Search
Close this search box.
  • من وحي يوم عرفة
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

من وحي يوم عرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

رقة القلب في يوم عرفة وما تكشف عنه هذه الحالة

الحمدلله الذي وفقنا لدرك هذا اليوم الكريم[1]. إن ما يتمناه كل مسلم على وجه الأرض أن يكون في عرفة والموالون يتمنون لو أنهم كانوا في هذا الموقف. إنها اللحظات الأخيرة من يوم عرفة، وهي كقوله سبحانه: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[2]. لقد اشتكى لي البعض من الإخوان أنها لم تجر دموعه أول الظهر ولم يرق قلبه وهو يشك في سلامة قلبه. إنه كذلك؛ فالبكاء في الدعاء أو في مصيبة الحسين (ع) أو عند ذكر إمامنا (عج) مختبرات ثلاث تكشف عن القلب السليم. إن الذي تجري دمعته سريعا في المناجاة أو تحت القبة، فهذه علامة القلب السليم. والقلب إذا لم يكن سالماً فإن العين لا تدمع. ولهذا إننا في تعقيبات صلاة العصر في كل يوم نستعيذ بالله من عين لا تدمع؛ أي أن هذه مصيبة. إن أحدنا يستعيذ بالله من العين التي لا تدمع ومن القلب الذي لا يخشع ومن علم الذي لا ينفع ومن صلاة التي لا ترفع كما يستعيذ بالله من شر الشيطان الرجيم. ويعني ذلك أن هذه كوارث ومصائب عند أهلها.

ذكرى استشهاد مسلم بن عقيل

أولا: لا ننسى اليوم أن نعزي إمامنا بابن عمه مسلم؛ فالمتعارف عندما يتوفى ابن عم أحدنا فهو كالأخ يقدم له العزاء. إن قصة مسلم في الواقع هي درس لنا جميعا. إنني لا أشك أن مسلم بن عقيل من شهداء كربلاء وإن لك يكن مدفوناً فيها. إن رب العالمين قد جعل له قبراً في أقدس البقاع حتى إنك تصلي عند أمير المؤمنين (ع) قصراً وتتم الصلاة عند مسلم لأنه بجوار مسجد الكوفة أو قل: فيه. وهل المقام ملحق بالمسجد أم لا؟ فهذا فيه بحث. إن رب العالمين اختار لمسلم قبراً في مسجد الكوفة وهو أحد المساجد الأربعة المميزة بعد المسجد الحرام ومسجد النبي (ص) وبقعة الحسين (ع). فانظروا إلى الخلود الذي اكتسبه هؤلاء؛ وكيف قسم لهم رب العالمين ذلك. فقد جعل العباس بين الحرمين وجعل حبيب بوابة الحسين (ع)، وجعل مسلم في ذلك المسجد. لقد ورد في بعض الروايات أن كل مسجد يبنى كان مقدرا عند الله أن يكون مسجداً منذ أن خلق الله الأرض؛ وإنما أنت اكتشفته. إن تلك البقعة التي تختارها للمسجد هي بيت الله منذ ملايين السنين.

ولكن ما هو الدرس العملي الذي نستفيده من حياة مسلم؟

إن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه لم يحقق أمنيته. إنه خرج ليوصل رسائل الحسين (ع) إلى القوم ليجمع بذلك الأنصار فيعينوا الإمام على ثورته، ولكن خابت آماله وما بقي غيره حتى أصبح وحيدا في منزل طوعة. ما الدرس؟ الدرس هو قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)[3]. فإذا نويت في قلبي نصرة إمام زماني فحال بيني وبينه الموت الذي جعله الله على عباده حتماً مقضيا كما نقرأ في دعاء العهد؛ فإن هذه النية لا تحتاج إلى مجاهدة وإلى مال. ولهذا قل: يا رب، إن أطلت عمري سأكون في خدمة ولي أمرك. إن هذه النية مباركة وعين  رب العالمين على النوايا لا على الفعل؛ فكما ورد: (نِيَّةَ اَلْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ)[4]نغلق هذا الملف حول مسلم بن عقيل.

