كيف نعرف مستوانا الروحي؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
إنَّ حديثي هذا سيكون حول عاشوراء وأيامها التي هي أيام حزن أهل البيت (ع) وكآبتهم، وسأتناول بعض الملاحظات حول إقامة المجالس الحسينية؛ حتى تكون إقامتنا لهذه المجالس عن وعي والالتفات أكبر لهذه الأيام.
إنَّ الذي يريد أن يفحص نفسه عند الطبيب ويريد أن يطلع على صحته البدنية يذهب إلى الطبيب من دون تكلف، ولا يستعمل المريض الحبوب التي تنقص من مستوى السكر في الدم عند ذهابه للمختبر، وهكذا الأمر في سائر الأمور، ومن الجيد أن يعرض الإنسان نفسه على طبيب الروح وعلى محكات الروح ومحاطتها.
هناك بعض الأمور التي تفتح يد الإنسان، فإنَّ الذي يدعي أنه على خير كمن يدعي أن بيده جوهرة ويقسم على ذلك ألف قسم ولو فتح يده لتبين صدقه من كذبه، ولذلك نرى في وصية الإمام الكاظم (ع) لهشام: (يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَقَالَ النَّاسُ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَقَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَة)[١].
كواشف ثلاث عن المستوى الروحي للإنسان
إنَّ هنالك ثلاثة كواشف تكشف عن وضع الإنسان الباطني؛ ولا يعول على منام مزعج يكشف أنَّ الإنسان شقي أو منام يتبين فيه أنَّه إنسان سعيد:
الكاشف الأول هو كيفية الصلاة بين يدي الله عز وجل، وأعني بذلك الصلاة غير المتكلفة؛ فتارة أنت في ليلة القدر وتتأثر بهذه الليلة فتبكي وتنحب، وهذا يشبه الذي يأخذ علاجاً للسكر والدهون ثم يذهب إلى المختبر فمن الطبيعي أن لا يحصل على النتيجة الواقعية.
إن الصلاة الطبيعية هي صلاة الإنسان في إحدى أسفاره وهو في أحد الفنادق الكبار تحوطه المغريات وهي في خلوة، ولذلك أكدت الروايات على تقوى الله عز وجل في السر كما في العلن، وإنَّ صلاتنا وبكاءنا على أهل البيت (ع) في شهر محرم أو تفعالنا في أيام الحج والعمرة وليالي القدر وشهر محرم لا يعد مقياسا طبيعي لما نحن عليه؛ بل هذه المحطات هي محطات استثنائية ومنح إلهية يوفق الإنسان فيها إلى بعض العبادات والأعمال، وإنما المقياس الطبيعي هو كيفية الصلاة في سائر الأوقات وفي الخلوات وشدة التزامنا بالصلاة أول الوقت.
والكاشف الثاني هو حالة الإنسان في المشاهد المشرفة والمواطن المقدسة؛ فالذي لا يرى في قلبه إقبالا في الحج والعمرة والطواف والسعي ليعلم أنَّ هناك خلل في علاقته مع رب العالمين.
إنَّ الذي يطوف حول البيت وهو ساه ينظر إلى النساء من حوله أو الذي لا تنزل منه دمعة في يوم العرفة من الزوال حتى الغروب والذي يذهب إلى المشاهد المشرفة وتكون زيارته زيارة عادية وكأنه ليس في أرض الحسين (ع) – وقد سمعت من يشتكي من زيارته إلى كربلاء؛ إذ يقول: ظننت أنني سيغمى علي في كربلاء إلا أن مشاعره كانت عادية جداً – أو الذي يبكي ويرتفع نحيبه عند ذكر مصيبة زينب ثم لا يتفاعل في مشهدها ويذهب من مصيف إلى مصيف مدة إقامته هناك ولا يمر ليسلم عليها، أليس كل ذلك كاشف عن خلل في تكوين هذا الإنسان؟
والكاشف الثالث أو الفاضح الثالث إن صح التعبير هو المجالس الحسينية، فالذي ليس له رصيد عاطفي يعتد به لا يرى في نفسه ميلاً للحضور في المجالس، وقد يحضر في المجالس خوفاً من عتب هذا أو خجلاً من أن ينتقده الناس؛ فيذهب إلى المجلس ولا تجري له دمعة ومن الناس من يغبط على حالته في مجلس الحسين (ع).
