كيف نصل إلى درجة الإيمان المحبب؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إمام الحسين (عليه السلام)
لا ريب في أن الإمام الحسن (ع) هو صنو الحسين (ع) وما ورد في مدح الحسين (ع) قد ورد فيه أيضا. فقد وصفهما النبي (ص) في الكثير من أوصافه معا، فذكر أنهما إمامان قاما أو قعدا وأنهما ريحانتاه من الدنيا وأنهما سبطاه؛ ولكن الحسن (ع) هو السبط الأكبر من ناحية وإمام الحسين (ع) من ناحية أخرى.
قد يجتمع عدة من الأئمة (ع) في زمن واحد ولكن الإمام الفعلي هو إمام واحد. ولقد كان الحسين (ع) إماما وحاضرا في زمن الإمام الحسن (ع) ولكن الإمام الفعلي كان الحسن (ع) وكان الحسين (ع) المأموم ومن يجلس تحت منبر أخيه الحسن (ع) وهذه مزية عظمى من مزايا الإمام الحسن (ع).
غربة الحسن (عليه السلام) بعد استشهاده
ولم يعش الإمام الحسن (ع) غريبا فحسب؛ بل كان غريبا حتى في شهادته، فنحن نقرأ في الزيارة: (وَشَهِيدٍ فَوْقَ اَلْجِنَازَةِ قَدْ شُكَّتْ أَكْفَانُهُ بِالسِّهَامِ)[١]؛ فقد رُميت جنازته الشريفة بالسهام ومُنع من أن يُدفن عند جده رسول الله (ص). كم عظم هذا المشهد على الحسين (ع)؟ ما هذا الحقد الذي اجتمع في قلوبهم؟ إنه الحقد الذي تراكم منذ بدر كما نقرأ في الندبة: (وَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقَاداً بَدْرِيَّةً، وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً، وَغَيْرَهُنَّ)[٢].
كيف ميلك إلى الحرام؟
يختلف المؤمنون في كيفية مواجهة المحرمات. فمنهم من يزيغ قلبه إلى الحرام ولكنه يُجهاد ويكبح جماح النفس، وهذه حالات حسنة ولكن لا ينبغي أن يكتفي المؤمن بها ولابد من أن يطلب من الله سبحانه أن يجتازها إلى ما هو أرقى منها. لأن صاحبنا هذا يمشي على حافة الجادة المشرفة على الوادي؛ فأقل غفلة تهوي به في ذلك الوادي. المرحلة الأرقى التي ينبغي أن نطلبها من الله ما ورد في سورة الحجرات في قوله سبحانه: (وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ)[٣].
ماذا ندعو في مواطن الاستجابة؟
فإذا كنت تحت قبة الحسين (ع) أو في روضة النبي (ص) التي ورد في وصفها عنه (ص): (مَا بَيْنَ قَبْرِي وَ مِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ)[٤]، أو في البقيع عند قبر الحسن أو السجاد أو الباقرين أو الزهراء (ع) – على رأي – أو كنت في الحطيم بين الباب والحجر التي هي منطقة لا تتجاوز مساحتها المتر ونصف المتر ولكنها متصلة بالعرش فقل عندها بالإضافة إلى ما نقوله عادة، إلهي عبد ببابك: يا رب، حبب الإيمان وزينه في قلبي.
واطلب في مواطن الاستجابة؛ طلبا راقيا يكون جامعا مانعا كدعائنا في شهر رجب: أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة؛ فكل حوائج الدنيا والآخرة تندرج تحت هذه الجملة القصيرة، ولا تغفل بالطبع عن الدعاء الذي ذكرناه آنفا وهو: أن يكون الإيمان محببا في قلبك.
إن هذه الآية التي تتحدث عن تزيين الإيمان في القلب في من غرر الآيات بحسب تعبير العلامة الطباطبائي، وإن كانت كل الآيات القرآنية غرر؛ إلا أن من الآيات ما تغير مسيرة الإنسان، ومنها هذه الآية. ما معنى حبب إليكم؟ تشير هذه الكلمة إلى تدخل غيبي.
