– إن هذه السورة على قِصرها فيها دروس اجتماعية وتربوية كثيرة، وهذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} تنهى عن التخرص بغير علم، وعدم التثبت في نقل الأخبار والأحاديث.. الخبر على ثلاثة أقسام:
أولاً: الخبر الكاذب.. هنالك خبر نقطع بكذبه، لأنه خبر غير معقول لا ينسجم مع المنطق ومع العقل.. وبعض الأوقات يعلم الإنسان أنّ الخبر كاذب، ولكن مع ذلك ينقل الخبر؟!.. عادة ينقل الإنسان الخبر لفائدة، أما إذا كان يعلم أنّ هذه شائعة كاذبة، فلمَ ينقلها؟.. وهذه الأيام وكالات الأنباء العالمية أصبحت كالشعر، يقولون: أعذب الشعر أكذبه، بعض الأوقات الخبر الملفت يجعلونه خبراً كاذبا.. إذن المؤمن في شغل عن هذا المجال.
بعض الأوقات ينقل الإنسان خبرا كاذبا، وهو يعلم أنه خبر كاذب، ولكن يريد أن يثير الآخرين بهذا النقل.. وبعض الأوقات يكون مزاحا لا معنى له، طبعاً بعض أنواع المزاح فيه فائدة، كبعض النكات المنقولة عن القدماء مثل قصص جحا؛ لأنّ فيها عبرة.. أما بعض النكت التي لا معنى لها، فإن الإنسان يوم القيامة يحاسب على أنه أخذ من أعمار الغير.. هناك بعض الناس يتقمص شخصية كالمهرج، ويتصور أنّ هذا يكسبه وجاهة اجتماعية، أينما يذهب يتكلم بكلام يضحك الناس.. طبعاً هذه الأيام الذي يضحك الناس يأخذ صدارة المجلس، الكل يحبه، والبعض يدفع مبالغ كبيرة لاصطحابه في السفر مجاناً على حسابه، وهو إنسان يظن أنّ هذا كله امتيازات.. والحال أنّ هذا كلما مزح مزحة مجّ من عقله مجّة، أي أن عقله يهتز، كما نفهم من النصوص المباركة.. فالإنسان الذي يكثر من المزاح والتنكيت، هذا الإنسان يبتلى في أواخر عمره بالاكتئاب المزمن، هذه عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.. لأنه كان يبالغ في الضحك والكلام الهازل، فإنه يبتلى بهذه الناحية، ولكن العقوبات الإلهية بعضها في الدنيا قبل الآخرة.. فالأب الذي يشكو من عقوق ولده، كان هو كذلك عاقا لوالده.. هكذا العقوبة في الحياة الدنيا.. والذين -مثلا- يكثرون من العلاقات النسائية معظمها محرم وقسم منهم محلل، أخيرا يبتلى بزوجة هي من دون باقي النساء: شكلاً، ومضموناً، وخلقاً.. وهكذا يجري الله -عز وجل- العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
ثانياً: الخبر الصادق.. وهو الخبر الذي نقطع بأنّه صادق، كالخبر الذي أجمعت عليه وكالات الأنباء، إذا كان الخبر خبرا علميا ليس فيه شيء، مثلا: إنسان رائد فضاء مشى على المريخ، وهناك صور له، فالإنسان يكاد يرتاح لهذا الخبر.. هذا الخبر يسمى بالخبر المحفوف بالقرائن، أو الخبر المتواتر الذي يورث اليقين.
ثالثاً: الخبر الواحد.. وهو الخبر الذي لا يورث اليقين، هذا الخبر الذي ينقله إنسان مؤمن تارةً، يدخل في باب الخبر الذي يرويه المؤمن، وله أبحاث مفصلة في الأصول.. ولكن الخبر الذي ينقله إنسان فاسق، القرآن الكريم يقول: لا تأخذ بخبر هذا الإنسان، {فَتَبَيَّنُوا}؛ أي حاول أن تتحقق من هذا الخبر.. نحن في حياتنا اليومية مبتلون بهذه البلية، الناس الذين يكثرون من القول والحديث -هذه من المجربات البشرية- ومن الهذر فيما لا يعنيه، هذا الإنسان حتى اجتماعياً لا وزن له، يقال عنه: إنسان هذّار، وكثير الكلام.. هو في مجالسهم يؤنسهم يمدحونه ويدعونه، أما في مقام التقييم الاجتماعي، لو طلب ابنتهم لا يزوجونه؛ لأنّ هذا الإنسان ليس له عمق في الباطن.