والكاشف الثالث محله أيام محرم الحرام، وأكثر الناس عبرة وبكاء وحرقة في هذه المجالس هم أكثر الناس إيماناً والدليل على ذلك الحديث النبوي: (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)[٢].
إذ ليس من الطبيعي أن تجري عبرة البعض ويشعرون بالحرقة في داخلهم وأن يكون البعض الآخر مبتلى بقلة الدمع، ولا ضير في من لا تجري دمعته لعلة تكوينية كجفاف الغدة الدمعية في العين ولكن عليه أن يعيش حرقة القلب والفؤاد، وهذه الحرقة دليل على حرارة الإيمان التي يعيشها مع سيد الشهداء (ع) وعلى مستوى كمالي جيد.
وقد علمت من بعض الذين لم يكونوا على حالة جيدة في مجالس الحسين (ع) أنهم أصيبوا بنكسة روحية طوال العام، وإن هذه الدموع الجارية على الإمام في بداية السنة الهجرية تعطي للسنة بعداً جديداً وتصبغها بصبغة الحسين (ع)، وهذا هو السبب في إصرارنا على إحياء مآتم الحسين (ع).
وقد اقترحت على بعض المؤمنين أن يتخذوا وردا من الصباح إلى المساء فيسلموا على الحسين (ع) كما في زيارة عاشوراء مائة مرة ويلعنوا قاتليه مائة مرة كلما سنحت لهم الفرصة.
وكما أنَّ المجالس الحسينة هي مجالسٌ للأجر والثواب ولكنها كاشفة أيضاً عن مستوى الإنسان الروحي والإيماني.
التفاعل مع الجو العام لمصيبة الإمام (عليه السلام) دون الدخول في التفاصيل
إنَّ هناك من يسمع بعض صور المقاتل ولا يستسيغها؛ فيناقشها في قلبه، ويسأل عن صحة ذلك ومصدره؛ والحال أنَّ على الإنسان أن يتفاعل مع الجو العام للأحداث، وقد يقول الخطيب كلمة لا تعجبك ولا تنطبق مع مزاجك؛ فلا تدع ذلك يحرمك من الدمعة؛ إذ أنك لست في جامعة وجو أكاديمي لتحقق مصادر الروايات، ما عليك إلا أن تعيش الجو العام وتتفاعل من دون الدخول في التفاصيل.
وخذ مني هذه القاعدة كذكرى، وسيهون عليك كل ما قيل لك في أحداث يوم العاشر وما قبله إن استوعبتها، وهي أنَّ ما وقع في اليوم العاشر من المصائب المؤلمة ومن الأحداث الجليلة على أهل البيت (ع) فوق ما يتصوره بشر وفوق ما ذكر في الكتب، نعم قد يعطيك حميد بن مسلم الراوي أو أبو مخنف أو بحر العلوم أو المقرم وأمثالهم بعض الصور عما حدث ولكنهم لم يستوعبوا الأحداث كاملاً، ولا يعلم حجم الكارثة على أهل البيت (ع) وشدة المصائب والصورة الحقيقية للأحداث إلا الذي يبكيه بل الدموع دماً والذي يندبه صباحاً ومساء.