ما هو الإيمان المحبب؟
إن الإنسان بطبعه قد لا يُحب الإيمان المتمثل بالصلاة والصيام وترك المحرمات؛ ولكن الله عز وجل يتصرف في وجوده بطلب من الإنسان نفسه؛ لأنه سبحانه لا يتصرف في وجود الإنسان اعتباطاً، فمقامه أشمخ وأعظم، وكما ورد في كتب القوم: جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد. إن رب العالمين هو صاحب الكبرياء؛ فمن لا يطلب القرب منه، لا يبالي به رب العالمين. ولكن الذي يقدم الطلب، ويصر على ذلك ويدعم طلبه بالبكاء والتضرع وما شابه ذلك يُرجى أن يستجاب له.
يصل المؤمن إلى درجة يكون فيها الإيمان عنده كالطعام الشهي الذي يقطع البعض من أجله المسافات الشاسعة لكي يحصل على وجبة منه في مطعم فاخر، ثم يعود وكأن شيئا لم يكن، ولم يبق له من الطعام إلا الذي يدعوه إلى التجشؤ…! أو إلى درجة يكون فيها الإيمان عنده مغريا كما يغري الشاب الزواج.
أنا من حبك جائع…!
ومن العبارات التي تُبين لنا كيف يكون الإيمان محببا إلى حد النهم والجوع ما ورد في الدعاء: (سَيِّدِي أَنَا مِنْ حُبِّكَ جَائِعٌ لاَ أَشْبَعُ أَنَا مِنْ حُبِّكَ ظَمْآنُ لاَ أَرْوَى)[٥]، ولا ينبغي أن يقرأ المؤمن هذه العبارات قراءة عابرة وإنما ينبغي أن يستحي من نفسه عند قراءتها إن لم تُحدث في نفسه تفاعلا. إن الإنسان إذا وصل إلى مقام الجوع الباطني؛ لا يحتاج عندها إلى موعظة أو حديث لكي يبحث عن الكمالات.
بل قد يصل إلى درجة يشعر فيها بالاكتئاب إذا فاتته صلاة الليل، ولا يُبالي عندها بما اكتسب من مال أو ربح في التجارة. هذا والبعض يسهر إلى قبيل صلاة الفجر بربع ساعة، ثم ينام ولا يستيقظ إلا عند الزوال…! وهؤلاء لابد أن يتسائلوا: ما الذي جرى حتى غلب علي النعاس؟ إن قمة هذا الإيمان المحبب نجده في قول مولاتنا زينب (س) عندما أجابت الطاغية ابن زياد بقولها: (مَا رَأَيْتُ إِلاَّ جَمِيلاً)[٦] وذلك بعد أن قال لها الطاغية: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اَللَّهِ بِأَهْلِ بَيْتِكِ)؟
وبإمكان المؤمن الذي يرتاد مجالس أهل البيت (ع) أن يحول تلك المجالس إلى منطلق للتغيير. إن الذي لا يستفيد من هذه المجالس هو كمن يدخل إلى المستشفى طلبا للعلاج ولكنه ينشغل بالورود في الباحة ويأخذ ويقطف وردة منها ويرجع إلى منزله…! ذهب إلى المستشفى ولكنه ما رأى طبيباً، أو رآه ولكن لم يأخذ منه علاجاً أو أخذ علاجاً فلم يستعمله وبهذا يبقى في علته إلى آخر عمره.
اطلب من الله حفظ المكاسب في مجالس الحسين (عليه السلام)
واطلب من الله سبحانه أن يُبقي لك المكاسب التي تنالها في هذه المجالس والمواعظ التي تسمعها من الخطيب، فإن الشيطان واقف على الباب متربص بك يريد أن يصادر مكتسباتك في هذه المجالس. فقد تسمع خطبة عن الحلم الحسني ولكنك عندما تصل إلى المنزل تصب جام الغضب على الأهل والعيال ولا تعلم أن الشيطان قد صادر الموعظة التي لم تتعظ بها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشاب الذي يسمع إلى موعظة في هذه المجالس عن غض البصر فيذهب إلى الجامعة أو إلى السوق وينشغل بالنظر المحرم ناسيا هذه الموعظة أو متناسيا بفعل الشيطان.
