- ThePlus Audio
كيف أستثمر أيام زيارة الأربعين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجمع بين شرف الزمان وشرف المكان في الأربعينية
من أعظم النعم على الإنسان، الجمع بين شرف الزمان وشرف المكان. وهذا ما يحدث في الزيارة الأربعينية للإمام الحسين (ع) التي تهفو إليها قلوب المؤمنين حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها. ومن لم يوفق منهم للحضور في هذه الزيارة أو أقعده مرض عارض، فإنه يتابع أحداثها من خلال شاشات التلفاز التي تنقل بصورة مباشرة هذه الزيارة وتجري لذلك عبرتهم شوقا. وما أجدر المؤمن في كل موسم، أن يقف بين يدي ربه مصليا ساجدا يشكر الله عز وجل على هذه النعمة الكبرى.
حقيقة لم تعد خافية…!
من الحقائق التي تجلت اليوم بضوح ولم تعد خافية على أحد، هذا الإقبال الجماهيري المتميز في زيارة الأربعين والشوق الكبير تجاه الحسين (ع) أولا، وتجاه زيارته ثانيا. ولو تأملنا هذا الحدث العالمي جيدا، وجدناه آية من آيات الله عز وجل ونموذجا جليا من تصرفاته سبحانه في عالم الأنفس. إنني كثيرا ما أتأمل في حجاج بيت الله عز وجل عندما أشرف إلىالحج، وأنظر إلىبعض الحجاج ممن لا يملك وعيا ولا يفهم الدين كما ينبغي وقد يكون من سكنة الأدغال والغابات، فيقطع آلاف الأميال لحج بيت الله الحرام وهو قد لا يُتقن حتى الصلاة، بل قد لا يصلي خارج الحج. فأقول: ما الذي يدفع هؤلاء إلىحج بيت الله؟ إنها اليد المتصرفة التي ذكرها سبحانه في القرآن الكريم فقال: (فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ)[١].
يد الله المتصرفة في قلوب الزائرين
وهذه اليد المتصرفة في قلوب زوار حجاج بيت الله الحرام، هي اليد بنفسها متصرفة في قلوب زوار الحسين (ع). إن الله سبحانه لا يريد أن يرى بيته خاليا وهو يتصرف في قلوب الناس لتبقى جذوة الشريعة متوقدة وليُعظم الناس شعائر الله عز وجل. وكذلك الأمر في مقام الحسين (ع)؛ حيث يرد سبحانه أن يكون هذا المقام عامراً بزواره، ولذا روي: (مَنْ أَرَادَ اَللَّهُ بِهِ اَلْخَيْرَ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ حُبَّ زِيَارَتِهِ)[٢]. ولا شك أن حب الزيارة، فرع حب الإمام (ع).
فاعلم أن هذا الحب المقذوف في القلوب آية من آيات الله عز وجل وعلامة من علامة ارتضائه لك. ولهذا وجب عليك اغتنام الموسم للتزود. كانت القوافل قديماً عندما تجوب الصحاري والقفار والبراري وتصل إلى منزل من المنازل، تتزود في ذلك المنزل لما ورائهم. وهذا ما يفعله المؤمن في موسم الأربعينية، فإن قلة الزاد قد تودي بك إلى الهلاك خاصة في الأسفار الخطيرة، وهو ما كان يشتكي منه أمير المؤمنين (ع)، الذي كان يقول: (آهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَ طُولِ اَلطَّرِيقِ وَ بُعْدِ اَلسَّفَرِ)[٣]. والمؤمن يتزود من غدير شهر رمضان المبارك، ثم يتزود بعدها من غدير أيام عرفة ومن غدير هذه الأربعينية التي هي المحطة الأخيرة للتزود.
ماذا نفعل في أيام الزيارة؟ (وصية للمشاة)
قد يقول قائل: إن المطلوب هي الزيارة، فلماذا يتجشم الإنسان العناء ويتعب البدن مشيا في الحر أو البرد مع توفر وسائل النقل؟ أليس المهم أن نصل إلى كربلاء ونقف تحت القبة الشريفة؟ أما الجواب الأول فنأخذه من سيرة المعصومين (ع)، ونقول: لماذا كان الحسن (ع) يصر على الحج ماشياً مع وجود الدواب من الأحصنة والحمير والنوق؟ لأن المعاناة في الزيارة تحببه إلى صاحب المقام أو المزور. عندما يأتيك ضيف وقد جرح في طريق زيارته إليك، لا تتعامل معه بالتأكيد كما تتعامل مع المعافى. بل تكرمه أيما إكرام عندما ترى آثار التعب بادية على جسمه وثيابه وقد تورمت قدماه وهو أغبر أشعث من أجلك.
