- ThePlus Audio
ما سر خلود الحسين (عليه السلام) مع كثرة المضطهدين في التاريخ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
فوت الزيارة وحسرة مباركة
في كل موسم زيارة، ينتاب المؤمنين الذين لم يحالفهم التوفيق للحضور في مشهد الحسين (ع) شوقا شديد وحسرة عظيمة على فوت الفرصة. ولذا تجد قلوب المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها تغلي شوقا وحبا لهذه الزيارة. إن من أقعده المرض أو عرض دون زيارته مانع، فليعلم أن عالم الزيارة عالم القلوب. فكما يزور هذا البدن، يزور القلب وزيارته أشرف من زيارة البدن. عندما يأتون بالجنازة ويطوفون بها حول الضريح، لا يقال: أن الجنازة زارت وإنما زُورت، إذ أن الزيارة ما كانت بوعي والتفات، وهي أرقى من الزيارة التي لا التفات فيها. ولكننا لا ننكر ما للمعصوم من عناية بهذه الجنازة التي يطاف بها، ولا يعلم إلا الله المعاصي التي تذوب في تلك اللحظة من الطواف حول الضريح الشريف، وكذلك العناية بمن يُدفن بجواره، ولا نعلم هذه المزايا إلا بعد الانتقال من هذه الدنيا إلى عالم البرزخ.
زيارة القلب لا البدن
ما المانع من أن تزور الحسين (ع) بين وقت وآخر من بعيد كلما اشتد شوقك واتقد هذا الحب الباطني في قلبك وأثير من خلال استماع إلى مصيبة أو قراءة نص مفجع؟ كنت جالسا أمام التلفاز في وقت ليس وقت النعي والمصيبة، وسمعت الخطيب يذكر براز أصحاب الحسين (ع) وأنه برز منهم في حملة واحدة خمسون، وما تبقى منهم برزوا واحدا واحدا لأن العدد لم يكن كافيا لحملة جماعية، حتى بقي الإمام وحيدا غريبا، فقلت في نفسي: كم هي مشجية هذه العبارة لو تأمل فيها المتأمل؟
هذا وقد تكون على مائدة الطعام مع الأهل والعيال، فتسمع هذه الفقرة من المصيبة، وإذا باللهب الباطني يتوقد وتجري دمعتك. واعلم أن الرقة إذا أتتك في مناجاة أو ذكر مصائب أهل البيت (ع)، فاعلم أنها الفرصة المغتنمة والمنحة التي لا ينبغي التفريط بها حتى لو كنت في عرس أو في جو لاه. فإذا رأيت في قلبك شوقاً إلى عالم الغيب وحباً لله عز وجل، فخذ زاوية أو أغمض العين وتمتم في صدرك. فقد ورد في الروايات الشريفة أن الذي يذكر الله خاليا من الذين هم في ظل الله يوم القيامة: (رَجُلٌ ذَكَرَ اَللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)[١].
لا تنتظر سببا لتذكر الله…!
يقال: أن أحدهم دخل الحمام ففتح الماء الحار خطأ، فاحترق قليلا، وإذا بالحمام يتحول إلى محراب عبادة، وقال: يا رب، لم أتحمل ماءً ساخناً في دار الدنيا، فكيف بتلك النار التي سجرها غضبك؟ وبكلمة جامعة: إن المؤمن صياد الفرص. وإذا جاءتك الرقة الحسينية بمناسبة أو رأيت في التلفاز منظراً مهيجاً للعواطف، فأغمض عينيك وقل: صلى الله عليك يا أبا عبد الله. لقد شربت الماء في عمرك كثيرا، ولكن لا تنسى أن تسلم على الحسين (ع) في كل شربة ماء.
وما أغفله من إنسان، ذلك الذي يبخل عند شرب الماء المارد بالسلام على الحسين (ع). لقد تحدثت ذات يوم مع أحد المؤمنين وكان طيارا، وعادة ما يكون للطيار رتبة مميزة بين الناس، فقلت له: يا فلان، عندما تستقر الطائرة لا تحتاج إلى قيادتك، فحاول أن تصلي لله ركعتين ولو جلوسا، واذكر الله بحال من الأحوال، فهذه من الأمور المتميزة عند العرش وقد تُعطى الهبات في مقابل هذا الذكر الفجائي.
ماذا لو جئته ماشيا؟!
أما لو جئت مشيا إلى الحسين (ع) وزرته في مشهده وأنت منهك من المسير وقد تورمت رجلاك، فلابد أن تزوره بتفاعل وإقبال. فإن لم تقبل في قراءة الزيارة من أول مرة، فأعدها ثانية وثالثة ورابعة حتى تصل إلى حالة من حالات الإقبال القلبي. وإن الالتفات إلى ما ورد في هذه الزيارة من مضامين ومعاني، من موجبات الإقبال والتفاعل.