كيف تكون من رساليا؟
أولا: النمو المتوازن في كل الأبعاد. قد يتساءل البعض قائلين: كيف تطلب منا نموا متوازنا ونحن لا زلنا في أول الطريق؟ لا بأس أن يسير الإنسان في الطريق وتكون عينه على القمة التي يتأمل الوصول إليها في يوم من الأيام. والحركة المتوازنة في كل الأبعاد هي ألا يُفكر المؤمن في الجانب الإنساني وفي الفقراء والمساكين، ثم ينسى نفسه وحظها من العبادة والكمال. فقد يحضر المؤمن اجتماعاً لأجل خدمة أو لأجل موكب أو لتفريج كربة، فيسمع الأذان وبإمكانه أن يؤجل اجتماعه، فلا يفعل. قل للحاضرين: هذا وقت اللقاء مع الله عز وجل. إن الاجتماع في وقت الصلاة لا بركة فيه وهو أبتر كالعمل الذي لا يبدأ بالبسملة. ولا ينبغي أن ينشغل المؤمن في وقت الصلاة بشيء إلا بما لا يستطيع تأجيله، كالطبيب في منتصف عملية جراحية.
ضابط عسكري أم رب أسرة؟!
من مصاديق النمو غير المتوازن أن يكون الرجل حسن الخلق مع الجميع إلا أهله وعياله. تأتينا شكاوى عبر وسائل التواصل من بعض الزوجات، تقول فيها: زوجي يبتسم في وجه كل أحد وهو معروف بحسن الخلق؛ ولكنه ما إن يأتي إلى المنزل حتى يتحول إلى كتلة غضب تكاد تنفجر في أي لحظة. إن البعض من هؤلاء يمدح نفسه بما هو ذم فيقول: إنني أدخل إلى البيت فيُصبحون كأن على رؤوسهم الطير مهابة لي. وأقول لهذا وأمثاله: هل أنت رب أسرة أم ضابط في المعسكر؟
التوازن العبادي
من مصاديق النمو غير المتوازن أن يهتم المؤمن في جانب عبادي متجاهلا الجوانب الأخرى؛ كالذي يُكثر من الأذكار والصلوات ولكنه لا يُخمس ماله الذي لإمام زمانه (عج) فيه النصف ولذرية النبي (ص) النصف الآخر، ثم يأتي بعد ذلك يدعي أنه مهدوي ينتظر ظهوره الشريف. ولهذا نرى أنه لا يوفق في حياته ولا في تجارته ولا في زيجته ولا في ذريته، وقد يشتكي حاله وهو لا يعلم من أين تأتيه المصائب. إنه من مالك الذي لا بركة فيه.
كيف تتصرف بوقود المودة؟
ثانيا: من مصاديق الرسالية أن تتصف بالصفات التي وردت في اتباع أهل البيت (ع)، وأن تجعل محبتك لهم والعاطفة في مسير التكامل العملي. إن هذه الدواب الحديدية التي نستقلها؛ تعمل بالوقود. إننا إذا صببنا هذا الوقود على الأرض وقربنا منه النار، لاشتعل الوقود وارتفع اللهب ولكنه ينتهي بعد دقائق من دون أي فائدة. إن هذا الوقود نفسه يتحول إلى طاقة تُحرك هذه الدواب لأنه وُضع في موضعه. إن العاطفة والمودة هي وقودك الذي يُحرك محرك التكامل عند فتبلغ به المقامات العليا.
