لا تکن من هؤلاء الذاكرين…!
بسم الله الرحمن الرحيم
هل يكفي الذكر اللساني المجرد عن العمل؟
من قواعد السفر إلى الله عز وجل؛ الجامعية. هنالك ثلاثة مسالك أو ثلاثة أمزجة في هذا العالم. فمنهم من يغلب عليهم الذكر، ونسميهم الذكريون. وهؤلاء يكتفون بالذكر عن العمل. إنني لأعجب من شاب مراهق تغلب عليه المعاصي إلى درجة رأيت مراهقا قال لي ذات يوم: إنني ما من حرام إلا وقد ارتكبته. فدعونا له بالتوفيق والتوبة، ويبدو أن رب العالمين عالجه. لم يعالجه سبحانه بالتوبة وإنما عالجه بالموت…! لقد قطع عمره في ريعان شبابه شفقة عليه؛ إن بعض الميتات نعمة على أصحابها. ولهذا لو فقد أحدكم شاباً له الحق أن يتألم؛ ولكن لحتمل أنه لو بقي حياً لكثرت معاصيه. ولهذا إمامنا زين العابدين (ع) يبين لنا ذلك في دعاء له: (فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ)[١].
فيأتينا من هؤلاء الشباب من أصحاب المنكر من يقول: علمني ذكراً أترك به الحرام. إنني أضحك في قلبي لأن القضية ليست بهذه البساطة. هل ترك المعاصي يتم بأخذ سبحة والقول: مائة مرة: يا رب، ويا رقيب، ثم بعدها تُصبح رقيباً محاسباً؟ كلا، إن الأمر أعظم من ذلك. هل الإنسان الذي هو مبتلى بخمسين مرض، يكفيه أن يقول: يا طبيب، ويا طبيب؟ أم أنه لابد من أن يذهب إلى الطبيب بنفسه، ويتناول العلاج ويتوسل إلى الله عز وجل؟ إن الذكر جيد وراجح؛ ولكنه لابد أن يكون في الطريق العام وفي ضمن برنامج متكامل.
عليك بهذا الذكر الخفي
فقد تذهب إلى مجلس الغافلين اضطرارا كأن تذهب إلى عرس أخيك أو أختك أو ماشابه، فتقول: ماذا أصنع في هذه الساعات التي تذهب سدىً من عمري؟ أقول: عليك بالذكر الخفي، وبسيد الأذكار: لا إله إلا الله. أطبق شفتيك وانطق بلا إله إلا الله. من الذي يعلم بك؟ شاء الله عز وجل أن يجعل كلمة الإسلام كلها لام وألف تقريبا؛ فلا يحتاج الذاكر إلى فتح الفم. إنه سيد الأذكار التوحيدية، ولكن في مجال التوسل بأهل البيت (ع) فأشرف الأذكار الصلاة على محمد وآل محمد.
بل ذهب البعض إلى أن الصلوات – من بعض الجهات – أقوى من التهليل. لا أقول أن الصلوات هي كلمة الإسلام، ولكن يُقال: أنك بلا إله إلا الله تتكل على قدرتك؛ ولكنك في الصلاة على النبي وآله؛ تُوسط النبي وأهل بيته (ص). أي: يا رسول الله، خذ بيدي، أنا أصلي عليك وأنت صل علي. وهذا من باب المبادلة؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وهل النبي (ص) يصلي علينا؟ نعم، فهو ليس أعلى من الله عز وجل الذي يصلي عليك ويسلم. أليس يقول عز من قائل: (أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ)[٢]. لو صلى النبي (ص) عليك مرة واحدة؛ كانت هذه الصلاة كفيلة لقلب كيانك.
