لماذا ينبغي أن نراقب القلب وتقلباته؟
بسم الله الرحمن الرحيم
التفقه في الدين هو الفريضة
هناك من العلوم ما لا يضرك جهلها إن جهلتها؛ كعلم الحاسوب وما شابه ذلك من العلوم. وهناك علم هو فريضة وجهله يكون سببا في تعاسة الأبد وهو العلم الأخروي. ويُمكن القول إن الرواية المعروفة: (طَلَبُ اَلْعِلْمِ فَرِيضَةٌ)[١]؛ تنطبق على العلوم المنجية لا على علوم كالكيمياء، والفيزياء والطب وما شابه ذلك من العلوم التي هي محترمة ومقدرة وتعلمها يجب كفائياً بالتأكيد. علم الفقه هو الفريضة التي عنته الرواية الشريفة.
لو كان لك ولد على وشك السقوط من سطح المنزل وكان نجاته متوقفا على سلم؛ لاشتريت ذلك السلم بأغلى الأثمان، ولم تكن لتماكس البائع في السعر أبدا؛ لأنك تريد أن تصعد بأي ثمن كان. وهنا يُقال: إن مقدمة الواجب واجبة، وليست هذه الأبحاث من الأبحاث الترفية، وإنما لهذه الأبحاث وزنها وأهميتها التي لا تتجلى إلا عندما ينتقل أحدنا إلى ذلك العالم الموحش واليوم الذي لا ينفع فيه: (مَالٞ وَلَا بَنُونَ)[٢].
المبادرة إلى التهذيب في سن مبكرة
ثم إن الهجرة لابد وأن تبدأ بها من سن البلوغ؛ فلا يختلف البالغ في الخامسة عشر فقهياً وشرعاً عن الشيخ في الثمانين والتسعين. وكلما بادر الإنسان إلى خلاص نفسه في سن مبكرة كان الأمر أهون عليه. لا تستهن بنفسك، وبادر إلى الخلاص بالتربية وبالتنمية؛ فإن الشيطان إذا استولى عليك؛ لا يُمكن دفعه بسهولة. وكما يُقال: الدفع أولى من الرفع. فأن تدفع اللص السارق عن المنزل ببعض الأمور الاحتياطية أسهل عليك؛ أم تحاربه بعد أن يدخل المنزل؟ إنك في هذه الحالة معرض حتى للقتل على يديه.
ويُقال في العلوم العسكرية: إذا دخل الجيش أرض العدو، فالنصر حليفه؛ لأنه دخل عقر دارهم. ومن الأمور التي يستحوذ بها الشيطان على البعض الوسواس بالطهارة والنجاسة. ترى الرجل قد دخل عالم الدين والتدين والاحتياط الشرعي حديثا، وقد كان سابقاً لا أبالياً؛ فهو لا يبالي بالطهارة والنجاسة، ولكنه الآن تقيد وأصبح من كبار الوسواسيين، وهو يرى العالم كله نجس. إننا نحذر من هذه المصيبة التي يُبتلى بها المتدينون لا غيرهم. إنه يريد أن يتقن الوضوء والصلاة؛ فيقع في هذا المحذور.
الوسواس وأثره المدمر على الدين
إحداهن ابتليت؛ فنصحناها، فلم تسمع. فقالت بعد فترة: حللت المشكلة جذرياً؛ فقد تركت الصلاة…! إن الصلاة أصبحت بالنسبة إليها أمر مكلف ومزعج، ولذلك تخلصت من هذا الإزعاج بهذه الطريقة. ومن قال لك أن تجعل صلاتك بهذه الكيفية؟ ولذلك نقول: لا تعود الخبيث، فلا تعتني بالوسواس عند أول ظهوره؛ لأنك إن باليت به؛ فإن الشيطان سيقول: هذا زبون جيد؛ فإني سأوسوس له اليوم في الوضوء وغداً في الغسل وبعده في الصلاة. وحذار من انتقال الوسوسة في العبادة إلى الوسوسة العقائد. ترى الوسواسي قد بدأ من الوضوء وانتهى بالدين والإسلام.