إنَّ الإمام (ع) وصل إلى كربلاء في اليوم الأول أو الثاني من محرم، وقد بقي فيها إلى اليوم العاشر، ولك أن تتصور الأحادث الثقيلة التي وقعت في الأثناء من الجوع والعطش والخوف والرعب، حالته مع الأطفال والنساء والخيم وحالته مع الأصحاب، ولم ينقل لنا التاريخ إلا بعض الأحداث التي وقعت في طريقه من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى كربلاء وهناك حوادث كثيرة وحوادث مؤلمة لم ينقلها التاريخ وكم نتفاعل عندما نسمع بمعاملته مع ابنة مسلم وهو حدث أثناء الطريق، فكيف بعشرات بل مئات الحوادث المحزنة التي جعلت الإمام صاحب العصر (عج) يقول: (فَلَأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَ مَسَاءً، وَ لَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بَدَلَ اَلدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَلَيْكَ، وَ تَأَسُّفاً وَ تَحَسُّراً عَلَى مَا دَهَاكَ وَ تَلَهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلَوْعَةِ اَلْمُصَابِ، وَ غُصَّةِ اَلاِكْتِئَابِ)[٣]، ويتمنى الإمام أن يموت بلوعة المصاب على ما جرى على الحسين (ع).
الخدمة في مجالس الحسين (عليه السلام)
وينبغي للمؤمن أن يخدم في مجالس الحسين (ع) بما أمكنه وإن اقتصر ذلك على توزيع الماء؛ فالكل يشترك في غنائم الحرب على السواء في الجيش المنتصر الذي يقتحم البلاد ويحقق النصر، سواء كان في الخط الأول أو الثاني، ورحمة الحسين (ع) تشمل الجميع من المستمع والساقي والذي يصف النعال وكل من يعمل عملاً في مجلس الحسين (ع)، وأقولها بكل جرأة أن الذي يعمل في مجليالحسين (ع) أصبح له حق على الإمام (ع) ولا يتحمل الإمام أن لا يعطي صاحب الحق حقه أبداً.
والحسين (ع) هو مظهر رحمة الله الواسعة ويقال أنه كان يبكي في يوم عاشوراء على أعدائه لأنهم سيدخلون النار بسببه، فمن كانت هذه عاطفته تجاه أعادئه فكيف هي عاطفته تجاه خدامه والباكين على مصائبه؟
إن القلب الذي يتفاعل مع الحسين (ع) هو قلب قريب إلى صاحب العصر والزمان (عج)؛ فلو أردت أن توصل قلبك بقلب الحجة (ع) عش أيام العزاء مشاعر الحزن والحرقة بتكلف أو بأية وضعية أمكنتك حتى تفوز بنظرته الكريمة.
ويرجى للذي يتفاعل مع مصيبة الحسين (ع) تفاعلاً بليغاً أن تعطى له منحة حسينية طوال العام، وقد تجري عبرة البعض في أيام الغدير وعيدي الفطر والأضحى وفي أي مكان يسمع فيه ذكر الحسين (ع) لأنه قد خزن العاطفة في يوم عاشوراء.
التزود من عاشوراء لسائر الأيام..!
وقد التقيت في إحدى سفراتي بأحد المؤمنين في الكويت، وقيل لي: أنه لا يسمع اسم الحسين إلا وتجري عبرته، فقل بدلاً من ذلك أبو علي، ولا ريب أنَّ هذا هو المخزون العاطفي الذي نتحدث عنه، ويتجلى ذلك أكثر عندما يتشرف الإنسان بزيارة الحسين (ع) ويصبح تحت قبته السامية وتصل يده إلى ذلك الضريح وهو واقف يعزيه بولده ويعزي أصحابه فيه (ع)، وهذا المخزون العاطفي وهذه الأيام يدخرها الإنسان كمطر الربيع الذي يتحول إلى مخزون من الماء في باطن الأرض، ينتفع به الإنسان يوماً ما.