أما الإنسان الذي يكثر الصمت، طبعاً الصمت أيضاً على قسمين: صمت مرضي: إنسان مصاب بانفصام الشخصية، إنسان مبتلى بعقد اجتماعية، يرى الناس كلهم أعداء له فيسكت، هذا السكوت لا قيمة له، هذا لو تكلّم هذر، فالسكوت أفضل.. وهناك صمت واع: هذا الصمت للإنسان الوقور المؤمن، هذا الإنسان عندما يسكت لا يخلو من ذكر أو فكر.. والمؤمن مشغول: إما بالذكر، أو الفكر، أو العمل للكد على عياله، أو الجهاد في سبيل الله.. يكد يعدّ مجاهداً، يفكّر يعدّ مجاهداً، ويذكر أيضاً يعدّ مجاهداً؛ حياته كلها جهاد في جهاد.
فإذن، عندما يأتينا الفاسق بخبر، لابدّ أن نتبين، {فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.. هذه كلها آثار لمن يتبع كلام الإنسان الفاسق، فكيف بالإنسان الفاسق نفسه!.. هذا الإنسان الذي يوجد شائعات في المجتمع، هذا يعلم الله ما عليه من الوزر.
– إن الإنسان عندما يتكلم عليه أن ينظر إلى ثمرة القول، ماذا وراء القول من فائدة؟.. وليس من الضروري أن تكون الفائدة أخروية فحسب!.. مثلا: هناك تاجر في السوق، واليوم هنالك رغبة في سلعة معينة، ومن الممكن أن يرتفع سعرها.. إذا نصحت ذلك التاجر المؤمن بشراء تلك السلعة، فأنت مأجور على هذا الكلام.. هذا التاجر يتاجر، ويربح، ويساعد الغير، ويدفع ما عليه من الحقوق.. هل تعلم بأنك أنت المؤمن بكلامك هذا، شاركته في ثواب ما تصدّق به؛ لأنك أنت السبب، مع أنّ الحديث دنيوي وليس بحديث مقدّس؛ ولكنه كلام نافع.. أما الكلام الذي ليس له نفع للدنيا ولا للآخرة، مثلا: هناك فريق رياضي هزم فريقا رياضيا في أقصى الأرض، هنا ما هو شغل المؤمن بذلك الفريق، حتى يأخذ بالتحدث ووصف المباراة، هذا الكلام في أيّ خانة يمكن وضعه؟.. في خانة التجارة، أو في خانة الموعظة، أو في خانة العلم النافع، أو في أيّ خانة؟..
– إن الإنسان الذي يكثر القول فيما لا يعنيه، يتعرض لبعض أنواع البلاءات، ورد في الحديث القدسي: (يا بن آدم!.. إذا وجدت قساوة في قلبك، وسقما في جسمك، ونقصاً في مالك، وحريمة في رزقك.. فاعلم أنك قد تكلّمت فيما لا يعنيك).. هناك بعض الحالات المرضية التي لا يعلم الأطباء لها سراً، أحيانا الميكروب يكون واضحا، وأحيانا تكون الحالة عجيبة جداً: كلّ التحاليل سليمة، ولكن الداء موجود، والمرض موجود، والأوجاع أيضاً موجودة!.. بعض الناس كذلك: في عالم الكسب المادي غير موفق، وهنالك بلية نزلت عليه؛ جسمه سقيم، وماله قليل، والأهم من ذلك أنّ قلبه قلب قاس.. قد لا يحتاج الإنسان إلى القلب الرقيق طوال السنة، ولكن تمرّ عليه أيام وليال في السنة، فيعيش المسكين قساوة القلب في ليلة القدر، ليلة القدر التي هي خير من ثمانين سنة، بل أكثر من ثمانين سنة، خير من ألف شهر؛ كلما أراد أن يذرف دمعة واحدة لا يوفق.. يذهب إلى الحج، وفي عرفة، وفي الخيمة الناس كلهم في حال بكاء وتوسل ومناجاة مع رب العالمين، وهذا الإنسان متبرم من حرارة الجو، يفكر متى ينتهي عصر عرفة ليخرج إلى مزدلفة.. نعم هذه عقوبته في ذلك اليوم، ربّ العالمين يسلّط عليه قسوة القلب، كلّ ذلك من سيئات الحديث فيما لا يعنيه.