ولذلك يقول سبحانه: (وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ)[٣]؛ فالذي ينظر نظرة مريبة أو نظرة شهوية، قد يقول في نفسه: وما حجم الذي صنعته؟ إنها مجرد نظرة عابرة؛ ماذا عساها أن تفعل؟ فهل لمستها أو مددت يدي إليها أو ارتكبت الحرام الكبير؟ ولكنه غافل عن أن هذه النظرة هي من خطوات الشيطان، وهي نظرة، فابتسامة، فكلام، فموعد، فلقاء…!
أوقف الضرر فهو ربح في حد ذاته…!
إن المؤمن شديد الحذر من اتباع هذه الخطوات ولا يؤخر التوبة إن ارتكب معصية. إن بعض المغفلين يخدعهم الشيطان، ويقول لهم: افعل ما يحلو لك؛ ثم التزم في سن الأربعين مثلا.أولا: من ضمن لك الحياة إلى تلك الفترة؟ ثانيا: من يضمن لك الخروج من أغلال الشيطان التي يلقيها عليك، ويوثقك بها؟ لقد رأينا كيف تلتف بعض الأفاعي في الغابة حول الفريسة؛ فتستغيث فلا تُغاث. لا تجعل الشيطان؛ يلتف حول وجودك؛ كالتفاف الثعبان حول الفريسة.
بادر إلى إيقاف الخسارة؛ فهو ربح في حد ذاته. إن الرجل إذا كانت له شركة فاشلة، أو محل غير مربح؛ أوقف تلك الشركة أو أغلق ذلك المحل؛ لأنه في خسارة مستمرة وإيقاف هذه الخسارة ربح في حد ذاته. ترى الرجل يخسر دينه يومياً؛ ولكنكه يتكابر ويتبجح بدل أن يوقف الخسارة. لا تقل:
أنا الغريق فما خوفي من البلل
توبة الشباب مريحة وسهلة…!
هذا وتوبة الشباب مريحة سهلة تختلف عن توبة كبار السن المكلفة. يأتينا شاب ويقول: إنني منذ سنوات طويلة وأنا مبتلى بالنظر إلى الحرام وبالتفكير في الحرام؛ فماذا أصنع؟ أقول: لو كنت صادقا في توبتك؛ لكفتك ليلة من الليالي تغتسل فيها غسل التوبة، ثم تصلي فيها ركعتين خاشعتين، تستغفر الله في سجودهما؛ فإذا ما رفعت رأستك من السجود لم يكن لهذا الذنب أثر ولا وجود في حياتك. وليس بالضرورة أن تكون هذه الصيغة للاستغفار عن الذنوب وإنما قد تكون للاستغفار عن التقصير وما أكثره. فكما روي: (اَلتَّائِبُ مِنَ اَلذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)[٤].
توبة كبار السن
إن المشكلة في توبة كبار السن في كثير من الأحايين. فيأتينا الرجل الطاعن في السن، ويقول: أكلت مال فلان، وسلبت مال فلان، وفي ذمتي مال لفلان. فهل يكفيه الاستغفار وبالبكاء والندامة؟ كلا، فإن كان يعرف صاحب المال، لابد وأن يرد له المال وإن لم يكن يعرف صاحبه؛ أعطى المال لوكيل المرجع تحت عنوان: مجهول المالك أو رد المظالم، وهكذا تكون توبته.