كيف يستقبل الإمام الحسين (عليه السلام) مثل هذا الزائر؟
إنني أعرف من العلماء من أصيب في زيارته بمرض لم يشف إنه إلى قابل، فكيف يا ترى يستقبله الإمام (ع) عندما يزوره؟ إنك بحسب الظاهر ترى الجميع حول الإمام (ع) يقبلون الضريح ويدعون تحت القبة الشريفة، ولكن لو كشف لك الغطاء، لرأيت أن حالاتهم شتى وأن استقبال الإمام (ع) يختلف من واحد إلى آخر. لو كشف لك الغطاء لرأيت الإمام (ع) وهو يستقبل كلاً بحسبه وبرتبته، ولرأيت أنه أكثر شوقا إلى البعض منهم من البعض الآخر. ولو استطعت أن يسمع بعض هؤلاء الذين حرموا زيارته كلام الإمام (ع) لسمعوه يقول لهم: إنني مشتاق إليكم، ولقد افتقدتكم كثيرا في هذه الزيارة…! إن لكل زائر بحسب مستواه درجات عند الله وعند أوليائه. هذا وقد روي: (أَفْضَلُ اَلْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا)[٤]؛ أي أشقها على النفس.
الزيارة تبدأ من منزلك
ثم إن من يستغرق مشيه إلى الحسين (ع) أياما وليالي، يكون في زيارة ما دام في الطريق وتُحسب له تلك الأيام والليالي من زيارته. وكذلك من خرج من بلاده متوجها إلى زيارة سيد الشهداء (ع)؛ فزيارته تبدأ فور خروجه من باب المنزل لا عند الوصول إلى الحرم الشريف. ولذا ينبغي التقيد بآداب السفر والزيارة فور الخروج من المنزل والتزم بالدعاء والصلاة وما شابه ذلك حتى لو كنت في بلاد الغرب على بعد آلاف الأميال.
ويجدر بالمؤمن أن يغتنم أيام الزيارة ويعدها أياما للاعتكاف الباطني. وأول ما ينبغي فعله في هذا الاعتكاف؛ إتقان الصلاة. فلا تتذرع بالتعب أو بأي شيء آخر، وتأسى بالحسين (ع) وأصحابه في أداء الصلاة أول الوقت وفي إتقانها. وتأسى بهم في كثرة ذكر الله الله عز وجل. إننا لم نجد شيئا في الأخبار والسير عن أحول الحسين (ع) وأصحابه في السفر، ولكننا نقطع بأنهم ما صعدوا جبلاً ولا نزلوا وادياً ولا حلو في منزل إلا وهم يذكرون الله عز وجل.
تأسى بالحسين وأصحابه في الزيارة
وكما وصفهم الواصف في ليلة العاشر: (بات الحسين عليه السّلام وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد)[٥]. لأنهم اجتمعوا في خيمة واحدة أو في خيم متقاربة، وإن كانوا طوال المسير، يلهجون بذكر الله عز وجل صباحاً ومساءاً، سفراً وحضراً.
فقد لا توفق للذكر في الوطن لكثرة القيل والقال ومزوالة الأعمال؛ إلا أنك فارغ من كل ذلك في طريق الزيارة ولا شغل لك إلا هذه الزيارة. إن بعض المؤمنين عندما يصف طريق الزيارة، يقول: إن الملفت في هذا الطريق، أنك ترى في الزائرين من لا تتوقع أن ترى مثلهم هناك من الشيخ الهرم والطفل الصغير وهي من المحفزات. ومن المحفزات سماع أصوات التعزية والتلاوة التي تصدر من المواكب في الطريق. حاول في هذا الطريق أن تتقمص شخصية الذاكرين وتلعب هذا الدور في هذه الأيام. وأقل ما تفعله أن تزور الحسين (ع) بزيارة عاشوراء بلعنها وسلامها، الأمر الذي قد لا يتاح لك في الإقامة. حاول أن تلهج بالزيارة المباركة مع الالتفات إلى المضامين، خاصة إذا وصلت إلى هذه الفقرة: (اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين (ع) في الدنيا والآخرة).
لا تضاهي هذه الزيارة حتى زيارة عاشوراء…!
لقد عد الإمام العسكري (ع) زيارة الأربعين من علامات المؤمن؛ لا زيارة عاشوراء ولا الزيارة الرجبية ولا الشعبانية وهو أمر ملفت. إن المعصوم مسدد بالسماء ومتصل بعالم الغيب وهو الذي عد هذه الزيارة إحدى علامات المؤمن.