– إنّ المؤمن كما أنّ لسانه منضبط، وعنده رقابة دقيقة على اللسان، كذلك يجب أن يكون سمعه منضبطا.. ولكن مراقبة السمع من بعض الجهات أشد من مراقبة القول، وذلك لأن الإنسان هو الذي يتحكم في الكلام، هو صاحب الحديث: متى شاء يتكلم، ومتى شاء يسكت.. وقد جعل ربّ العالمين أمام اللسان أربعة أبواب، أو بابين بزوجين: الأسنان والشفتين.. نعم جعل هنالك حدودا، فإذا أراد أن يتكلم لابدّ أن يبذل جهدا في الحنجرة، والأوتار الصوتية، والأسنان، والفم، وكلّ هذا الجهاز يتحرك ليقول الإنسان جملة.. -فالكلام والحديث من آيات الله الكبرى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.. أعجب عضو في بني آدم هو المخ؛ لأنه شيء مذهل، ولا يعلم تفاصيله، قطعة شحمية في هذه القطعة كل شيء حتى العواطف.. لكن هل هذا المخ كل شيء في الوجود، أم أنّ هنالك ترابطا بين المخ وعالم الروح؟.. إنّ القطعة التي هي بين الدنيا والآخرة، بين المادة وبين ما وراء الطبيعة، هذه القطعة الموجودة في رأس الإنسان واقعاً هي برزخ: لا هي قطعة مادية بحتة، ولا هي قطعة معنوية بحتة، العواطف أين وهذا المخيخ أين؟.. هذه القطعة الصغيرة، أو هذه الشحمة الصغيرة تكون مسئولة عن الحبّ والبغض؟!..- بعد هذا كله، تصدر ذبذبات عصبية، أيضاً من عجائب الخِلقة هذه الذبذبات ماهيتها: هل هي كهرباء، هل هي أمواج؟.. لا يعلمون عنها شيئاً!.. وإذا بهذه الذبذبات تنتقل إلى الجهاز الناطق بكلّ تفاصيله، وإذا بالشخص يتكلم جملة بعد جملة.. وهذا شيء مذهل، وكل هذا في ثوان، أي أن هذا الأمر لا يحتاج إلى مراحل.
فإذن، إن الكلام والحديث أمرٌ ممكن السيطرة عليه، ولكن ماذا نعمل بطبلة الأذن؟.. الطبلة المفتوحة على مدار الساعة، الطبلة هذا الجهاز الذي يتحرك مع كلّ موجة حقاً كان أو باطلاً.. ومن هنا من الأشياء الصعبة على المؤمن أن يتحكم في نفسه في هذا المجال، البعض يقول: ما العمل إذا كان المغتاب إنسانا محترما، وصعب أن تنهاه عن المنكر، ولعلّه أكبر منك سنّاً، وأوجه اجتماعياً، وأعلم فكرياً ونظرياً؟.. ولهذا المؤمن بعض الأوقات يتحير في تكليفه في مثل هذه الموارد، لذا هناك اقتراحات بالنسبة إلى هذا الموضوع:
أولاً: اختيار المجالس.. على الإنسان أن لا يذهب إلى مجلس يتوقع فيه الغيبة، هذا التوقع يكفي، فدفع الضرر المحتمل واجب.. عندما يحتمل أنّ هذا المجلس يمكن أن يوقعه في مطبّ من المطبات، لا يذهب إليه.. وقلب المؤمن دليله، بعض الأوقات الإنسان يحبّ أن يذهب إلى مكان، ولعله يركب السيارة، وإذا به ينصرف عن الذهاب، يقول علي عليه السلام: (عرفت الله بنقض العزائم ، وفسخ الهمم)، يقول: هذا لعله لطف إلهي في حقي، أنه في اللحظات الأخيرة انصرفت عن الذهاب.
ثانيا: حسن التصرف.. ثم إذا ذهب الإنسان وتوّرط في هكذا أمر، هنالك أساليب معقولة في النهي عن المنكر، فرق بين أن تقول: يا فلان أنت إنسان تتكلم في الحرام، هذا لا يجوز شرعاً.. ولعلّ له عذرا، ويرى أنّ هذه الغيبة غيبة جائزة.. من الممكن أن تقول: يا فلان!.. نحن مختلفان في وجهات النظر، قد يجوز لك أن تقول، أما بالنسبة لي فيجب أن لا أسمع.. أنت قد تراه جائزاً، ولكني أراه محرماً.. وإذا رأى أنّ هذا غير ممكن، فباستطاعته بعذر ما أن يخرج من المجلس، بحيث لا يقع في السلبيات المترتبة على هذا الأمر.