وهنيئاً لمن يذكر الحسين (ع) في كل مناسبة من مناسبات العام؛ فهو يذكره عندما ينظر للحطيم ويعلم بأنه محل ظهور الإمام الذي ينادي: (أَلا يَا أَهلَ الْعالَم إِنَّ جَدِّيَ الْحُسَين قتل عَطشاناً)[٤]، ويذكره يوم التروية وهو اليوم الذي خرج الحسين فيه من مكة محولاً حجه إلى عمرة مفرده وذهب إلى كربلاء وفيه يقول الشاعر:
وَقَد اِنجَلى عَن مَكة وَهوَ اِبنُها وَبَهِ تَشرَّفت الحَطيمُ وَزَمزَم[٥]
لماذا نبكي على على الحسين (عليه السلام)؟
وأما يوم عرفة فهو اليوم الثاني للحسين (ع) بعد يوم عاشوراء، وهو يوم ذكره (ع)، ومن يعيش هذه الأيام المشاعر الحسينية يرجى له أن يعمق من منسوب هذه الحرارة في وجوده، ويتجلى قمة العطاء الحسيني في ذلك اليوم الذي ينتقل فيه من هذه الحياة الدنيا ويقع رأسه على يد الحسين (ع) وسينفعه الحسين (ع) في ذلك اليوم؛ فلا يتوقع الإنسان من بكائه مالاً أو جاهاً أو منصباً دنيوياً أو أداء دين أو ما شابه ذلك، بل عليك أن تبكيه كما قال الشاعر:
تـبـكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ لـكـنّـمـا عيني لأجلِكَ باكيه
تـبـتـلُّ مـنكم كربلا بدمٍ ولا تـبـتـلُّ منِّي بالدّموعِ الجاريه[٦]
وتصور أنَّ أمير المؤمنين (ع) يؤاخذك ويقول لك غداً عندما ترد عليه الحوض: بئس الموالي والشيعي أنت، أين مشايعك لي وقد عملت كذا وكذا؟ ثم يأتي الحسين (ع) ويقول له يأ أبتاه اشفع لهذا الذي بكى في مصابنا عمراً مديداً ويكى وأبكى علينا أو أنشد فينا بيتاً من الشعر فلا ترده، فهل تتوقع أن يرد الإمام شفاعة ولده؟
وهل تمنعك الزهراء شفاعتها عندما تأتي بالقميص المخرق المدمى يوم المحشر وتقول: يا عدل ياحكيم أحكم بني وبين من قتل ولدي فتتشبث أنت بأذيالها؟
هل يمــــنعني وهـــــو الســــــــاقي أن أشــــربَ مِن حـــــــوض الكَوثر[٧]
مصيبة الحسين (عليه السلام) في أخيه العباس (عليه السلام)
وما دامت القلوب قد رقت في هذا اليوم وهو يوم العباس (ع)[٨] وليس حديثنا حديث الجمعة بل إنَّ هذا اليوم هو يوم البكاء على الإمام؛ بل لابد من اغتنام كل فرصة للبكاء عليه، ونحن الآن في وقت الزوال وفي ساعة مباركة هلموا لنسافر إلى كربلاء؛ لتذهب الأخوات إلى خيام النساء والحرائر لتعزوا زينب (س) وأم كلثوم ورقية وسكينة هذه النسوة المفجوعة، ونحن نذهب إلى خيمة الحسين نستطلع حالته مع أخيه العباس.
ويقال أنه لبس لامة حربه بعد أن قتل إخوة العباس (ع)، ولعله لم يرد أن يظهر بزي المحارب الحقيقي فيحرق قلب النساء؛ ولأجل ذلك بقي في زيه الطبيعي من دون ثياب حرب، ولكن الجهاد لما اشتد، علم أنها ساعة المواساة فلبس لامة حربه وتقلد سيفه ودنى من أخيه الحسين يستأذنه: أتأذن لي يا أخي بالبراز؟ أو تعلمون ما كان جواب الحسين (ع)؟ اسمع هذه الكلمة وأطلق لنفسك العنان، لقد أجابه بكلمة مختصرة: يعز علي فراقك يا أخي يا عباس.
