض العلماء الكبار وهو أنّ هنالك حركة تكاملية في عالم البرزخ أيضاً بمعنى من المعاني، فهنالك بعض الأعمال -كالصدقة الجارية والولد الصالح والعلم الذي يُنتفع به- تعتبر كمالاً للعبد في البرزخ، وبعضهم يقول أنّ هنالك كمالاً ذاتياً في عالم البرزخ أيضاً، كما أنّ هنالك بعض أنواع الكمال الذي يتأتى من الأفعال كالعلم والصدقة الجارية مثلاً.
طريق ذات الشوكة مليء بالأعداء
ويجب أنْ نعرف بأنَّ السفر إلى الله (تعإلى) شاق وطويل، له عقباته المتعددة ومنعطفاته الخطيرة وأعداؤه المتربصة، يكفي أنّ هنالك عدواً متربصاً ببني آدم في هذا الطريق، هذا العدو يحمل في قلبه حقداً دفيناً وحسداً قديما لبني آدم، إذ أنّ خلقة آدم متزامنة مع عصيانه وطرده من الرحمة الإلهية، فعندما يسجد بنو آدم بكل طواعية ويُسر في بيت من بيوت الله (عزّ وجلّ) وفي حالة أنابة وتوبة، فإنّ الشيطان يصيح ويتذمر ويتألم، لأنّ لسان حال الشيطان ولعلّ لسان المقال: سجدتَ وأبيتُ وأطعتَ وعصيتُ، أنت يا بني آدم أطعتَ وانا عصيت، إذن هذا السفر، سفر موحش وليس باليسير، باعتبار العقبات والموانع والأعداء، هذا السفر، من الطبيعي يحتاج إلى زاد يليق به، ولا يحصُل ذلك إلا بجهاد النفس، الذي تسميه بعض الروايات بالجهاد الأكبر، فهذا السفر لا نعلم نهايته ولا نستوعب مداه.
الليل دابة للسفر
إنّ السفر إلى الله (تعإلى) يحظى باهتمام بالغ عند الشارع المقدس؛ لذا نجد تأكيداً كبيراً من الكتاب والسنة عليه وبعبارات مختلفة، ومن أروع أنواع التعبير ما روي عن امامنا أبي محمد الحسن بن علي العسكري (صلوات الله وسلامه عليه): (اِنَّ الوُصُولَ اِلَي اللهِ عَزَّوَجَلَّ سَفَرٌ لا يُدرَكُ اِلّا بِامتطاءِ اللَّيلِ)[٦]، فالسفر دآبة، والإمام (عليه السلام) في تشبيه بليغ يجعل دآبة السفر؛ الليل الذي يحمل في جوفه وساعاته أسراراً عجيبة لا يدركها إلا من تعاهد هذا السفر؛ لأنَّ الليل معنى عام قد ينطبق على صلاة الليل وكذلك على التأمل والتدبر والتفكر فيه، إذ للإنسان المؤمن في الليل محطتان، واحدة للعبادة وأخرى للتأمل وأحدهما يُكمل الآخر، بل قد يقال: إنّ المحطة التأملية في الليل لها أثرٌ على مراقبة سلوكه في النهار، وإنَّ ذلك هو مقتضى حديث التفكر بأنه خير من عبادة ستين أو سبعين سنة، فهي تكشف عن باطنه من المحاسبة لنفسه وقصورها أو تقصيرها وتبرمج حياته مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين فيما إذا كان مسؤولا عن جماعة من المؤمنين، فكل مجموع هذه الوقفات التأملية والعبادية يعتبرها الإمام العسكري (عليه السلام) بمثابة الدآبة التي يمتطيها الإنسان لتوصله إلى مقصودة وهدفه.
وأما القرآن الكريم فهناك عدة آيات أشارت في هذا المجال وإن لم نجد تعبير السفر بحروفه، ولكن اللقاء فرع السفر قال (تعإلى): (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[٧]، فهنالك كدح سفري وبعد هذا الكدح هنالك اللقاء، وهناك فرق بين اللقاء الإجباري بالموت الذي هو مصير كل فرد من أفراد الإنسان قال (تعإلى): (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[٨]، وبين اللقاء الشوقي الاختياري الذي يستبطن حالة التجاذب بين الملتقي وبين الملتقى به، فهناك كدح ولقاء والآية تفهمنا بوجود حركة آخرها اللقاء بالله (سبحانه وتعإلى)، وهنالك أيضاً آية في كتاب الله (عزّ وجلّ) تقول: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا)[٩]، الذي يشاء يتخذ إلى ربه سبيلاً، اتخاذ السبيل من مهام المتحرك والمسافر، هذه الأيام عندما يريد السائح أن يسافر إلى بلدة غريبة وخاصةً إذا كان لا يفقه لسان القوم يصطحب معه خارطة، ينظر موقعه الفعلي وينظر إلى موقعه النهائي ويرى ما هو اقرب الطرق التي توصله إلى تلك الغاية.