– إن الغيبة هي من أسخف أنواع الحرام، ولكن كيف الناس لا يلتفتون إلى ذلك؟.. حرام سخيف، لأنّ المحرمات الشرعية عادةً فيها لذة وفيها فائدة، مثلا: السرقة فيها فائدة، إنسان يحصل على مال، ليس فائدة شرعية، ولكن يحصل على شيء.. وشرب الخمر فيه سكر، والقمار فيه ربح، والزنا فيه لذة، وأكل الحرام فيه شبع.. كلّ المحرمات وراءها فلسفة، ولهذا فيها دافع، وهذا الشارع يأتي ويقول: لا ترتكب، وكلما كان الداعي أقوى كلما كانت المجاهدة أكثر، ولهذا قيل في بعض النصوص: (أفضل الأعمال أحمزها)؛ أي أشقها على النفس.. ولكن ما لذة الغيبة؟.. أيّ لذةٍ في الغيبة؟..
– إن هناك شيئا واحدا، وهو حبّ الانتقام.. إنسان محسود ويريد أن يتفوق عليه بشكلٍ من الأشكال يسقطه اجتماعياً، أو عنده عداوة مع الآخرين، نعم هذا هو الوجه الذي يمكن أن يتصور لأيّ داعٍ كان.. وهناك رواية عن النبي الأكرم (ص)، هذه الرواية من روايات الفريقين، يقول (ص): (الغيبة أشدّ من الزنا)!.. لماذا الغيبة أشدّ من الزنا؟.. الزنا أمر قبيح جداً، فمن يزني يسقط اجتماعياً إلى أبعد الأعماق.. أما الغيبة فإنا -مع الأسف- نراها أمرا طبيعيا في مجالسنا، ونقدم عليها مباشرة بعد أن ننتهي من مجلس العزاء، ونحن في أماكن شريفة: كالمسجد، والمآتم، والحسينيات.
– إن الدليل على أنّ الغيبة أشدّ من الزنا: الزنا عادةً عملية توافقية: شهوة في قلب هذا الشاب، وشهوة في قلب هذه الفتاة، فيتفقان على عمل لا ثالث في البين، ليس هناك تعدٍّ على حقّ الغير، ولا سرّ انكشف، وبعد فترة يتوبان إلى الله عزّ وجلّ.. ولهذا ليس هناك كفارة للزنا!.. كفارة الزنا أن تقول: أستغفر الله ربي وأتوب إليه!.. إنسان بعد مائة أو مائتي عملية محرمة، في ثانية وفي أقلّ من ثانية يتوب، هل من الممكن ذلك؟.. الإمام زين العابدين (ع) يقول في مناجاة التائبين: (إلهِي!.. إنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْب تَوْبَةً، فَإنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ).. صاحب كتاب العروة الوثقى يقول بالنسبة للزاني التائب: الأحوط استحباباً أن يقول: أستغفر الله ربي وأتوب إليه.. أي يستحب وليس واجباً، إنما الواجب أن يعيش حالة الندامة الباطنية.. إذن في أقلّ من ثانية من الممكن أن يتوب إلى الله -عزّ وجل- ويطفئ بحاراً من غضبه.
أما الغيبة ليست هكذا، من يقول الغيبة هكذا: فقط أن يستغفر الله وينتهي الموضوع؟.. هذا الإنسان الذي أسقطه اجتماعياً، وهتكه، وأهانه، وآذاه.. أي هناك طرف آخر، لابدّ -على كلام بعض الفقهاء- أن يستحلّ منه.. وإذا لم يمكنه الاستحلال، يقول العلماء في هذا المجال: دعها مستورة، وسل الله -عز وجل- أن يغفر لك، ويعوّضه خيراً.. ومن الراجح دفع صدقات عنه، ليس مرة أو مرتين أو ثلاث، بل إلى حدّ يجعله يرتاح فيه يوم القيامة، عندها سوف يتغاضى عنك إذا قدمت له هذه الحسنات.
فإذن، هذه الورطة وهذه الأذية لماذا؟.. لماذا أوقعت نفسك في غيبة الآخرين؟.. والمصيبة أنهم -كما في تعبير بعض الأدباء- يقولون: الغيبة فاكهة المجالس!.. ومعروف أنّ الغيبة منتشرة في أوساط النساء، وذلك من أثر البطالة.. لأن الإنسان الذي يشغله همّ الدنيا، لا يغتاب؛ لأنه ليس متفرغا للغيبة، فكيف إذا كان يشغله همّ الآخرة؟.. هذا أصلاً إنسان ليس لديه مزاج أن يتكلم الكلام الحلال، فكيف بالكلام الحرام.. فإذن، إن الفراغ الباطني من موجبات الغيبة، والمؤمن في شغل عن هذا كله.