ولما رأى الإمام (ع) أن الحرب في ساعاتها الأخيرة وهو اليوم العاشر الذي ينتهي فيه كل شيء، قال له إن كان ولابد من القتال فاذهب إلى المخيم وودع أخواتك وبناتك أخيك ونساء النبوة. دخل العباس (ع) إلى الخيام الطاهرة فتعلقت به السيدة سكينة وطلبت منه الماء ولعلها طلبت الماء لأخيها الظامئ إذا قد لا يكون من المناسب أن تطلب هذا الطلب المادي من العباس (ع) في تلك الساعة.
توجه العباس إلى القوم وقال: قتلتم أصحاب أخي – طبعا إنما أنقل لكم مضمون المقتل والعهدة على الرواي –[٩] وقد بقي الحسين وحيدا فريداً وهذه نسائه وأطفاله عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم؛ فخلوا بينه وبين الماء، إن لم يكن لأجل الحسين فلأجل أولاده ونسائه وكلنا يعلم كيف سقى الإمام الحر وألف فارس معه ورشف خيولهم، فقال له الشمر: : يابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا، لَما سقيناكم منه قطرة، إلاّ أنْ تنزلوا على حكم ابن زياد وهذه منتهى القسوة والفضاضة والجلافة من هؤلاء الذين ختم على قلوبهم.
ثم هجم العباس على المشرعة ببطولة حيدرية واستلم الماء ولكنه تذكر عطش الحسين (ع) فرمى الماء على الماء – وقد كانت آخر وصية من وصايا أمير المؤمنين (ع) في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك؛ أن وضع يده بيد الحسين (ع) وأوصاه بأن لا ينسى المواساة لأخيه الحسين (ع) – وقال: لا ذقته وأخي الحسين (ع) ظامئ،
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أو تكوني
ما قيمة وجود أيها العباس والحسين (ع) مشرف على الهلاك:
هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
هَيهاتَ ما هذا فِعالُ دیني وَلا فِعالُ صادِقِ اليَقينِ
ملأ القربة ولكنهم قطعوا عليه الطريق وانهالت عليه النبال من كل حدب وصوب، وباعتقادي أنَّ العباس يأس من الحياة في تلك اللحظة التي أريق فيها ماء القربة، وكان الأمر أشد عليه من الجراح التي أصابته.
والمهم، قطعت يمناه وقطعت يسراه، فأخذ القربة بأسنانه، وقد كمن له رجل من وراء جذع نخلة فهوى عليه بعمود في يده ليسقط العباس (ع) على الأرض ويخور بدمائه الطاهرة، وقد نادى أهل البيت أجمعهم: واعباساه واحسرتاه وا قلة ناصراه بعدك يا أبا الفضل، وهؤلاء علموا أن لا حمى بعده ولا لواء يرفع لهم بعد استشهاده.
وجاء الحسين (ع) يمسح الدم عن وجه أخيه العباس ونادى الآن انكسر ظهري وقلَّت حيلتي وشمت عدوي:
أو لست تسمع زينبا تدعوك من لي يا حماي إذ العدى نهروني
أو لست تسمع ما تقول سكينة عماه يوم الأسر من يحميني
وننتقل إلى صورة أخرى، وأريد أن تعيش مشاعر عاشوراء إذا أنني قد لا أوفق للكلام في يوم العاشر. من المعروف في أوساط قراء العزاء أن الإمام الحجة (عج) يتألم في هذا اليوم لمصيبتين، والطريق إلى قلبه الشريف مصيبة العباس وقد أعطيتم حقها بالبكاء جزاكم الله خيرا، ومصيبته رضيع الحسين (ع) الظامئ.
وكما قلت أنَّ الإمام الصادق (ع) يقول: إنَّ دم المظلوم من ولد الحسين (ع) هو دم الرضيع، وقد أغشي على الطفل كما ذكر في بعض المقاتل من شدة العطش، وجاءت تلك وقالت يا أبا عبدالله خذ هذا الطفل، فما نفعل به وقد أغمي عليه من العطش، وجاء به الحسين (ع) وخاطب القوم وقال: لقد قتلتم أصحابي وأهل بيتي وهؤلاء كانوا من المقاتلين فما ذنب هذا الطفل الرضيع؟ أما ترونه كيف يتلظى عطشاً؟ فالتقت عمر بن سعد إلى حرملة وقال له اقطع نزاع القوم – ونشب نزاع في الجيش الأموي منهم من يقول ارحموه ومنهم من لا يريد أن يرحمه – فرماه بذلك السهم الذي ذبح الطفل من الوريد إلى الوريد.