وقود شهري محرم وصفر
إن قمة اكتساب هذا الوقود؛ محرم وصفر. إن هذا الوقود نعم المحرك للمضي قدما نحو درجات الكمال؛ ولكننا نراوح في أماكننا، ولهذا لا يرى الكثير منا في شهر ربيع الأول أثراً لهذه المجالس في وجوده وإن كان قد حصل على الأجر الذي لا ننكره. إن الحديث عن الأجر غير الحديث عن الأثر؛ فقد تصوم شهر رمضان فتتخلص من عذاب الرحمن؛ ولكنك لا ترى الأثر المطلوب في شهر صفر وكأنك لم تصم يوما واحدا، ولم تُدرك ليلة القدر. والبعض يرجع من الحج فلا ترى في وجوده أثراً من تلك الحجة والزيارة إلى بيت الله مع أنه كان في ضيافة الله شهراً في المدينة وفي مكة وفي عرفة. يرجع من الحج غضوبا وشهويا ومنحرفا كما كان قبل الحج.
لماذا تبني الدول السدود على الأنهار مع عظيم التكلفة؟
لأنهم يستثمرون هذا الماء المتجمع خلف السد بأن يفتحوا الطريق أمامه شيئا فشيئا فينزل على المحركات وإذا به تؤمن لنا طاقة مدينة كاملة من الكهرباء. وإذا لم تجعل أمام هذا النهر سدا، تحول إلى سيل جارف. اجعل هذه المجالس وذهابك إلى المشاهد وحجتك وعمرتك وإلى آخر ذلك من الأعمال والعبادات؛ كهذا الماء الذي اجتمع وراء السد، ليتحول إلى طاقة تدفعك إلى الأمام.
كيف تتقن الواجبات؟
ومن أراد أن يكون متأسياً بأهل البيت (ع)؛ عليه أن يتقن الواجب. هناك فرق بين الواجب وبين إتقان الواجب. إننا لو تأملنا في القرآن كله؛ لما وجدنا آية تتحدث عن الصلاة إلا وذكرت الإقامة إلى جانبها، فتقول مثلا: أقاموا الصلاة إلا في بعض المواضع. هل فكرت في الفرق بين الصلاة وإقامة الصلاة؟ إن الفرق بينهما فرق الخيمة الملقاة على الأرض والخيمة المنصوبة…! ما فائدة هذا القماش الملقى على الأرض والذي لا يقيك حرا ولا بردا؟ ولكنك إن أقمت هذا القماش بالعمد وأوصلتها بالحبال ووتدتها بالمسامير انتفعت به وأصبحت لديك خيمة تنفعك في خدمة الحسين (ع) مثلا أو في ما شابه ذلك.
هل صليت أم أقمت الصلاة؟
قد يُصدم البعض يوم القيامة عندما يأتيه الخطاب من الله سبحانه: إنك لم تصل صلاة واحدة. فيقول: يا رب ولم؟ فيأتيه الجواب: إنني لم أقل لك صل وإنما قلت لك، أقم الصلاة وأنت لم تقمها. والدليل على ذلك أنها لم تنهك عن الفحشاء والمنكر. قد تصاب بصداع فيعطيك أحدهم دواء لعلاج الصداع فتتناوله، فلا يؤثر عليك وتتناول الحبة الثانية فلا تؤثر كذلك فتقول له: يا فلان، هذه حلاوة وليست دواء؛ فلو كانت دواء لزال الصداع من رأسي. ولذلك ورد: (مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اَللَّهِ إِلاَّ بُعْداً)[٧]. ترى الرجل يخرج من المسجد فينظر إلى الحرام؛ فأي صلاة هذه؟ لابد من أن يرتقي الإنسان بصلاته إلى أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر.
خلاصة المحاضرة
- لقد كان الحسين (ع) إماما وحاضرا في زمن الإمام الحسن (ع) ولكن الإمام الفعلي كان الحسن (ع) وكان الحسين (ع) المأموم ومن يجلس تحت منبر أخيه الحسن (ع) وهذه مزية عظمى من مزايا الإمام الحسن (ع).
- قد يُصدم البعض يوم القيامة عندما يأتيه الخطاب من الله سبحانه: إنك لم تصل صلاة واحدة. فيقول: يا رب ولم؟ فيأتيه الجواب: إنني لم أقل لك صل وإنما قلت لك، أقم الصلاة وأنت لم تقمها. والدليل على ذلك أنها لم تنهك عن الفحشاء والمنكر.