إننا نستهل سلامنا على الحسين (ع) في زيارة الأربعين، بذكر ولايته، فنقول: (اَلسَّلاَمُ عَلَى وَلِيِّ اَللَّهِ وحَبِيبِهِ)[٢]. قد يسأل سائل فيقول: لماذا هذا البكاء المرير، وهذا الجزع على سيد الشهداء (ع)؟ إن التأريخ مليء بالمظلومين؛ فقد قتل أصحاب الأخدود وأحرقوا وهذا ما لم يقع للحسين (ع) وأصحابه؛ أي لم يحرقوا بالنار، وقد عُذب سحرة فرعون ونكل بهم فرعون أشد التنكيل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهناك الكثير من المعذبين في التاريخ.
جمع الحسين (عليه السلام) بين هذين الأمرين هما سبب خلوده
فنقول في مقام الإجابة: لقد جمع الحسين (ع) بين أمرين، أولا: عظمة المصيبة. لقد كانت مصيبته عظيمة في جميع صورها، ولو قُتل الحسين (ع) لوحده لهان الأمر؛ ولكن ما ذنب الرضيع؟ لو قتل العباس وعلي الأكبر والرضيع بعده، لهان الأمر عليه أيضا، ولكن شهد مصرعهم ومصرع جميع أهل بيته وأصحابه بنفسه وكان آخر شهيد في أرض نينوى. ولذا إذا أردنا استدرار الدمعة قلنا: نظر يميناً وشمالاً فلم ير منهم أحداً إلا وصافح التراب خده، وهنا نادى: يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء، قوموا من نومتكم يا كرام.
وإن ما يُفهم من بعض المقاتل، أنه (ع) قبل استشهاده وقبل خروج روحه الطاهرة من بدنه، رأى مقدمات الهجوم على الخيام الطاهرة. ألا نقرأ في المصيبة: حانت منه التفاتة إلى خيامه، فنادى يا قوم اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي؟ يعني ذلك أنه شهد هجوم الأعداء على الخيام. وقمة المصيبة باعتقادي ما كان يعلمه (ع) من سبي ذريته، تلك المصيبة التي أبكت إمام زماننا (عج) وهو الذي يبكيه صباحا ومساءاً، ويبكيه بدل الدموع دما. عندما يتذكر منظر زينب (ع) وهي على ناقة بغير وطاء، ويسار بها من بلد إلى بلد وإمامنا زين العابدين (ع) يأن في الأغلال، وأنهم كلما قصروا عن المشي قرعت رؤوسهم بالحديد. ويُمكن القول: أن الحسين (ع) قد جمع بين أمرين هما سر خلوده وسر زحف الملايين في كل عام إليه؛ عظمة المصيبة، وبلوغه القمة في الحب الإلهي.
لقد بلغ الحسین (علیه السلام) من الحب أقصاه
وهذا الزحف سيستمر عاما بعد عام إلى قيام القائم (عج). بل هذه الزيارات تورث الإدمان، فلا يزور الحسين (ع) أحد ويطاوعه قلبه أن يبقى في البيت في السنة التالية؛ بل تراه أول الملتحقين بهذا الركب العظيم. تصور كم سيكون العدد في المستقبل؟ إن هذه الجذوة تزداد اشتعالا كل عام، وهذا الحب يجذب المريدين والمحبين من كل مكان.
إن من أوصاف الأئمة (ع) التي وردت في الزيارة الجامعة: (اَلتَّامِّينَ فِي مَحَبَّةِ اَللَّهِ)[٣]؛ فقلب الحسين (ع) كقلب أبيه أمير المؤمنين (ع) وقلب أبنائه، حيث لم يبق فيه فراغ إلا وقد ملأه الحب الإلهي. ماذا يصنع رب العالمين إذا رأى إنسانا على وجه الأرض، قد امتلئ قلبه بحب الله عز وجل؟ كيف يعوضه إذا وقعت عليه مصيبة في حبه؟ ولهذا اضطرب الكون عندما رأى رب العالمين الحسين (ع) في تلك الحالة يوم عاشوراء، ولم يرفعوا حجرا إلا ورأوا تحته دما عبيطا وقد احمر الأفق بعد شهادته.