وقد رأيت في بعض المقاتل أن الطفل أحس بحرارة السهم بالرغم من أنه كان مغمى عليه، ولكن يبدو أن السهم جعله يستفيق ليعتنق أباه الحسين (ع) وكأنه كان يستنجد به ولكن أين النصير؟ ثم ملئ الحسين (ع) كفه من دم رضيعه ورمى به نحو السماء، ورجع إلى المخيم ويبدو أن ثيابه كان متلطخة بدم الرضيع وقد رجع إلى المخيم وآثار الدم على ثوبه وبدنه.
وأنتقل إلى الفقرة الأخيرة وهي مقتل الحسين (ع). إذا جاءتك العبرة فلا توقفها لتجعلها ذخيرة يوم فقرك وفاقتك، يقول الرضا (ع): (يَا اِبْنَ شَبِيبٍ إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ)[١٠]، وإنَّ البكاء عليه يحظ النوب العظام، لك ذنوباُ من محرم الماضي إلى المحرم من هذا العام؛ فامسح تلك الذنوب بالعبرات، فأي ذنب يقاوم قطرة من البكاء على سيد الشهداء (ع).
وعندما قتل أصحاب الحسين (ع) جميعاً، وقف على جثثهم وجعل يخاطبهم وهم قتلى بلا رؤوس: يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء مالي أناديكم فلا تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون؟ هل أنتم نيام؟ أرجوكم أن تنتبهوا، هذه نساء الرسول قد علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم أيها الكرام وادفعوا عن حرم رسول الله (ص)، وهذه الصيحة هي صيحة استنجاد وموقف عاطفي من الإمام (ع).
استعد الإمام (ع) للحرب ودخل خيمة الإمام زين العابدين (ع) ليودع ولده السجاد (ع)، وانظروا إلى أدب السجاد (ع) وهو يطلب من عمته أن تجلسه وتسنده عندما دخل عليه الحسين (ع)؛ إذا كيف يكون مستلقياً على الأض أمام إمام زمانه؟ قال له يا أبتاه ما صنعت مع هؤلاء الكافرين؟ ما هي النتيجة؟ والإمام في الخيمة لا يعلم أحداث المعركة بالتفصيل بحسب العلم الظاهري، قال له الحسين (ع): (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ)[١١] وكأن الإمام أراد أن يهيئه لمصائب ذلك اليوم.
قال: يا أبتاه أين عمي العباس؟ لماذا جئت إلى خيمتي وحيداً؟ فقال الحسين (ع): أعظم الله لك الأجير بعمك العباس فقد قتله القوم، ونادى علي بن الحسين إمام زمانه واعماه واعباساه واحسرتاه بعدك يا أبا الفضل، ثم ثال له أين أخي علي الأكبر؟ قال: قتل أخوك أيضاً، ثم أخذ يسأله واحداً تلو الآخر، أين القاسم وأين حبيب بن زهير وأين فلا ن وفلان؟ فقال له الإمام: قد صرعوا جميعاُ ولم يبقى إلا أنا وأنت؛ فكلهم قد ذهبوا للقاء ربهم وليس في الخيمة إلا أنا وأنت، أو تعلمون ماذا أجاب السجاد (ع) – وأية عين لا تدمع في هذه المصيبة – قال يا عمتاه على بالسيف والعصا – يا صريع الدمعة الساكبة وقرين المصيبة الراتبة، فدتك النفوس الزواكي يا بقية الماضين – قال الحسين (ع) ما تصنع بالسيف والعصا؟ قال: أما العصا فأتوكأ عليها – فهو مريض مدنف عليل – وأما السيف فأجاهد به بين يديك يا أبتاه.