وزيارة الأربعين من الزيارات المأثورة عن الإمام الصادق (ع) كما هو الحال في أكثر زيارات الحسين (ع) المأثورة وآداب الزيارة وفضلها. ومن الطبيعي أن يكون ذلك، حيث ثنيت له الوسادة ولو تحقق لأي إمام من أئمتنا (ع) ما تحقق للإمام الصادق (ع) لذكروا في فضل زيارة الحسين (ع) ما كان مذهلاً.
يقول الإمام الصادق (ع) مسلما في هذه الزيارة على جده (ع) قائلا: (اَلسَّلاَمُ عَلَى وَلِيِّ اَللَّهِ وَ حَبِيبِهِ)[٦]. فهو قبل أن يناديه بابن رسول الله (ص) أو ابن فاطمة وأمير المؤمنين (ع)، يذكر مقام الولاية والحب ويا له من مقام هو سر خلوده…!
ولاية الحسين (عليه السلام)
ولقد أحببناه لهذه الصفة؛ أنه ولي الله وحبيبه. ولكن ما معنى الولي؟ إن هذه المفردة من المفردات الغريبة في اللغة؛ فالله ولي الذين آمنول والحسين (ع) ولي الله، فكيف يشترك العبد والرب في وصف واحد؟ كيف يكون العابد وليا والمعبود وليا؟ لو راجعنا كتب اللغة وجدنا أن الولي هو القريب. فعندما نقول: فلان ولي فلان، أي قريب منه. ولذا بهذا التعريف يرتفع الإشكال فيصدق على كليهما أنه ولي للآخر. وعندما يكون أحدهم قريباً من الآخر، فهو يمشي معه ويسافر معه ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه. فإذا وصل الإنسان إلى مقام القرب من الله عز وجل، يكون الله عز وجل قريبا منه أيضا. ولا نتحدث هنا عن القرب الجسماني فلا تدركه الأبصار، ولا القرب المكاني وإنما الحديث عن القرب المكانتي والمنزلتي.
متى يطمئن الرضيع؟
إذا رأى العبد نفسه قريبا إلى الله عز وجل، اطمئن قلبه، وهدأ كما يهدأ الطفل في أحضان أمه ويسكت عن البكاء حتى قبل أن ترضعه؛ فهذا القرب يكفيه. فهو بمجرد أن تقترب منه أمه يهدأ، فإذا وضعته على صدرها ازداد هدوءً واطمئنانا، فإذا ألقمته ثديها كان في قمة الأنس والاطمئنان. هذا حال الرضيع العارف بأمه، فكيف بالإنسان العارف بربه؟ فكيف بالذي يصل إلى القرب ممن هو أقرب وأحن من الأم والأب؟
ماذا تفعل أول ما تصل إلى الضريح؟
ومن الوصايا التي نوصي بها المشاة في طريق الحسين (ع)، أن الواحد منهم أول ما يصل إلى الضريح ويُصبح تحت القبة الشريفة، يقدم العزاء إلى إمام زمانه. فإن كانت رجلك منتفخة بالأورام، وكان فيك أذى من الطريق، فقل: يا مولاي يا أبا صالح، كل ذلك فداء لك، ولا أريد إلا أن أقدم العزاء لك في أربعينية الحسين (ع). هل تستبعد أن يتفقد إمام زماننا (عج) المواكب من حيث لا يشعرون في هذه الأيام؟هل تستغرب من أن يمشي مع الماشين، أو يشاركهم في خطواتهم وهو المعزى؟ إن أول الداخلين إلى الحرم عندما يرتفع النهار في يوم الأربعين هو إمام زمانك (عج).
خلاصة المحاضرة
- من الحقائق التي تجلت اليوم بضوح ولم تعد خافية على أحد، هذا الإقبال الجماهيري المتميز في زيارة الأربعين والشوق الكبير تجاه الحسين (ع) أولا، وتجاه زيارته ثانيا. ولو تأملنا هذا الحدث العالمي جيدا، وجدناه آية من آيات الله عز وجل ونموذجا جليا من تصرفاته سبحانه في عالم الأنفس.
- ومن الوصايا التي نوصي بها المشاة في طريق الحسين (ع)، أن الواحد منهم أول ما يصل إلى الضريح ويُصبح تحت القبة الشريفة، يقدم العزاء إلى إمام زمانه. فإن كانت رجلك منتفخة بالأورام، وكان فيك أذى من الطريق، فقل: يا مولاي يا أبا صالح، كل ذلك فداء لك، ولا أريد إلا أن أقدم العزاء لك في أربعينية الحسين (ع).