- ThePlus Audio
قبسات من حياة الإمام علي الهادي (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
إحياء ذكر الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
إننا نحيي ذكر علم من أعلام أهل البيت (ع)؛ أعني الإمام الهادي (ع) الذي هو جد إمامنا المنتظر. إن الإمامين الهادي والعسكري لهما علاقة قريبة بإمام زماننا؛ فأحدهم والده والآخر جده، وإن الواحد منا عندما يقيم مجلساً باسم والده أو باسم جده ثم يسمع الولد أو الحفيد بذلك المجلس؛ فمن الطبيعي أن يحضر ذلك المكان، وإن لم يمكنه الحضور لظرف ما؛ يبعث من يمثله، إن لم يمكن الحضور والتمثيل، فسيرعى ذلك المجلس بنظرته ويدعو لهم بدعاءه، وهذا هو توقعنا من بقية الماضين أن يرعانا بنظرته ولو من بُعد ويدعو لنا، لأننا من الذين يحيون ذكر جده إمامنا أبي الحسن علي بن محمد الهادي (ع).
موقع الإمام الهادي (عليه السلام) في حركة التاريخ والأمة
وسنتحدث بصورة مختصرة عن موقع إمامنا من حركة هذه الأمة وسنحلل سيرته تحليلا سريعا. إن حياة أئمةأهل البيت (ع) بدءا من النبي الأكرم ومروراً بحياة إمامنا أمير المؤمنين (ع) إلى الإمامين العسكريين؛ نلاحظ وجود ثلاثة ألوان أو وجهات نظر ثلاث. ولا خلاف بالطبع على النبي (ص) فقد كان النبي (ص) مجمعاً عليه، وإنما وقعت كل هذه الاختلافات بعد النبي (ص)، وذلك لمخالفة المسلمين وصيته الخالدة في يوم الغدير.
ظلامة أمير المؤمنين (عليه السلام)
إن أمير المؤمنين (ع) بدأ حياته بعد رسول الله (ص) بالمعارضة وخطبته الشقشقية شاهدة على ذلك صبر، وقد قال فيها: (فَصَبَرْتُ وَفِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَفِي اَلْحَلْقِ شَجًا)[١]، وقد خرجت زوجته فاطمة بنت رسول الله (ص) من هذه الدنيا واجدة وأخفي معالم القبر بطلب منها وإلى آخر ذلك. وقد قضى أمير المؤمنين (ع) قرابة خمس وعشرين سنة في هذه الحالة، وقد جلس وصي رسول الله (ص) طول هذه الفترة. بالطبع لم يعتزل الإمام (ع) تماماً. فعظمة الإسلام والأمانة الإلهية كانت تستدعي أن يدير الأمور ويتحكم بمجراها من بعد، وتولية سلمان المدائن قبل خلافته شاهد على أن الإمام كان غائباً وحاضراً في الوقت نفسه.
ولقد تعرض أميرالمؤمنين (ع) إلى كثير من الظلم. حتى أنه سمع يوما برجل يشتكي من الظلم فقال له: (مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ)[٢]. وأي مظلوم على وجه الأرض أعظم ظلامة من أمير المؤمنين (ع)؟ هو المصلي الأول ومن شقت له الكعبة ومن حطم الأصنام ومن كان يغمى عليه في صلاته، ومع ذلك عندما وصل خبر استشهاده إلى الشام وأنه قتل في صلاته، قال البعض: وهل كان علي (ع) يصلي؟ ما هذه الظلامة.
الفصل الأول من حياة الأئمة(عليهم السلام) ودورهم في تثبيت خط الولاية
إن الظلامة بدأت بفاطمة وعلي (ع) وثنيت الظلامة بالحسن والحسين (ع). لقد عاش أربعة من المعصومين (ع) أشد المحن وانتهت المصيبة العظمى بمقتل الحسين (ع)، تلك القتلة التي لا نظير لها على وجه الأرض، وبتعبير الروايات: ما لهم في الأرض شبيهون من أصحابه. ثم بعد ذلك تنقلت ذراري رسول الله (ص) من بلد إلى بلد وهم أسارى بيد شر خلق الله. أ هكذا يصنع بزينب (س) ابنة فاطمة ابنة نبي الرحمة؟
وأقول: إن هذه الفترة إلى إمامة إمامنا زين العابدين (ع) قد بذل فيها الأئمةالأربع علي والحسن والحسين (ع) وفاطمة (س) – فهي منهم لأنها من أهل الكساء – النفس والنفيس من أجل تثبيت خط الإمامة وسوق الناس إلى خط أهل البيت (ع) بالخطب تارة وبالدم تارة، وبإظهار الظلامة تارة أخرى. حتى قارن استشهاد الحسين (ع) انقراض دولة بني أمية. وهذا فصل من فصول حياة أئمةأهل البيت (ع) انتهى باستشهاد الحسين (ع).
تنوع أدوار ووحدة هدف
إننا نريد أن نأخذ جولة في حياتهم جميعاً لنصل إلى موقع الإمام الهادي (ع) من هذا الخط الرسالي، ولأحد كبار المحققين كتاب بهذا المضمون: تنوع أدوار ووحدة هدف.
