Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

كيف نقرأ سيرة الرضا (عليه السلام)؟

بسم الله الرحمن الرحيم

القصيدة المعجزة

إن قصيدة دعبل الخزاعي من المعجزات البلاغية التي لم تُقرئ في مجلس وإلا وأوجدت حالة من الإقبال وأبكت العيون بغير اختيار. إنني أعتقدها من القصائد التي نالتها يد عناية المعصوم. والدليل على ذلك قول الرضا (ع) له: (يَا خُزَاعِيُّ نَطَقَ رُوحُ اَلْقُدُسِ عَلَى لِسَانِكَ)[١]. فإذا زرت الرضا (ع) يوما خاصة في أيام شهر محرم، فخاطبه قائلا: أريد التشبه بدعبل في قراءة هذه التائية وتيقن أن الإمام (ع) حي مرزوق يلتفت إليك ويراك ويسمعك، وأنت تقرأ له تائية قد أبكته، فهي مجربة.

هذا وتذكر كتب السير، أنه (ع) أمر الخادم وجلبوا له عشرة آلاف درهم كهدية له، فرفضها دعبل، وقال: والله ما جئت لذلك. ولكن الإمام (ع) أحب أن يعطيه شيئا، فأعطاه قميصه. وينبغي أن نتعلم الإخلاص من دعبل الذي رفض أن يقبض شيئا في مقابل قصيدة أنشأها في حبهم (ع). إننا نزور الأئمة (ع) ومحملين بالحوائج، ولا بأس بذلك ما لم نتأذى عندما لا تكون المصلحة قضائها.

لماذا لم يعطني الإمام حاجتي؟

لعل الإمام (ع) أراد أن تأتيه مرة أخرى ليعطيك حاجتك أو أراد أن تأتيه مرة ثالثة ورابعة وهذه الزيارات هي هبة من الإمام (ع) وسيردها لك أيضا. فقد يُنقل عن شهيد أو ميت، شوهد أنه قد رأى الرضا (ع) عند مماته وقد زاره الإمام (ع) عدة مرات ردا لزياراته. فكن دعبل الذي يُقسم بلفظ الجلالة أنه لم يأت للدنيا وإنما جاء حباً وشوقاً.

من الدروس التي نستفيدها من هذه القصة؛ أن يكون الحديث نابعا من القلب. قيل لدعبل: لماذا بدأت بالمصيبة؟ فقال: ما أحببت أن أبدأها بالتشبيب والتغزل بالنساء وما شابه ذلك، فبدأتها بهذه الأبيات. والذي أعجبني في الأمر، أنه قد غشي على الإمام عند الاستماع لذكر مصائب أهل بيته (ع) حتى حاول الخادم إسكات دعبل، فسكت ساعة ثم عاد.

إنني أعتقد اعتقادا قويا، أنك إن قرأت هذه القصيدة برقة وببكاء في مشهد الرضا (ع)، فإنه سيعطيك ما أعطاه لدعبل أو ما شاكل ذلك.

لماذا نضع يدنا على رأسنا عند ذكر الحجة (عجل الله فرجه)؟

وقد يسأل البعض عن علة وضع اليد على رأس عند ذكر الإمام الحجة (عج) والإجابة نجدها في هذه القصة. فعندما وصل دعبل إلى قوله:

خُـــرُوجُ إِمَامٍ لاَ مَحَالَةَ خَـــارِجٌ
يَقُومُ عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ واَلْبَرَكَاتِ

قام الرضا (ع) ووضع يده على رأسه ونحن نفعل ذلك تأسيا به (ع) لا أنها سنة شعبية سار عليها الناس.

لقد روي عن الرضا (ع) أنه قال: (مَنْ زَارَنِي عَلَى بُعْدِ دَارِي ومَزَارِي أَتَيْتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ حَتَّى أُخَلِّصَهُ مِنْ أَهْوَالِهَا إِذَا تَطَايَرَتِ اَلْكُتُبُ يَمِيناً وشِمَالاً وعِنْدَ اَلصِّرَاطِ واَلْمِيزَانِ)[٢]، ولكن ثمة ثواب أكبر من هذا وهو ما روي عنه (ع): (فَمَنْ زَارَنِي فِي غُرْبَتِي كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَغْفُوراً لَهُ)[٣].

لماذا لقب الرضا (عليه السلام) بغريب الغرباء؟

لا يجري عليه هذا اللقب اليوم وإنما هو ناظر إلى تلك الفترة التي جيء به وحيدا من المدينة وأكمل رب العالمين حلقات البلاء له بذلك، فلم تكن معه أخته السيدة فاطمة المعصومة (س) ولم يكن معه ولده الإمام الجواد (ع) ولم يكن معه أحج من أسرته. لقد كان غريبا بمعنى الكلمة عندما جاءته المنية، فضى وحيدا مسموما غريبا، وقد جاءه ولده الجواد (ع) في لحظاته الأخيرة وتولى أمره؛ إذ لا يلي أمر الإمام إلا الإمام.

