علة امتناع إبليس عن السجود لآدم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم الصلاة على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين
علة امتناع إبليس عن السجود لآدم
نلاحظ في الجزء الرابع عشر من القرآن الكريم وجود الآيات المعبرة والمخيفة في قضية خلق آدم، ولقد أدت هذه الحادثة منذ البداية إلى مواجهة بين الهداية الإلهية وحالة العناد الإبليسية. ولقد كان انحراف إبليس عند امتناعه عن السجود بعد صدور الأمر من جانب الرب يتمثل في جانبين: الجانب الأول هو الانحراف الفكري المتمثل بالقياس الباطل الذي اعتمده إبليس في الاعتراض على رب العالمين، والجانب الثاني، هو الانحراف النفسي والقلبي، ومن هنا يأتي الشيطان، ولقد كانت عبادة إبليس لا يضاهي أحد من الخلق غير المعصومين، فكانت له سابقة عريقة في العبادة، وقد ذهبت سنوات طويلة من الركوع والسجود أدراج الرياح باختبار واحد، فكان يظن لسخفه أن النار التي تنير الأشياء وتحول الجماد إلى السائل وتأثر في تغيير ماهية الأشياء؛ خير من الطين والتراب الذي كان يعتقده ظلمة لا حياة فيها، وعنصر ساكن لا فاعلية له.
وكان يرى أن مادة خلقه أشرف من مادة خلق آدم فلجأ إلى القياس الباطل وقال: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)[١]، ولم يلتفت إلى أن جوهر آدم خير من جوهره وإنما كانت نظرته قشرية لم تنفذ إلى اللب. ويمكن القول أن عبادة إبليس لم تأثر على عقله ولم ترفع من مستوى تفكيره، ولهذا على العابد أن يحذر من أن ترديه عبادته إن لم يرفع من مستوى تفكيره ويعبد الله عن عقل وفهم، ولذلك يخاطب الله عز وجل العقل فيقول: (وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَلاَ أَكْمَلْتُكَ إِلاَّ فِيمَنْ أُحِبُّ أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ)[٢].
والعنصر الآخر وجود الملكات الخبيثة المتجذرة في النفس، والتي ستخرج آثارها في يوم من الأيام حتى وإن قضى الإنسان على الأوراق والسيقان، ولم تكن حالة الاستكبار التي عاشها إبليس وليدة تلك اللحظة؛ بل قد ظهر استكباره في ذلك الحين عندما تعرض للاختبار بعدما كان يعبد الله منعزلا في صومعته في سماء من سماوات الله عز وجل، ولم يكن قد واجه تحديا في عبادته واختبار يتبين من خلاله صدقه من كذبه، فكان خلق آدم القضية المفصلية التي استخرجت هذه الجوهرة الخبيثة من نفسه، وقد يكون المؤمن مؤمنا ما لم يتعرض لمثيرات خارجية، فإن تعرض لها في أول فرصة تبسم له الدنيا تراه منقلب على عقبيه، مظهرا ملكاته الخبيثة التي كان يستبطنها.
ولا ريب في أن إبليس لم يكن ليتجرأ على تحدي الله عز وجل إن لم يكن مضروبا في عقله ونفسه، ويصل به الحال إلى أن يعتبر الله عز وجل المسئول المباشرعن إغوائه فيقول: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[٣]، وهذا دليل على ضعفه الفكري أن يسند مخالفته للأمر الإلهي الذي تم بمحض بإرادته إلى الله عز وجل، والحال أنه لم ينكر وجود الباري في يوم من أيامه بل أقسم بعزته وقد كان يتحدث إلى الله عز وجل مباشرة، ولكنه الخذلان الذي منعه أن يقف في جانب الهدى ويتحدى الرب في صورة لم يعهد لها التاريخ شبيها ولا مثيلا.
إن القرآن الكريم يحاول في شتى سوره وآياته أن يوقف المؤمن على هذا الخطر العظيم الذي يحدق به، ويبين بالرغم من كيده ووساوسه أنه لا سلطان له وأن ليس باستطاعته تغيير ماهية الأشياء؛ فالقبيح قبيح والجميل جميل وإنما يقوم الشيطان بعملية التزيين، بمثابة العجوز الشمطاء التي يعلم بها الإنسان أنها عجوز ولكنه يخضع لحكم الماشطة المزينة والمدلسة، فيلقن نفسه أنها شابة جميلة فيقترن بها فيكون حتفه على يدها، ولذلك عندما يعاتب الشيطان يوم القيامة يقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)[٤]، لم يكن دوري غير تزيين الباطل وإلباسه ثوبه الحق؛ فلم أتصرف في جوارحكم ولم يكن لي تأثير على مواضع الإرادة فيكم.
ما هو الفرق بين المخلَص والمخلِص؟
ويوم القيامة يتبرأ منه الذين اتبعوه ويدخل الشيطان النار مع الداخلين، ولا ينجو من إغواء الشيطان إلا المخلَصون الذين اصطفاهم الله سبحانه، والفرق بين المخلَص والمخلِص كالفرق بين المخلِص وغير المخلِص فما أعظم الفرق بينهما!
إن المخلِص هو الذي يحاول أن يظهر بمظهر المخلَصين قدر استطاعته، والمخلَص هو الذي قبل الله سبحانه إخلاصه واجتباه، ولهذا تخاطب الملائكة السيدة مريم بقولها: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)[٥]، فهنا اصطفاءان، ويتبين من أن المخلِص لو استمر في إخلاصه وجهده يرجى أن يكون في وم من الأيام ممن اجتباهم الله وأدخلهم في حصنه الحصينة التي لا يدنو إليه الشيطان بعد ذلك ويتبين كذلك أن الإنسان ما لم يصل إلى مرتبة المخلَصين فهو محكوم بإغواء إبليس مخلِصا كان أو مشركا.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
-
- إن الإنسان مهما اجتهد وترقى في درجات الكمال فليس بمأمن من كيد الشيطان ووساوسه وإغوائه ما لم يدخل في عباد الله المخلَصين، وهم الذين اختارهم الله عز وجل بعدما رأى الصدق والإصرار والاجتهاد في سبيل الوصول إليه، فجعلهم في حصنه ومأمنه.
- إن الإنسان ما لم يتعرض للاختبار والامتحان من قبل الله سبحانه فلا يمكن التأكد من صدقه وانقياده لله عز وجل، فهذا إبليس الذي كان قد عبد الله ستة آلاف سنة، آمن في سربه لم يتعرض إلى امتحان واحد طيلة هذه السنين، وإذا به ينقلب إلى عدو من أعداء الله بفضل اختبارواحد.