طرق الوصول إلى الغاية
إنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، قد يقول البعض: أنّ هذا التعبير ليس بحجة فلم يثبت أنه رواية، لكن رغم ذلك فإنّه حقيقة ينبغي أنْ نُصدقها لأنها مطابقة لحركة الحياة فإنّ لكل إنسانٍ قابلياته، لكل إنسانٍ ملكاته طينته المناسبة فقد يكون جهاد البعض بالدم وقد يكون جهاد البعض بالقلم، وقد يكون جهاد البعض بمساعدة الناس فلكل إنسانٍ سبيله في هذه الحياة من حيث إرضاء ربه ومولاه.
السفر إلى الله (عزّ وجلّ) بحاجة إلى معين
وفي هذا السفر الشاق والعسير يحتاج الإنسان لما يعينه في حركته التكاملية، فما هو المعين ومن هو المعين؟ لا شك في أنّ المعين الأول هو المقصود من هذا السفر وهو الله (تعإلى)؛ لأنه (جلّ وعلا) حريص على وصول العبد إليه، فهو (تعإلى) في غاية الشوق لوصول عبده إليه، كما في رواية التوبة عن الباقر (عليه السلام): (إنَّ اللّه تعإلى أشَدُّ فَرَحا بتوبةِ عبدِهِ مِن رجُلٍ أضَلَّ راحِلَتَهُ وزادَهُ في ليلةٍ ظَلْماءَ فوجَدَها، فاللّه أشَدُّ فَرَحا بتَوبَةِ عبدِهِ مِن ذلكَ الرّجُلِ براحِلَتِهِ حِينَ وجَدَها)[١٠]، بل لعلّ بعض الروايات تذكر في ليلة مظلمة، فإذا كانت أنابة العبد التائب إلى الله (عزّ وجلّ) بهذا المقدار من الأهمية فمن المؤكد سيكون له صدى في عالم الغيب بحيث أنّ رب العالمين يفرح بإقبال عبده هذا، فكيف بالعبد الذي لم تتحقق له معصية في هذه الحياة بل كل همه وكل رجائه أن يصل إلى مرحلة الفناء والمحبة المطلقة بطريق أولى.
صفاء النفس والمنن الإلهية
الله (سبحانه وتعإلى) أنزل الكتب وأرسل الرسل وبيّن لنا من خلال الشرائع كيف نصل إليه، فالقرآن الكريم فيه من المعاني ما يعيننا في هذا الطريق أيما عون، ولكن علينا أنْ لا نكتفي من القرآن الكريم بالتلاوة المجردة لكسب الأجر والثواب؛ لأنّ الله (تعإلى) أنزل كتابه ليكون تبياناً لكل شيء، ولنتدبر في آياته، وحالة الشفافية الباطنية والنورانية القلبية لدى المؤمن قد توصله إلى فهم بعض المعاني التي تخفى حتى عن المفسرين الكبار، فالله (تعإلى) يختص برحمته من يشاء، ويفتح على عبده أبواباً من الخير والبركة والرحمة من الممكن أنْ لا تُفتح حتى على المتخصصين في فن التفسير، فعليه من يريد أن يصل إلى هذه الدرجة من القرب عليه ان يتخذ القرآن الكريم كتاباً وترجماناً وهادياً يستأنس به في ظلمات الليل البهيم.
[٢] سورة النمل ٢٢ (جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)
[٣] سورة النمل ١٦.
[٤] سورة فصلت ١١.
[٥] سورة الأحزاب ٧٢ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)
[٦] بحار الأنوار ج٧٥ ص٣٨٠.
[٧] سورة الانشقاق ٦.
[٨] سورة مريم ٩٥.
[٩] سورة المزمل ١٩.
[١٠] الکافي ج٢ ص٤٣٥.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- من المسائل المهمة في حياة المؤمن هي السفر إلى الله تعالى، فهذه المسألة هي محور حياته وبها يحصل على السعادة الحقيقية.
- والسفر مورد الكلام يبدأ من اللحظة الأولى التي يتوجه إليه التكليف، وهي مرحلة البلوغ، وينتهي في لحظة الوفاة والانتقال من هذه النشأة إلى عالمٍ آخر.
- لكن هذا السفر؛ سفر شاق وطويل له عقباته المتعددة وأعداؤه المتربصة، ومن أهم المتربصين الشيطان الطريد من الرحمة الإلهية. فهذا السفر لا يحصُل إلا بجهاد النفس، الذي تسميه بعض الروايات بالجهاد الأكبر.
- وللأهمية البالغة لهذا السفر نجد تأكيداً كبيراً من الكتاب والسنة عليه وبعبارات مختلفة، ومن أروع أنواع التعبير ما ورد عن الامام العسكري× حيث يقول ما مضمون: (إنّ الوصول إلى الله عز وجل سفر لا يدرك الا بامتطاء الليل)، فالمحطة التأملية في الليل لها أثرٌ على مراقبة سلوك الإنسان في النهار، وعلى من يريد السفر أن يتخذ القرآن الكريم كتاباً وترجماناً وهادياً يستأنس به في ظلمات الليل البهيم.