الانتقام الشيطاني من المؤمنين في يوم عرفة

إن الشيطان الرجيم في يوم عرفة يكون أذل ما يكون في هذا اليوم؛ ولكن مع ذلك التفتوا إلى الانتقام. إن الذي يذل خصمه ويطرحه أرضاً أو بعرف الرياضيين: يضربه بالأكتاف؛ ماذا يفعل إن قام من مكانه؟ بالتأكيد يحاول الانتقام، ويقول: لقد ضربتني وصرعتني فسوف أنتقم منك. تذكر في شهر شوال ماذا جرى؟ ألم تكن متألقا في ليالي القدر وفي أجواء الدعاء ثم فقدت مكاسب شهر رمضان في شوال؟ لقد انتقم منك الشيطان الرجيم؟ إن يوم عرفة يضاهي ليالي القدر وهو المحطة الثانية في السنة من حيث الأهمية والعظمة بعد هذه الليالي. إن من لم يغفر له في ليلة القدر؛ يغفر له في هذا اليوم، وبعد هذا اليوم ينتظر ليلة القدر القادمة التي ستكون بعد حوالي عشرة أشهر؛ فاغتنموا هذه الفرصة خصوصا عند الاقتراب من انتهاء النهار.

سر تميز المؤمن في يوم عرفة؟

لقد رأيت بعض المؤمنين في الشمس الحارة بعد الزوال في الطرقات مفترش شيئا، وهو يريد أن يعمل بالمستحب، وهو الصلاة تحت الشمس أو تحت السماء. لماذا هذا الجو المفعم بالروحانية والمبارك؟ لعدة أمور، أولا: نيتك وعزمك. إن البعض جاء إلى كربلاء بمعاناة؛ فقد مريضاً مثلا ولكنه تحمل ذلك ووصل. ولولا نيتك وعزمك لما وصلت.

ثانيا: الجاذبية الإلهية. لقد شملتنا اليوم النفحة الإلهية، والنفحة الحسينية والنفحة المهدوية. إن قلب إمام زماننا عندكم يا زوار الحسين (ع). إنه يقول: أنتم زرتم قبر جدي وهو في أرض عرفة ويدعو لنا ويقول: (رحم الله تلك الوجوه التي تقشرت في زيارة الحسين، والأبدان التي تعبت في زيارته). ولهذا لو أن أحدكم أصابه مرض أو أذى في هذا السفر؛ يحتسبه عند الله عز وجل، وكل ذلك بعين المولى.

ومن أراد أن يعيش جو ليالي القدر؛ فبإمكانه أن يعيش هذا الجو في صلاة الليل. اطلبوا النفحة من صاحب النفحة؛ فالذي يعطيك في ليلة القدر يعطيك في صلاة الليل. والبعض منكم يعطى النفحة في كل صلواته الواجبة؛ فحاول أن تجعل صلواتك محطة كيوم عرفة. وكما يقال: كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء، نقول: كل صلاة ليل هي ليلة القدر وكل فريضة يوم عرفة. فكلها بلون واحد؛ فلو كشف لك الغطاء وتجردت من النفس والهواء، ترى كله لونا واحدا،( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[5].

إن الدعاء الجماعي له مزية وأنا أعول عليه. إنك لو ذهبت للوزير لوحدك ولك طلب عنده من المحتمل أن يرفضك ولا يستقبلك؛ ولكنك إن ذهبت مع وفد من العشيرة أو من الوجهاء والعلماء فلا يمكن أن يرفض طلبك لأنه يستحي.

إن علماء الاخلاق يوصوننا بالذكر اليونسي وهو أمر في محله. فأولا: إنه ذكر قرآني، وليس رواية ضعيفة أو كلام العرفاء وغيرهم، وهي: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[6]. وإلى هنا ليس هنالك شيء مغر. ثم قال سبحانه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[7]؛ و في اللغة العربية يقال: الفاء للتفريع، فبمجرد أن دعوت تأتي الاستجابة. وهذا غير مغر أيضا، فأين الإغراء؟ إنه قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[8]؛ إنها ثلاثة أركان لا تنساها. وكلكم تقرأونها في صلاة الغفيلة؛ فاعلموا المعنى.