هل الذكر اللساني من دون إقبال ينفع الإنسان؟
قد يسأل سائل فيقول: إن أحدنا يذكر الله من دون أن يكون مقبلا ملتفتا؛ فهو أمام التلفاز وينظر إلى مسلسل أو إلى مباراة أو إلى ما شابه ذلك من البرامج، ويريد أن يكمل ذكر عاشوراء مثلا؛ فما حكم هذا الذكر؟ هل هو مؤثر أم لا؟ في الواقع الآراء مختلفة في هذه القضية. ذهب البعض إلى أن الذكر دعاء، والذي لا يدعو لا ذكر له. ويضربون على ذلك مثالا، وهو: أن الوالد إذا رأى ولده عطشانا بادر إلى سقيه حتى قبل أن يطلب منه ذلك؛ ولكنه لو كان في المستشفى وهو مغمى عليه، ثم قال: ألف مرة، أنا عطشان لما سقاه أحج شربة ماء، لما التفت إليه لأنه ذكر بلا توجه، ولأنها كلمات لا معنى من ورائها، بل قد يضره الماء إن شربه. فلو أخذت سبحة، وقلت: استغفرالله وأتوب إليه ولم تكن نادما؛ فأنت لست بمستغفر.
وذهب البعض إلى أن الإنسان إن ذكر الله عز وجل بلسانه وإن كان معرضا بقلبه ومشغولا بفكره؛ كان ذلك الذكر خير له من العدم. فأين من يمضق علكة من إنسان يردد: لا إله إلا الله؟ صحيح أنه غير ملتفت؛ ولكنه في هيئة مطلوبة. وذهب آخرون إلى أن الذي يردد الأذكار قد يلتفت أحيانا في أثناء الذكر فيكون ذلك مفيدا له ومؤثرا. فالذي يزرع القمح ثم لا تنجح زراعته ويفسد الزرع؛ لكان له فيما يحصل عليه من حبات القمح القليلة عزاء عما فقده، ولوجد كمية يطحنها ويستفيد منها.
فيكفي لمن يردد: السلام عليك يا أبا عبدالله، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله، ويذكر عاشوراء وهو في الطريق ينظر يميناً وشمالاً؛ أن يلتفت مرة واحدة؛ فيقولها بتوجه. إن هذه المرة ستنفعك. إن قيمة الذكر ووزنه في مقدار تقريب العبد إلى الله عز وجل.
الكثير منا له شغف بهذا العالم، وله جوع باطني. فإن رأيت في قلبك عطشاً معنوياً إياك أن تفرط فيه. لقد أيقظك رب العالمين في فترة، وأعطاك شهية؛ فاغتنم الفرصة التي قد لا تتكرر. لا تقل: إنني اليوم بحمدالله في حالة جيدة؛ فقد تكون غداً في أسوء حال. إنك اليوم مقبل وقلبك يدفعك إلى المجالس؛ ولكنك لا تدري كيف سيكون حالك بعد سنة؟ إن انتكاسات آخر الزمان معروفة؛ حيث يُصبح العبد مؤمناً ويغدو كافراً. البعض قد يحول الذكر إلى جلسة أنس مع رب العالمين؟ لا داعي لأن تتكلف في اختيار المكان الذي يناسبك؛ فيكفي أن تجد في البيت زاوية مريحة؛ فتدعو وتذكر الله فيها. إن موسى موسى (ع) لما سقى البنتين لم يدع الله في الشمس، وإنما تولى إلى الظل ثم دعا الله بما دعاه.
هيئ لنفسك أجواء الذكر والعبادة
ولهذا نرى البعض في يوم عرفة لا يتوجه إذا كانت الخيمة غير مناسبة، والجو حاراً. فخذ مكاناً مريحاً في المنزل أو في الحديقة أو على شاطئ البحر، واغمض عينيك واشتغل بالذكر أيا كان. اشتغل إما بالذكر اليونسي أو بالتهليل أو بالصلاة على النبي وآله أو بزيارة عاشوراء. وستصل إلى فترة تستلذ بذلك. تخيل سجينا نبتت له أجنحة فطار بها من السجن؛ فكم تُرى سيحلق في السماء؟ إنه سيطير ما أمكنه الطيران، وإذا قيل له: سترجع بعد ساعة إلى زنزانتك؛ كيف سيكون حاله؟ كم يكون حزيناً عندما يريد أن يرجع إلى زنزانته. إن بعض المؤمنين يرى الدنيا سجناً كبيراً، والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. إنه يرجع من العمل مع الزملاء الغافلين والعاصين، أو يسرجع من السوق الذي اضطر إلى الذهاب إليه من أجل عائلته؛ ليستلقي على سريره ويعود إلى باطنه، ويُحلق مرة أخرى. وهذا المؤمن لا يحتاج إلى حديث يحفزه على الإقبال؛ فهو مقبل لوحده.