دور الأئمة (عليهم السلام) بعد الثورة الحسينية
لقد كانت فترة حياة الإمام زين العابدين (ع) فترة برزخية. إن الإمام السجاد (ع) لم تنثى له الوسادة كولديه الباقر والصادق (ع) ولم تقع عليه الظلامة التي وقعت على الحسن والحسين (ع) بمعنى القتال. لقد عاش في أول حياته أحداث كربلاء؛ تلك الأحداث التي بقيت في ذاكرته وكانت حاضرة أمامه كلما شرب ماءً أو أكل طعاما. إن هذه الفترة كانت فترة صامتة – تقريبا – ولكن شاء الله عز وجل أن ينتشر الهدى في مسجد رسول الله؛ الأقلام تكتب ما قاله الصادق والباقر (ع).
إن بعض أئمة المذاهب الأربعة؛ يفتخر بأنه كان تلميذاً للإمام الصادق (ع). وكان للإمام (ع) تلامذة حتى العلوم الدنيوية كجابر بن حيان صاحب علم الكيمياء وغير ذلك من علوم الطبيعة. وكذلك في المجادلة والمناظرة والفقاهة وتأسيس الأصول، والأصول الأربع مائة جيث كلها من بركات الصادقين أو الباقرين (ع).
انتشار العلوم في زمن الباقر (عليه السلام)
ففترة الظلامة في زمان الإمام أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وفي شطر من حياة إمامنا السجاد (ع)، وبعد ذلك فترة انتشار علوم أهل البيت (ع) على يد الباقر الذي شق وأظهر العلوم كما يوحي اسمه. إنه المظهر لعلوم أهل البيت (ع) وانتشر العلم في الآفاق إلى درجة قال البعض: ما بقي مستضعف في زمان الإمام الصادق (ع). وإن أمر الولاية انتشر في الآفاق حتى أن الإمام (ع) كان يقول: (وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ)[٣].
وضوح معالم الطريق في زمن الصادقين (عليهما السلام)
بعد حياة الإمامين الباقر والصادق (ع) ثبتت دعائم هذا الطريق، وهذا المنهج الرباني إلى درجة لم نجد في زمان الإمامين الجواد والهادي والعسكري (ع) انشقاقاً في صفوف الأمة. إن في زمان إمامنا زين العابدين (ع) انشعبت جماعة من الشيعة واتبعوا زيدا وفي زمان إمامنا الصادق (ع) اتبع جماعة أسماعيل، وفي زمان إمامنا الكاظم (ع) وقفت جماعة على إمامته وأنكروا الإمام الرضا (ع). ولكن بعد الإمام الجواد (ع) الذي استلم الإمامة في التاسعة من عمره؛ لم نسمع بانشقاق في صفوف شيعة أهل البيت، ومعالم الطريق قد أصبحت واضحة.
التمهيد للمهدي (عجل الله فرجه) من زمان الهادي (عليه السلام)
الإمام الهادي كان في هذه الفترة الواضحة من خط الإمامة، وكأن الله عز وجل أراد أن يمهد لدولة الإمام في زمان الغيبة الصغرى. فقد أصبحت الشيعة مهيئة لأن تعيش مع إمام مغيب بالغيبة الصغرى. وبعد السفراء الأربع أصبحت الشيعة بمثابة ولد في قوام كامل بإمكانه أن يمشي على رجليه؛ فبدأت الغيبة الكبرى اعتماداً على الفقهاء الربانيين في حياة الأمة وقد استمر ذلك إلى زماننا هذا.
إشخاص الهادي (عليه السلام) من المدينة إلى سرمنرأى (سامراء)
وسنستشهد بمنص تاريخي يدل على ما ذكرنا من ثبات معالم الطريق في زمن الجواد والهادي والعسكري (ع).إن الإمام الهادي كان في المدينة بجوار قبر جده يعيش آمناً مطمئناً. ولو ترك وشأنه لذاع صيته وانتشر هداه. وهو الملقب بالهادي كجديه الباقر والصادق (ع). ولكن المتوكل قد علم أن الإمام لو بقي في المدينة؛ لانقلبت الأمور عليه. فقد ذكر عبدالله بن محمد الذي كان يتولى الحرب والصلاة في المدينة للمتوكل: أن بقاء الإمام الهادي (ع) في المدينة بداية قيام لإمامنا (ع).
خوف المتوكل من الهادي (عليه السلام)
فكتب المتوكل للإمام الهادي (ع) هذا النص الذي يذكره العلامة المجلسي في كتابه، يقول له: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَارِفٌ بِقَدْرِكَ رَاعٍ لِقَرَابَتِكَ مُوجِبٌ لِحَقِّكَ)[٤] .إن بني العباس كانوا يدعون القرابة من الأئمة (ع). والآن ماذا يريد من الإمام الهادي (ع)؟ قال: (وَأَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ يُحِبُّ إِحْدَاثَ اَلْعَهْدِ بِكَ وَاَلنَّظَرَ إِلَى وَجْهِكَ). هل كان ليصدر هذا الكلام من يزيد للحسين (ع)؟ أو من معاوية للإمام المجتبى (ع)؟ أبداً. ولكن انظروا إلى تبدل الأحوال التي جعلت الخليفة العباسي على جبروته يتكلم باحتياط ورفق.