الحب في الله
فإذا أردت نيل المقامات العليا، فلابد من أن تتأسى بحبيب الله وتفرغ قلبك من كل الشواغل. قد تقول: وماذا أصنع بحب الزوجة والأهل والعيال؟ فأقول: إنه حب طولي وهو إلى الشفقة أقرب منه إلى الحب، ولابد أن تصل إلى مرحلة تُحبهم فيها لأن الله أمرك بحبهم ليس إلا، ولذلك تُنكر المنكر الذي يصدر منه ولا تتغاضى عنه من أجل هذا الحب. لقد ذكر لي أحدهم أنه كاد أن يموت هماً عندما اكتشف أن ولده الذي رباه على الآداب والمستحبات واصطحبه إلى المجالس والزيارات، أصبح مدمنا على المعاصي من خلال هذه الأجهزة المحمولة التي هي فخاخ الشيطان.
لقد كان يائسا بائسا وهو يقول: ما هذه المصيبة التي ابتليت بها بعد عمر طويل. إننا نحب أولادنا ولكنهم يسقطون من أعيننا إذا رأيناهم مدمنين على المعاصي، إلى درجة يصل الحال بالبعض أن يدعو على ولده ويطلب من الله موته. ولذا قال دعبل الخزاعي الشاعر المؤيد بروح القدس أمام الرضا (ع) ما لم يُنكره الإمام (ع):
أُحِبُّ قَصِيَّ الرِحمِ مِن أَجلِ حُبِّكُم
وَأَهجُرُ فيكُم أُسرَتي وَبَناتي
يا خير من خلى به وحيد
ويعني ذلك: أنه ما دامت الزوجة والأولاد محبين للأئمة (ع)، فهو يحبهم وإلا خرجوا من قلبه تماماً. ولذا يُمكن القول: أن مقام المحبة أعلى المقامات، وإذا وصل الإنسان إلى مقام المحبة التامة، صدرت منه المستحبات والواجبات بلا تكلف. بل يغتنم المحب لله عزوجل ساعات الليل، وينتظر السحر، لأنه لا يستطيع الخلوة في النهار لمكان المزعجات والقيل والقال، وهموم الزوجة ومشاكل الأولاد. إلا أنه قبيل أذان الفجر وعندما يكون الجميع في نوم عميق، يقوم من فراشه ويخلو بربه، ويقول: إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات وخلى كل حبيب بحبيبه؛ أي يا رب، خلوتي معك وأنسي بك إذا كان أنس الناس في الفراش لوحدهم أو في أحضان زوجاتهم مثلا. إنني هجرت يا رب، لذيذ النوم للذيذ المناجاة ولأنك خير من خلى به وحيد.
قد يسأل سائل فيقول: وكيف لنا الوصول؟ لقد حاوت وبلغت من العمر ما بلغت وقد تجاوزت الخمسين والستين، ولا زلت أجنبياً عن هذه المعاني، ولا أقوم الليل وإذا قمت، كان ذلك على مضض، فلذا لا أجد حلاوة في المناجاة. من لم يصل إلى مقام الحب الذي وصل إليه الحسين (ع)، فليعلم أن عباداته متكلفة، لا يرى لذة في المناجاة ولا يجد حلاوة في هذا العالم أبدا. سل الله عز وجل أن يعطيك شيئا من هذا المعنى، وأن يجعل في قلبك هذه المزية والمنحة التي لا يعطيها إلا لمن اجتباه.
ماذا تعرف عن مقام الخلة؟
ومما ورد في زيارة الحسين (ع): (اَلسَّلاَمُ عَلَى خَلِيلِ اَللَّهِ وَنَجِيبِهِ)[٤]. وما أعظمها من صفة…! تصور أن ترى شخصية عظيمة في طريق الزيارة فترى مرجعا من مراجع التقليد أو وليا صاحب كرامة، فتُعجب به وتقبل يده، ثم تقول: يا فلان، من هذا الذي معك هذا الذي تصطحب معك؟ فيقول لك: هذا حبيبي وخليلي. ألا تتساءل في نفسك: من هذا الذي اتخذه المرجع خليلاً وحبيباً؟ ألا تقدسه وتغبطه؟ ألا تتحدث إليه مستكشفا عن سر هذه الخلة، وتقول له: يا فلان ما الذي صنعت حتى صرت خليلاً لهذا المرجع؟ تخيل أن ترى في زمن الظهور إمام زمانك ومعه أحدهم والإمام يقول: هذا خليلي في زمن الغيبة، ألا ترفعه إلى العرش؟ فكيف إذا كان خليل الله عز وجل كما اتخذ الله إبراهيم خليلا؟
خلاصة المحاضرة
- كما يزور هذا البدن، يزور القلب وزيارته أشرف من زيارة البدن. عندما يأتون بالجنازة ويطوفون بها حول الضريح، لا يقال: أن الجنازة زارت وإنما زُورت، إذ أن الزيارة ما كانت بوعي والتفات، وهي أرقى من الزيارة التي لا التفات فيها. ولكننا لا ننكر ما للمعصوم من عناية بهذه الجنازة التي يطاف بها.