كيف عوض الله غربة الرضا (عليه السلام)؟

وقد جاء التعويض الإلهي على هذه الغربة بكثرة الزائرين له. فتشير بعض الإحصائيات إلى أن له حوالي عشرين مليون زائر في العام. ماذا قال إبراهيم (ع) عندما جعل أهله هاجر وإسماعيل (ع) في واد غير ذي زرع؟ قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[٤]. وقد استجاب له ذلك حتى أصبحت مكة اليوم أغلى مكان في العالم وتستعد الناس قبل أشهر من موسم الحج للتشرف إلى تلك الديار المقدسة. والذي جعل هذه الجموع تهوي إلى مكة، هو الذي جعل أفئدتهم تهوي إلى مشاهدهم المشرفة. فنستطيع القول: إن هذه الجموع لم تأت اعتباطا وإنما هناك من أثر في هذه النفوس ودفعهم إلى تلك المشاهد.

ما هو حديث سلسلة الذهب؟

إن هذه الرواية التي تُعرف بسلسة الذهب المروية عن الإمام الرضا (ع) وردت بصورتين؛ الصورة الأولى: (كَلِمَةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ قَالَهَا دَخَلَ حِصْنِي وَ مَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي)[٥]، والصورة الثانية التي يبدو أنه قالها في جمع من الخواص بخلاف الصورة الأولى التي صدرت منه في جمع العامة عندما أطل من الراحلة في نيشابور وأصحاب الأقلام واقفين وأقلامهم بيدهم ينتظرون منه الرواية: (وَلاَيَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي)[٦]. وهي تُعرف بسلسلة الذهب لأنه قال (ع): روى أبي عن جدي عن جدي عن جبرئيل عن الله عز وجل، ولذا قيل: إذا قرئ هذا الحديث على مجنون لأفاق.

وأنا من شروطها

والإمام (ع) ذكر نقطة هامة في تلك الرواية، وهو قوله: (بِشُرُوطِهَا وَ أَنَا مِنْ شُرُوطِهَا)[٧]. أي أنا بما لي من مقام الولاية وليست المسألة، مسألة شخصية. فلا توحيد من دون الولاية ولا ولاية من دون توحيد؛ فلن يطير طائر بجناح واحد. وهو تأكيد لحديث الثقلين. فلو أخذت سبحة وهللت ألف مرة وأنت خارج الحصن أو قلت: أعوذ بهذا الحصن من دون أن تدخله، لافترستك الحيوانات المفترسة.

كيف ندخل الحصن؟

الرواية واضحة وصريحة: من دخل لا من كرر قول لا إله إلا الله. ولذا تجد الرجل يسأل: إنني هللت الله كثيرا أو التزمت بالذكر اليونسي المعروف شهرا أو شهرين ولكنني لم أجد فيه خاصية. لقد نادى يونس (ع) ربه في الظلمات بحالة من الانقطاع وهذه الحالة هي المؤثرة في عمل هذا الذكر. ما هو التهليل؟ ألا ترى في الوجود مؤثرا إلا الله عز وجل. فمن كان كذلك، هل يخاف من الحوادث؟ هل يخاف سوء العاقبة؟ إنها كلمة الفصل التي تُذهب عنك كل هم وغم وتنزع عنك كل قلق وخوف لتصل إلى مقام: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[٨].

إحياء ليلة الجمعة في مشاهد الأئمة (عليهم السلام)

إن من الليالي التي يهتم بإحيائها المؤمن في السنة، ليالي الجمع خاصة في المشاهد المشرفة. إن أحدنا لم يصل بعد إلى المستوى الذي يحيي فيه الليل من مغربه إلى مطلع الفجر ولكن يكتفي من الليل ببضع ساعاته. إنني أشبه قيام ساعة في الليل بنقطة اللحيم التي تثبت طنا من الحديد في السقف. إنني أخاطب الرضا (ع) في مشهده وأقول له: إلحمني بنقطة واحدة لأكون من الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع): (صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانِهِمْ، وَ أَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلَى)[٩].

فلو استجاب الله لك هذا الدعاء في ليلة الجمعة في مشهد الرضا (ع)، فلن تضرك غفلة ساعة، فإن الحديد يبقى مرفوعا. يقول سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)[١٠]؛ فيبدو من الآية أن الطير يُمسكه الرحمن في اللحظات التي لا يرفرف فيها. وما المانع من أن نقول: إن الله يسك قلب المدبر الذي لا يذكره أحيانا؟

لماذا لا تترك الشهوات المحللة؟!