هكذا بلغ شأن الإمام في زمانه. تقول الرواية: (فَلَمَّا وَصَلَ اَلْكِتَابُ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ تَجَهَّزَ لِلرَّحِيلِ – وَخَرَجَ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ هَرْثَمَةَ حَتَّى وَصَلَ سُرَّمَنْرَأَى فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا تَقَدَّمَ اَلْمُتَوَكِّلُ بِأَنْ يُحْجَبَ عَنْهُ فِي يَوْمِهِ فَنَزَلَ فِي خَانٍ يُقَالُ لَهُ خَانُ اَلصَّعَالِيكِ)[٥]. عندما صار الإمام (ع) في قبضته ما التقى به، وهو الذي كان قد كتب إليه: أني مشتاق إليك، وأريد النظر إلى وجهك؛ ولكن حجب إمامنا وأنزله في خان يقال له خان الصعاليك. بدأت الإهانات وبدأت الإقامة الجبرية.
أختم حديثي هذا بنص تاريخي آخر. لقد أنزل الإمام (ع) في خان الصعاليك تحقيراً، وجعل في دار كما أمر المتوكل وهو تحت الرعاية. وفي يوم من الأيام بلغ الخبر إلى المتوكل أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم. أين قم وأين سامراء؟ إن الإمام (ع) وهو في المنزل لا يدع المتوكل يهنأ في نومه. وليتأمل متأمل في ارتباط الأئمة (ع) بشيعتهم الأبرار في كل مكان؛ بالطبع إن لهذا النقل منشأ، ولولا أن الإمام (ع) له علاقة بشيعته لما وصلت هذه الوشاية إلى المتوكل.
لقد هجموا على الدار ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوا الإمام جالس على الرمل والحصى وهو متوجه إلى الله يتلو القرآن. فاُدخل على المتوكل بحالته وذلك اللعين في مجلس الشرب وكان بيده كأس فقدمها، فقال الإمام: (وَاَللَّهِ مَا يُخَامِرُ لَحْمِي وَدَمِي)[٦]. هنا طلب المتوكل منه أن ينشده شعراً، فامتنع الإمام في البداية فأصر المتوكل عليه فقال الأبيات المعروفة التي يخاطب بها كل الطواغيت:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ اَلْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ
غُلْبُ اَلرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ اَلْقُلَلُ
وَاِسْتَنْزَلُوا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ
وَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَمَا نَزَلُوا
نَادَاهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمْ
أَيْنَ اَلْأَسَاوِرُ وَاَلتِّيجَانُ وَاَلْحُلَلُ
أَيْنَ اَلْوُجُوهُ اَلَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ اَلْأَسْتَارُ وَاَلْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ اَلْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ
تِلْكَ اَلْوُجُوهُ عَلَيْهَا اَلدُّودُ تَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوا
وَأَصْبَحُوا اَلْيَوْمَ بَعْدَ اَلْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
تقول الرواية: (فَبَكَى اَلْمُتَوَكِّلُ حَتَّى بَلَّتْ لِحْيَتَهُ دُمُوعُ عَيْنَيْهِ وبَكَى اَلْحَاضِرُونَ وَدَفَعَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِينَارٍ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّماً)[٧].
لو أن أئمة أهل البيت (ع) – على الأقل – بعد الصادقين (ع)؛ أي الإمام موسى بن جعفر (ع) والرضا والجواد والعسكريين (ع) اُبقوا في مدينة جدهم لكان الأمر مختلفا تماما. ولكن موسى بن جعفر قد نفي إلى أرض بغداد، ونفي الرضا (ع) إلى أرض طوس، وقتل الإمام الجواد (ع) والعسكريين في ريعان شبابهم. إن الأئمة الثلاث المتأخرين كان متوسط أعمارهم الثلاثين. فقد ظلمت الأمة بهذه الصورة من أوصى النبي (ص) بهم.
مُشَرَّدونَ نُفوا عَن عُقرِ دارِهِمُ
كَأَنَّهُم قَد جَنَوا ما لَيسَ يُغتَفَرُ[٨]
خلاصة المحاضرة
- أي مظلوم على وجه الأرض أعظم ظلامة من أمير المؤمنين (ع)؟ هو المصلي الأول ومن شقت له الكعبة ومن حطم الأصنام ومن كان يغمى عليه في صلاته، ومع ذلك عندما وصل خبر استشهاده إلى الشام وأنه قتل في صلاته، قال البعض: وهل كان علي (ع) يصلي؟ ما هذه الظلامة.
- لقد بلغ الأمر بالمتوكل الذي كان يسيطر على قسم كبير من الأرض وكانت له السلطة والجند والإمكانات العظيمة أن يخشى من رجل كان تحت إقامة جبرية وتحت رقابة من سلطته هو الإمام الهادي (ع) حتى منعه النوم. ولم يهدأ لهذه الطاغية البال حتى أزاحه عن طريقه بالقتل.