رغم أن هذه السورة محورها ليلة القدر، وهي ليلة في السنة، مرددة بين ثلاث ليال؛ ولكن يستحب في كل فريضة، أن نقرأ سورة القدر في الركعة الأولى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}:
الدرس الأول: أن ليلة القدر بدرجة من الأهمية، بحيث أن الإنسان سنة كاملة، وهو يهيئ نفسه لتلك الليلة المصيرية.. انظروا إلى أهمية ليلة القدر!.. الإنسان وهو في الليلة الرابعة والعشرين من شهر رمضان، أيضا يقرأ سورة القدر، على أمل أن تكون ليلة القدر القادمة؛ ليلة متميزة جداً.
الدرس الثاني: أن الليالي كلها متساوية، فالليل هو عبارة عن حركة تتم في الفلك، حيث أن دوران الأرض حول نفسها، من موجبات تعاقب الليل والنهار.. ولكن الله -عز وجل- أراد أن يبارك في تلك الليلة، فجعلها خيراً من ألف شهر.. وهذا يسمى مبدأ “الاصطفاء الإلهي”، فرب العالمين إذا نظر إلى ليلة؛ بارك في تلك الليلة.. وإذا نظر إلى حجارة؛ جعلها بيتاً له.. وإذا نظر إلى قلب العبد المؤمن؛ جعله عرشاً له.
فإذن، إن المعادلة هي في النظرة الإلهية للأشياء، فلنحاول أن نستجلب هذه النظرة.. نحن في عالم الطبيعة ننكر الطفرة: حيث هناك تدرج، فليس هناك موجود حيواني في فترة زمنية قصيرة، يصبح حيواناً آخر.. ولكن في عالم الأرواح، الطفرة ليست ممكنة، بل هي ثابتة في حياة الأمم، وفي حياة الأفراد.. فموسى (ع) ذهب ليقتبس ناراً لأهله، فرجع نبياً، نودي: {أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.. وكذلك بلقيس جهزت جيشاً لقتال سليمان (ع)، فأصبحت مؤمنة به.. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو)!..
وبالتالي، فإن المؤمن يسأل ربه الطفرة في عالم الأرواح، فهذا ممكن جداً، ألم يتب ذلك العاصي لمجرد سماعه هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}؟!..
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.. كناية عن جلالة قدر الليلة، وعظم منزلتها، فالقرآن الكريم يقول: لا تنكروا الأشياء الغيبية، لأن عقولكم صغيرة وقاصرة.. فالإنسان لا يتوقع، أن يجعل رب العالمين ليلة في عداد أكثر من ثمانين سنة، الأمر بيده!.. إذن، لماذا يستنكر الإنسان الكرامات، والأمور العجيبة التي تصدر على أيدي: أوليائه، وأوصيائه، وأنبيائه (ع)؟..
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.. والمراد بكونها خيراً من ألف شهر، من حيث فضيلة العبادة، على ما فسره المفسرون، وهو المناسب لغرض القرآن، وعنايته بتقريب الناس إلى الله عز وجل.. فإحياؤها بالعبادة، خير من عبادة ألف شهر.
{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}.. {تَنَزَّلُ} أصلها “تتنزل” الملائكة فيها.. و{تَنَزَّلُ} فعل مضارع، والمضارع في اللغة العربية يعني الاستمرارية، فلو أن هذه الحركة كانت في زمان النبي (ص) وانتهت؛ لما كانت العملية مستمرة.. وهذه من خصوصيات ليلة القدر في أي عصر: ليس فقط في زمان النبي (ص) ليلة القدر خير من ألف شهر، بل إلى يوم القيامة ليلة القدر خير من ألف شهر.. وإلى يوم القيامة، ليلة القدر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم.. ولكن بعد النبي (ص) على من تنزل هذه الملائكة؟.. عندما نقول: الطائرة هبطت؛ أي هناك مطار هبطت فيه الطائرة، فلكل متنزِّل متنزَّل عليه، ومن يكون في كل زمان غير الحجة؟.. فالأرض لا تخلو من حجة، الحديث يقول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه؛ مات ميتة جاهلية)؛ أي لكل زمان إمام.
{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.. السلام هو التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، فيكون قوله: {سَلامٌ هِيَ} إشارة إلى العناية الإلهية، بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.