بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
إن القرآن الكريم عندما يذكر الطبيعة الإنسانية، يذكرها على حسب جنس بني آدم.. يقول تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}؛ ليس معنى ذلك أن كل إنسان في خسر، وإلا كيف يكون الأنبياء والمرسلون والأوصياء في خسر؟.. نعم، هذه الطبيعة موجودة، وإذا لم يعمل الإنسان على نفسه، فإنه سيكون في خسر؛ فالإنسان بطبعه ظلوم جهول!.. معنى ذلك: أن الفوز يحتاج إلى مخالفة الطبع.
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}.. أي الإنسان إذا أنعم الله -عز وجل- عليه بنعمة، حسب أن ذلك إكرام إلهي له، أن يفعل بها ما يشاء، فيطغى ويكثر الفساد.. إن بني آدم يرى رضا الله -عز وجل- والإكرام الإلهي، دائماً بالعطاء.. والحال بأن هذا غير معلوم!.. فالعطاء الإلهي؛ اختبار وامتحان للإنسان: فقد ينجح، وقد لا ينجح.. وهذا المال أمانة إلهية: قد يؤدي حقها، وقد لا يؤدي حقها.. إذن، المؤمن لا يفرح بمجرد أن يعطى المال، ويعتبره إكراماً.. فالإكرام ابتلاء، وهذا المال بلاء نزل عليه!..
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.. أي وأما إذا ما امتحنه واختبره، فضيق عليه رزقه؛ فيحسب أن في ذلك إهانة إلهية؛ فيكفر ويجزع.. بينما المؤمن يعلم أنه إذا خسر مبلغاً من المال؛ هذا ابتلاء!.. وإذا ربح مبلغاً من المال؛ أيضاً ابتلاء، لا فرق بين العطاء والمنع!.. {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}؛ أي ربي أذلني واستخف بي.. قد لا يقولها بلسانه، ولكن نفسه الأمارة بالسوء، تعاتب رب العالمين!.. فيقول بقلبه: يا رب، لماذا عملت بي كذا؟..
{كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}.. عدم إكرامه: حرمانه من تراث أبيه -كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث- وتركه صفر الكف، بلغ به الجهد ما بلغ.. كما تؤيده الآية التالية {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا}.. ولكن لماذا قال: كلا!.. والله العالم!.. كأنه يريد أن يقول: ما قيمة هذه الأموال التي عندكم؟.. فالمال إذا كان إكراماً لليتيم، أو إطعاماً للمسكين؛ هذا المال مال مبارك.. ولكن مجرد أن يدخل المال في جيب الإنسان أو في حسابه؛ هذا ليس امتيازاً.. فالشيء المهم هنا هو عواقب الأمور، أي هذا المال سيصرف في أي شيء؟..
{وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.. أصله: ولا تتحاضون، وهو تحريض بعضهم بعضاً على التصدق على المساكين المعدمين.. ومنشؤه حب المال كما في الآية الآتية {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا}.. اللم: أكل الإنسان نصيب نفسه، وغيره، وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيب من الخبيث.. فالوارث الكبير فيما مضى من الأيام، كان يأكل أموال الصغار، فيأخذ المال أو العقار.
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.. الجم: الكثير العظيم.. إن من موجبات الترقي والتعالي، أن يقطع الإنسان صلته بالمال.. مثلاً: قد يطلب إنسان من أخيه المؤمن، سبحة أثرية قديمة لها قيمة.. فيأتي له بألف عذرٍ؛ كي يتخلص من العطاء.. وهذا الطلب قد يكون اختباراً له، ليُرى كم تعلقه بهذه السبحة المادية، التي إن قدمها هدية لأخيه المؤمن؛ فإنها تنتقل إلى ملك مخلد.. لأنه عطاء في سبيل الله عز وجل، هدية لمؤمن.. وإذا بهذه السبحة الفانية، التي قد تضيع منه، تتحول إلى قصر في الجنة.. إذن، هناك فرق بين سبحة مع الأيام تبلى، وبين ملك لا يبلى!..
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}.. الدك: هو الدق الشديد، والمراد بالظرف حضور يوم القيامة.. عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} قال: (هي الزلزلة).. وعن علي بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هل تدرون ما تفسير هذه الآية {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ} إلى قوله {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ})؟.. قال: (إذا كان يوم القيامة تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، بيد سبعين ألف ملك، فتشرد شردة، لولا أن الله حبسها؛ لأحرقت السماوات والأرض).
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}.. منظر مهيب!.. رب العالمين، ليس له مجيء صوري كمجيئنا نحن، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً!.. نسبة المجيء إليه -تعالى- من المتشابه، وما ورد في آيات القيامة من خواص اليوم: كتقطع الأسباب، وارتفاع الحجب عنهم، وظهور أن الله هو الحق المبين.. وإلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات: أن المراد بمجيئه -تعالى-: مجيء أمره.. وعليه فهناك مضاف محذوف، والتقدير: “جاء أمر ربك”.. وفي العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد، بإسناده عن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}؟.. فقال: (إن الله -سبحانه- لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال.. إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك).
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.. {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}: لا يبعد أن يكون المراد بالمجيء بجهنم؛ إبرازها لهم.. {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ}: أي يتذكر أجلى التذكر أن ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شر، كان من ابتلاء الله وامتحانه، وأنه قصر في أمره.. وقوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}؛ أي ومن أين له الذكرى؟.. كناية عن عدم انتفاعه بها؛ فإن الذكرى إنما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرط فيه: بتوبة، وعمل صالح.. واليوم يوم الجزاء، لا يوم الرجوع والعمل.. إنه موقف من أصعب مواقف يوم القيامة، هذه الحسرة القاتلة، على ما فرط في جنب الله!.. هنيئاً لمن استفاد من هذه الآيات؛ ليغير مجرى حياته!.. هناك حكمة في عالم التجارة تقول: إيقاف الخسارة مبكراً، ربح في حد نفسه.. مثلاً: إنسان له محل دائم الخسارة، عليه أن يغلق المحل، أو ينقله إلى مكان آخر.. فهو مادام في خسارة، فإن طريقته في الحياة، طريقة فاشلة.. لذا عليه أن يبادر إلى تغيير الطريقة، قبل أن يأتي هذا النداء.. فيتمنى لو أنه كان تراباً تدوسه الأقدام، ولم يكن بشراً.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.