الذكر الحسيني في يوم عرفة

إن الاعتراف بالتقصير، بقوله: (كنت من الظالمين) مدح رب العالمين؛ سبحانك استجبنا وكذلك ننجي المؤمنين. وهذا الذي سأقوله تحفة هذا اليوم لزوار الحسين (ع) ينقلبون بها إلى أهليهم، وهي ذكر الحسيني. إن الذكر اليونسي يوجب (استجبنا وكذلك ننجي)، ولكن الحسين في يوم عرفة له ذكر شبيه بالذكر اليونسي وزيادة، وهو يبدأ بالذكر اليونسي: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

إن الإمام الحسين (ع) بعد أن عدد الآلاء الإلهية في البدن وفي الرأس وفي الصدر وعدد الآلاء والنعم، يقول الراوي: (اِنْدَفَعَ فِي اَلْمَسْأَلَةِ وَ اِجْتَهَدَ فِي اَلدُّعَاءِ وعَيْنَاهُ تَقْطُرَانِ دُمُوعاً)[9]، وأنا عندما أريد أن اقرأ دعاء عرفة المختصر أبدأ من قول الإمام: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ)[10]، وهذه الفقرة مهمة جداً. سل الله عز وجل أن يجعلك ممن تخشاه كأنك تراه، فهل يبقى بعد ذلك مجال للمعصية؟ بل تصبح عادلا بالفطرة من دون أن يقول لك أحد هذا حرام وهذا حلال؛ لأنك ترى الله عز وجل أمامك.

وأما الذكر الحسيني أو التهليل الحسيني فهو: (لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ  لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْمُوَحِّدِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْخَائِفِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْوَجِلِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلرَّاجِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلرَّاغِبِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْمُهَلِّلِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلسَّائِلِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلْمُكَبِّرِينَ)[11].

مقطع من دعاء عرفة يكتفي به من لم يقدر أن يأتي بالدعاء كله

أليس هذا الذكر أرقى من الذكر اليونسي؟ ألا يجدر بالمؤمن أن يقرأه في صلاة الليل؟ أين أنت عن هذا الذكر؟ وهنيئا لمن التزم بهذه التسبيحات في أوقات الاستجابة. إن من قرأ دعاء عرفة ولم يتوجه لظرف أو ما قرأ دعاء عرفة؛ فجوهر الدعاء هذا: اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ وأَسْعِدْنِي بِتَقْوَاكَ وَلاَ تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَخِرْ لِي فِي قَضَائِكَ وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ حَتَّى لاَ أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ وَلاَ تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ غِنَائِي فِي نَفْسِي وَاَلْيَقِينَ فِي قَلْبِي وَاَلْإِخْلاَصَ فِي عَمَلِي وَاَلنُّورَ فِي بَصَرِي وَاَلْبَصِيرَةَ فِي دِينِي وَمَتِّعْنِي بِجَوَارِحِي واِجْعَلْ سَمْعِي وبَصَرِي اَلْوَارِثَيْنِ مِنِّي وَاُنْصُرْنِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي وَأَرِنِي فِيهِ ثَارِي وَمَآرِبِي وأَقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي اَللَّهُمَّ اِكْشِفْ كُرْبَتِي واُسْتُرْ عَوْرَتِي وَاِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَاِخْسَأْ شَيْطَانِي وَفُكَّ رِهَانِي وَاِجْعَلْ لِي يَا إِلَهِي اَلدَّرَجَةَ اَلْعُلْيَا فِي اَلْآخِرَةِ وَاَلْأُولَى).

[1] ألقيت هذه الخطبة في الصحن الحسيني الشريف يوم عرفة.
[2] سورة القدر: ٥.
[3] سورة النجم: ٣٩.
[4] الأمالی (للمرتضی)  ج٢ ص٣١٥.
[5] سورة البقرة: ١١٥.
[6] سورة الأنبياء: ٨٧.
[7] سورة الأنبياء: ٨٨.
[8] سورة الأنبياء: ٨٨.
[9] مستدرك الوسائل  ج١٠ ص٢٥.
[10] البلد الأمین  ج١ ص٢٥١.
[11] البلد الأمین  ج١ ص٢٥١.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن الشيطان الرجيم في يوم عرفة يكون أذل ما يكون في هذا اليوم؛ ولكن مع ذلك التفتوا إلى الانتقام. إن الذي يذل خصمه ويطرحه أرضاً أو بعرف الرياضيين: يضربه بالأكتاف؛ ماذا يفعل إن قام من مكانه؟ بالتأكيد يحاول الانتقام، ويقول: لقد ضربتني وصرعتني فسوف أنتقم منك.
  • اطلبوا النفحة من صاحب النفحة؛ فالذي يعطيك في ليلة القدر يعطيك في صلاة الليل. والبعض منكم يعطى النفحة في كل صلواته الواجبة؛ فحاول أن تجعل صلواتك محطة كيوم عرفة. وكما يقال: كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء، نقول: كل صلاة ليل هي ليلة القدر وكل فريضة يوم عرفة.
Layer-5.png