سافر وأنت في مكانك
وهذه الهجرة أو السفر الذي نتحدث عنه ليس سفراً بدنياً؛ فأنت لا تبرح مكانك. إنما هو سفر قلبي روحي. إن من مشكلات هذا السفر؛ هو أنك قد تمر عليك فترة من الزمن، تجد فيها قلبك قد أصبح قاسياً، ولا يتفاعل. فترى الجميع ليلة عاشوراء أو يوم عاشوراء في المجلس يضجون بالبكاء، ويكاد يُغمى على البعض؛ ولكنك متفرج، ولم تذرف دمعة من أول محرم إلى تلك اللحظة. لا ينبغي أن تمر على هذه الظاهرة مرور الكرام. هل تنام الليل إذا رأيت في قلبك وخزةً أو نبضاً متسارعا أو حرارة زائدة؟ أم أنك تذهب إلى أقرب مركز صحي لتعالج المسألة؟ فما بالنا إذا ظهرت فينا علامة من العلائم المرضية أسرعنا إلى الطبيب المعالج وقد نذهب إلى أقصى البلدان، ونبذل الأموال؛ ولكننا لا نلتفت إلى هذا القلب الباطني وإلى ما يصيبه من الآفات وتعتريه من الحالات؟
إن بعض الناس يبقى في المستشفى مدة طويلة، ويُنفق الآلاف؛ ولكنه لا ينفعه ذلك فيموت في مرضه ذلك، وتذهب تلك المصاريف سدى من دون فائدة. ولكنك إذا عالجت القلب؛ فإن هذه المعالجة تنفعك إلى الأبد، وتُنقذك في ذلك اليوم الذي: (لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ)[٥]. إن قسوة القلب ظاهرة مرضية؛ عليك أن تبحث عن أسبابها. وبحمدالله كتب الأخلاق مليئة بهذه الأبحاث؛ فراجع جامع السعادات وغيره من الكتب.
أما من أراد كتاباً جامعاً مانعاً مصدرياً في التهذيب؛ فعليه بروايات أهل البيت (ع) وبكتاب وسائل الشيعة في عشرين مجلد يحتوي على أحاديث الطهارة، والديات والحج، وما أشبه ذلك، وفيه باب خاص بجهاد النفس. ولو اتخذت استاذا يعلمك هذه الروايات شرحاً وتمحيصاً؛ لكانت تلك الدورة دورة مباركة جداً. وهي لابد منها لمن أراد أن يخرج من دائرة الهوى إلى جاذبية الهدى، وزادك في السفر وفي هذه الهجرة المباركة؛ هذا الكتاب الذي فيه روايات أهل البيت (ع) حول جهاد النفس.
لم سمي القلب قلبا؟ لكثرة تقلبه…!
إنه من الآيات العجيبة. بينا ترى الرجل مدبرا؛ إذا به يُقبل أشد الإقبال، فيصلي صلاة خاشعة، ويبكي على الحسين (ع) بكاء شديدا في مجالسه، ثم يذهب إلى المنزل فيرى قلبه كالخشبة اليابسة مرة أخرى؛ فهو في إقبال وإدبار مستمرين. والذي لا يهتم بأمر قلبه لا يهمه أدبر أم أقبل؛ ولكن الإنسان المراقب يهمه ذلك ويراقبه دائما.
ألا ترى أن زوجتك قد تدخل عليك، وأنت معرض عنها، أو منشغل بأمر، فتقول لك: يا فلان، ما بك؟ ما الذي أهمك، وأشغل بالك؟ إنها تراقبك وتنظر هل أنت راض عنها أم أنك معرض؟ لأن سعادتها مرتبطة بك. هي تخشى أن تكون أعرضت عنها؛ والإعراض مقدمة للجفاء، والجفاء مقدمة للتباعد والتباعد مقدمة للانفصال. إن عينها عليك دائما. وكذلك الولد الذي يعيش على حساب والده وفي منزل أبيه. إن أحدنا لابد أن تكون عينه على مصدر البركة في الوجود. فإذا صرف رب العالمين النظر عنك؛ فمن ينفعك؟ وكما يقول الشاعر:
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
خلاصة المحاضرة
-
- هناك من العلوم ما لا يضرك جهلها؛ كعلم الحاسوب وما شابه ذلك من العلوم. وهناك علم هو فريضة وجهله يكون سببا في تعاسة الأبد وهو العلم الأخروي. ويُمكن القول إن الرواية: (طَلَبُ اَلْعِلْمِ فَرِيضَةٌ)؛ تنطبق على العلوم المنجية لا على علوم كالكيمياء والفيزياء والطب وما شابه ذلك.
- أما من أراد كتاباً جامعاً مانعاً مصدرياً في التهذيب؛ فعليه بروايات أهل البيت (ع) وبكتاب وسائل الشيعة في عشرين مجلد يحتوي على أحاديث الطهارة، والديات والحج، وما أشبه ذلك، وفيه باب خاص بجهاد النفس. ولو اتخذت استاذا يعلمك هذه الروايات شرحاً وتمحيصاً؛ لكانت تلك الدورة دورة مباركة.