ثم استعد الحسين (ع) للخروج الأخير إلى مقتله، وقال: هلموا يا آل رسول الله (ص) للوداع، أراد أن يتوجه إلى المقتل كأخيه العباس (ع)، أراد أن يودع حرائر النبوة، توجه إلى الخيام الطاهرة، يقال: أن النساء أقبلن عليه يودعنه، فواحدة تشمه بنحره وواحدة تقبله بصدره وأخرى تتعلق بردائه تمنعه عن المسير وأظنها سكينة؛ فقد تشبتث بأذيال أبيها تمنعه عن الذهاب إلى المقتل، أخذ يمسح دموعها بكميه ويقول لها:
سيطول بعدي يا سكينة! فاعلمي منك البكاء إذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني
وإذا قتلت فأنت أولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوان!
ثم قال لهن: يا بنات رسول الله (ص) ايتوني بثوب خرق اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه، ايتوني بثوب عتيق لا يرغب فيه فإني مقتول ومسلوب في آن واحد، ثم حعل ذلك الثوب تحت ثيابه فنادته أم كلثوم: كأنك استسلمت للموت؟ كلامك هذا كلام إنسان مقدم على الشهادة، قال لها: كيف لا أستسلم للموت ولا ناصر لي ولا معين؟
يا أبا عبدالله هذه الدموع الجارية اليوم هي نصيرك: (إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اِسْتِغَاثَتِكَ وَلِسَانِي عِنْدَ اِسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَ بَصَرِي)[١٢]، لقد استجاب سمعك وبصرك وقلبك وعينك للحسين (ع) في هذا اليوم فصدر منك ما صدر. ثم جعل يقاتلهم وحيداً فريداً ويضربهم بالسيف ويطعنهم بالرمح ويرجع إلى مركزه وهو ينادي لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وكأنه أراد أن يسمع النساء أنه لا زال على قيد الحياة. يقول حميد بن مسلم: (فَوَ اَللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَكْثُوراً قَطُّ قَدْ قُتِلَ وُلْدُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ أَرْبَطَ جَأْشاً وَلاَ أَمْضَى جَنَاناً مِنْهُ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)[١٣].
أتدرون ماذا قال بن سعد بهذه المناسبة؟ قال لقومه أتدرون ويلكم من تقاتلون؟ ليس هذا أسلوب قتال، إرموه بالنبال، فاجتمع عليه القوم بالنبال حتى أثخنوه بالجراح وجعلوا يرمونه من بعد فتساقطت عليه السهام والنبال والحجارة كأنها شآبيب المطر:
قد رام يلثمه، فلم يرَ موضعاً لم يُدمه عضُّ السلاح فيُلثمُ[١٤]
ماذا يبقى منه وقد هجم عليه ثلاثون ألفاً يرمونه بالسهام والنبال والحجارة.
وعندما حضرته زينب (س) نادت أ أنت أخي وابن والدي؟ قبل لحظات ودعناك يا حسين وننادي مهلاً مهلاً يا بن الزهراء وحالك الآن هو هذا؟ ثم ضعف الإمام (ع) عن القتال وجعل يكبوا عن ظهر جواده وينحني حتى سقط من جواده على الأرض، فانقلب عن يمينه فلم يتمكن، انقلب عن شماله فلم يتمكن من شدة جراحاته، عمل وسادة من تراب ونام عليها ليسلم نفسه إلى بارئها، ثم أتت أخته زينب (س) تكلمه أخي حسين كلمني توقعت منه كلمة واحدة في اللحظات الأخيرة.