والذي يمشي على الحبل ينظر إلى الأمام؛ فإن نظر إلى الأسفل وقع، وأصيب بالدوار. وهكذا هو ذاكر الله عز وجل؛ فهو عندما يصلي يخاف أن ينظر يميناً وشمالاً بقلبه، لأنه يخشى أن تُسلب منه الحالة التي هو فيها. ولذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (قَالَ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يَا عِبَادِيَ اَلصِّدِّيقِينَ تَنَعَّمُوا بِعِبَادَتِي فِي اَلدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ تَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي اَلْآخِرَةِ)[٣].
وهناك جماعة نُسميهم أهل الفكر. يقول الرجل منهم: إنني أريد أن أتثقف، وأن أكون واعياً؛ فهو يشتري عشرات الكتب ويتبجح بأن مكتبته تحتوي على خمسة آلاف كتاب مثلا، وهو يقرأ مع ذلك كثيرا؛ إلا أنه يتحول بعد فترة إلى مكتبة متنقلة؛ فلا تميز في صلاته أبدا. إلا أنك تجد رجلا ريفيا بسيطا يصلي خيراً منه. ليست العبرة بكثرة القراءة والمطالعة؛ بل قد تتحول العلوم إلى حجب، كما نقرأ ذلك في المناجاة الشعبانية: (حَتَّى تَخِرَقَ أَبْصَارُ اَلْقُلُوبِ حُجُبَ اَلنُّورِ)؛ فبعض الحجب ظاهرها نورانية ولكنها حجابٌ.
ثلاثي الذكر والعلم والخدمة
ومن الناس من يهوي الخدمة، ويؤسس من أجل ذلك مبرةً أو يعمل في مبرةً، ولا هم له سوى مساعدة الأيتام، ولكن تجد له من الهفوات ما يُعجبك. لقد رأيت أحد هؤلاء ممن خدماته عمت الآفاق وفي جميع القارات، وله كتاب فيه المشاريع العالمية؛ ولكنني وجدته يغتاب منافسه، ويقول: إن المبرة الفلانية كذا وكذا. إنه لازال في عالم الأرض والمعصية؛ حيث لم تشفع له خدمته الإنسانية. فما عسى أن يكون وزن المغتاب؟ إن قارئ الكتب قد يصلي صلاة مدبرة، وصاحب المشاريع قد يصلي صلاة مدبرة، وصاحب الذكر قد يصلي صلاة مدبرة؛ فكن أنت ممن يجمع بينها.
كن ذاكراً في حينه، ومتعلماً وممن يرفع الهم والغم في هذه الأمة، وهذه هي الجامعية. ولهذا عندما غسل إمامنا زين العابدين (ع) الحسين (ع) وجد على جسمه الشريف آثارا غير آثار ما تعرض له في عاشوراء، وكانت تلك الآثار؛ للجراب التي كان يحملها على ظهره للأرامل واليتامى. لقد جمع الحسين (ع) بين جرحين؛ جرح الأسنة والرماح، وجرح الجراب.
خلاصة المحاضرة
- إن رأيت في قلبك عطشاً معنوياً إياك أن تفرط فيه. لقد أيقظك رب العالمين في فترة، وأعطاك شهية؛ فاغتنم الفرصة التي قد لا تتكرر. لا تقل: إنني اليوم بحمدالله في حالة جيدة؛ فقد تكون غداً في أسوء حال. إنك اليوم مقبل وقلبك يدفعك إلى المجالس؛ ولكنك لا تدري كيف سيكون حالك بعد سنة؟
- لقد رأيت أحد هؤلاء ممن خدماته عمت الآفاق وفي جميع القارات، وله كتاب فيه المشاريع العالمية؛ ولكنني وجدته يغتاب منافسه، ويقول: إن المبرة الفلانية كذا وكذا. إنه لازال في عالم الأرض والمعصية؛ حيث لم تشفع له خدمته الإنسانية. فما عسى أن يكون وزن المغتاب؟