لقد روي عن الرضا (ع) أنه قال: (مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ اَلنَّارِ وَ لَمْ يَتْرُكْ شَهَوَاتِ اَلدُّنْيَا فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَ مَنْ ذَكَرَ اَللَّهَ وَ لَمْ يَسْتَبِقْ إِلَى لِقَائِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[١١].  إن الإمام (ع) لا يتحدث عن الشهوات المحرمة، فقد قال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[١٢]، وإنما يتحدث عن أصحاب الشهوات المحرمة، فكيف يتعوذ بالله من النار من ينظر نزرة محرمة ولا يضبط شهواته؟

كيف يتعوذ من النار وفي وجوده هذه النقطة السوداء؟ إن من يريد التكامل لابد وأن يقوم بمسح ضوئي لكل سلوكه الداخلي منه والخارجي ويروض نفسه من خلال القيام ببعض الأعمال والتروك. ألسنا نترك الطعام والشراب والشهوة المحللة والنظر في المرآة واستعمال الطيب وغيرها في شهر رمضان وفي الحج؟ فإذا تمكنت من ترك الحلال بأمر من الله عز وجل، كنت أقدر على ترك الحرام. هل الذي يصوم في شهر رمضان المبارك يفطر على لحم محرم مثلأ؟ إنه أمر شبه مستحيل. إن ترك الشهوات كما ورد عن الرضا (ع) طريق التكامل.

أما قوله (ع): (مَنْ ذَكَرَ اَللَّهَ وَ لَمْ يَسْتَبِقْ إِلَى لِقَائِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)، فيشبه قول الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[١٣]، وهي كلمة فاضحة في الحقيقة. يُبتلى الرجل بغدة خبيثة فيخاف من الموت أيما خوف. أين الذكر وأين الحب الإلهي إذن؟ إذا ألغيت رحلة شاب إلى بلد خطيبته هل يفرح بإلغائها أم يحزن؟ إذا كان حبه صادقا لحزن على إلغاء الرحلة وإن كان ممن يدعي الحب وهو ليس كذلك، فبالتأكيد لا يبالي بإلغاء الرحلة أبدا.

حب البقاء في مشهد الرضا (ع)

إننا نجد الكثير ممن يسكنون مدينة مشهد المقدسة من جنسيات مختلفة وذلك أنهم يجدون من الأنس في هذا البلد ما لا يجدونه في غيره. إنهم لا ينوون الإقامة الطويلة في سائر المشاهد كما يفعلون ذلك في مشهد؛ بل ويبحثون عن السكن الدائم هنا. ولذا أقول لزائريه ممن أنسوا بإمامهم (ع)، ألا يقطعوا هذه الصلة ويستمروا في الارتباط به وفي الإبقاء على هذا الأنس حتى بعد رجوعهم إلى أرض الوطن وذلك من خلال الاطلاع على الكتب التي تضمنت سيرته وكلماته ككتاب عيون أخبار الرضا والتأمل في مضامين الزيارة الجامعة الصغيرة التي وردت عنه (ع).

شكر الوصول إلى المشهد…!

عندما ينزل أحدنا من الطائرة في مطار مشهد، فأول شيء ينبغي فعله هو شكر الله عز وجل على هذه الدعوة التي وُجهت إليه. لقد دعوت أحدهم إلى زيارة الحسين (ع) وكان لي دور في حجز التذاكر، وكانت أول زيارة له للحسين (ع)، فركب متن الطائرة وأقلعت ولكنه عادت في وسط الطريق لوجود خلل ما. لقد سُحبت منه الزيارة بهذه البساطة. فينبغي أن نشكر الله عز وجل قبل كل شيء أن أشهدنا مشهد أوليائه (ع)، وأن نقول عند الوصول إلى هذه الأماكن المقدسة وغير المقدسة أيضا: اللهم حببني إلى أهلها وحبب صالح أهلها إلي، اللهم أنزلني منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين. فمن أولى من الإمام (ع) أن يحبب ربك إليه ويحببه إليك؟

[١] كمال الدين  ج٢ ص٣٧٢.
[٢] الأمالی (للصدوق) ج١ ص١٢١.
[٣] كشف الغمة  ج٢ ص٣١٨.
[٤] سورة إبراهيم: ٣٧.
[٥] كشف الغمة  ج٢ ص٣٠٧.
[٦] بحار الأنوار  ج٣٩ ص٢٤٦.
[٧] بحار الأنوار  ج٣ ص٧.
[٨] سورة يونس: ٦٢.
[٩] شرح الأخبار  ج٢ ص٣٦٩.
[١٠] سورة الملك: ١٩.
[١١] کنز الفوائد  ج١ ص٣٣٠.
[١٢] سورة الأعراف: ٣٢.
[١٣] سورة البقرة ٩٤.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن قصيدة دعبل الخزاعي من المعجزات البلاغية التي لم تُقرئ في مجلس وإلا وأوجدت حالة من الإقبال وأبكت العيون بغير اختيار. إنني أعتقدها من القصائد التي نالتها يد عناية المعصوم. والدليل على ذلك قول الرضا (ع) له: (يَا خُزَاعِيُّ نَطَقَ رُوحُ اَلْقُدُسِ عَلَى لِسَانِكَ).
  • أقول لزائري الرضا (ع) ممن أنسوا بإمامهم (ع)، ألا يقطعوا هذه الصلة ويستمروا في الارتباط به وفي الإبقاء على هذا الأنس حتى بعد رجوعهم إلى أرض الوطن وذلك من خلال الاطلاع على الكتب التي تضمنت سيرته وكلماته ككتاب عيون أخبار الرضا وتدبر الزيارة الجامعة الصغيرة التي وردت عنه (ع).
Layer-5.png