– إن هناك دعوة حثيثة في سورة الحجرات على الإصلاح بين المؤمنين، تقول الآية الشريفة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}؛ أي هذا أخوك وهذا أخوك، أصلح فيما بينهما.. طبعاً هذه الآية بحسب الظاهر لا تعني المؤمن والمؤمن فحسب!.. بل أيضاً المؤمن والمؤمنة؛ أي حتى الزوجين المتخالفين.. المؤمن عنده خاصية استشعار قلبي، ينظر في المجتمع: ما الذي يحدث، وما الذي يجري؟.. من أشدّ الأمور التي تؤذي المؤمن، حالات الخلاف بين المؤمنين؛ لأن الخلاف بين المؤمنين أشبّه بالمستنقع، إذا انقطع عنه الماء يخرج منه كلّ ما هبّ ودب.. إذا صار الجو هكذا بين المؤمنين -جو خلاف- فكل شيء متوقع حتى القتل.. هناك أمران يورثان الخلود في نار جهنم: الكفر بالله عزّ وجلّ، وقتل المؤمن متعمدا.. قبل قرابة قرن صار نزاع في إيران، والنتيجة أنّ أحد العلماء الكبار الذي قبره الآن يزار، كان يشتم في زمانه.. الآن قبره يزار وهو عند السيدة المعصومة (ع)، والشوارع الكبرى الآن باسمه، وهو الشيخ فضل الله النوري عالم كبير، ولعله كان مجتهداً أو قريب الاجتهاد.. ألقوا القبض عليه؛ لأنه ينكر توجها سياسيا معينا: لا كفر بالله، ولا أبدع في الدين، ولا قتل نفساً محترمة.. أعدموه في العاصمة، والناس حوله يصفقون حول مشنقته.. وعندما أنزلوه من المشنقة وهو جثة هامدة، أخذ الناس يهتكون جثته.. عالم كبير: يعدم، وتهتك حرمته، والآن اسمه أصبح علماً في البلاد.. ولهذا احذروا أجواء الفتنة، واحذروا أجواء الاختلاف!..
– إن بعض الناس عندما يختلف مع أخيه، كأنه الناطق الرسمي باسم الله ورسوله، يتكلم وكأنه لا يحتمل الخلاف، وكأنه متصل بالعرش ومن علاه، وبالوحي وبالنبي.. القضية ليست هكذا بهذا الوضوح، نعم تكلم وقل: أنا أحتمل، يمكن، يجوز.. لا تقطع بما تقول، وعلى فرض أنت قاطع، في الحوزات أن القطع حجة: إنسان يرى قطعة نجاسة على بدن الآخر، صلاته باطلة، ولكن هو عنده يقين أنه على طهارة انتهى الأمر!.. لماذا تحاول أن تحمّل يقيناتك بل ظنياتك على الآخرين؟..
– إن على المؤمن أن يحذر أجواء الفتنة والنميمة والتباغض!.. بعض الأوقات عندما يختلف الإنسان مع أخيه، يرى الشيطان يتمثل به، وتلبس الشيطان ليس فقط ممكن، بل نقطع به في بعض الأحيان، فهو يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق، إلى درجة أن كل الناس يوم القيامة ترفع شكوى على الشيطان، يقول بني آدم: يا ربّ لا تعاقبنا، فنحن مساكين في الدنيا مستضعفين، كلّ ذلك من هذا الملعون الذي أغوانا.. هذا الشيطان الرجيم يتكلم كلاما يسكت البشرية من أولهم إلى آخرهم، هو صحيح رجيم ملعون، ولكن الله -عز ّوجلّ- هو الحكم العدل، يعطيه الحق كي يدافع عن نفسه قائلاً: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}؛ أي أنا لم أجبركم على المعصية، أنا هيئت لكم الأجواء، حتى وقعتم فيما وقعتم فيه.. الشيطان يدعو البعض فيستجيب له، ولكن عندما يسمع الإنسان كلام الشيطان فترة من عمره؛ فإنه يصل إلى درجة يصبح له سلطان على الإنسان، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، يتولونه في مقام العمل.. يجلس المرشد مع الشاب، ويتكلم معه ساعتين في حرام من المحرمات، فيقول ذلك الشاب: أعرف أن هذا حرام، وخلاف المنطق والعقل؛ ولكن سامحني ليس الأمر بيدي.. البعض يصل إلى هذه الدرجة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.