نادت يا أخي أنت حمانا ورجانا، أنت بن محمد المصطفى وبن علي المرتضى وبن فاطمة الزهراء، كلمني بحق جدك رسول الله (ص)، وحسب ما يبدو من المقاتل أنها لم تسمع جواباً، جعلت تنادي يا جداه هذا حسينك بالعرى، قتله أولاد الأدعياء، خضيباً بالدماء ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل، يا بن مكة ومنى ويا بن زمزم والصفا،
نادَتْ فَقَطَّعَتِ القُلوبَ بِشَجْوِها لَكِنَّما انتَظَمَ البَيانُ فَرِيدا
إنْسانَ عَيْنِي يا حُسينُ أُخَيَّ يا أَمَلِي وَعِقْدَ جُمانِيَ المَنْضُودا
قوِّضي يا خيامَ عليا نزارٍ فلقد قوَّض العمادُ الرفيعُ
واملئي العينَ يا أُميَّة نوماً فحسينٌ على الصعيدِ صريعُ[١٥]
توجهوا بقلوبكم إلى أبي عبد الله (ع) وأنتم بيت من بيوت الله عز وجل وهو مسجد ومأتم في آن واحد: اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الاَْرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ اللهِ اَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَعَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ. رزقنا الله زيارتك في الدنيا وفي الآخرة شفاعتك.
وأقول بالنيابة عنكم: يا أبا عبدالله (ع) لولا اضطرارنا ولولا ذنوبنا ولولا ما نحن فيه لما قلنا ذلك، يا أبا عبدالله نقسم عليك اليوم بيدي أخيك المقطوعتين أن لا تردنا في يومنا هذا، مد لنا يديك يا سفينة النجاة ويا مصباح الهدى، وإذا لم تدخلنا في هذه الأيام سفينتك فمتى تدخلنا؟ إذا لم تدخلنا ونحن نبكي على مصيبتك ومصيبة أهل بيتك فمتى تنظر إلينا يا بقية الماضين؟ ارفع يديك يالدعاء يا سيدي وادع الله لنا بفكاك رقابنا من النار.
[٢] مستدرك الوسائل، ج١٠، ص: ٣١٨.
[٣] مصباح الزائر ج١ ص٢٢١.
[٤] إلزام الناصب، ج٢، ص٢٣٣.
[٥] السيد جعفر الحلي النجفي.
[٦] المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم (ره).
[٧] السيد رضا الهندي، القصيدة الكوثرية.
[٨] أصل العمل هو تبديل الخطاب للكتاب إلا أن الخطب الحسينية لا بد أن تكون خطابية.
[٩] ويبدو أنه مقتل المقرم.
[١٠] الأمالی (للصدوق) ج١ ص١٢٩.
[١١] سورة المجادلة: ١٩.
[١٢] إقبال الأعمال ج٢ ص٧١٢.
[١٣] الإرشاد ج٢ ص٩٥.
[١٤] السيد جعفر الحلي النجفي.
[١٥] السيد حيدر الحلي.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- هنالك ثلاثة كواشف تكشف عن المستوى الروحي للمؤمن؛ الكاشف الأول هو كيفية الصلاة بين يدي الله عز وجل، والكاشف الثاني هو حالة الإنسان في المشاهد المشرفة والمواطن المقدسة، والكاشف الثالث هو ميله للحضور في المجالس الحسينية.
- وينبغي للمؤمن أن يخدم في مجالس الحسين (ع) بما أمكنه وإن اقتصر ذلك على توزيع الماء؛ فالكل يشترك في غنائم الحرب على السواء في الجيش المنتصر الذي يقتحم البلاد ويحقق النصر، سواء كان في الخط الأول أو الثاني، ورحمة الحسين (ع) تشمل الجميع.
- إنَّ هناك من يسمع بعض صور المقاتل ولا يستسيغها؛ فيناقشها في قلبه، ويسأل عن صحة ذلك ومصدره؛ والحال أنَّ على الإنسان أن يتفاعل مع الجو العام للأحداث، وقد يقول الخطيب كلمة لا تعجبك ولا تنطبق مع مزاجك؛ فلا تدع ذلك يحرمك من الدمعة.