بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.. اللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.. والمكاثرة والتكاثر: التباري في كثرة المال والعز.
أولاً: إن الإكثار من الذرية أمر مطلوب، عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه قال: «تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط».
ثانياً: هذه الذرية صدقة جارية، قال النبي (ص): (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فإذن، لماذا هذا الذم من التكاثر في هذه الآية؟..
الجواب: تارةً يكون الشيء في حد نفسه شرّاً، وتارةً تكون علاقة الإنسان مع الشيء علاقة سلبية.. مثلاً: السكينة نقشر بها الفاكهة، ويمكن أن نطعن بها في قلب إنسان؛ فنقتله.. وبالتالي، فإن السكين لا توصف بالخير، ولا توصف بالشر.. إنما طبيعة التعامل، هي التي تحدد.. الحاج في أرض منى، يقدم أضحية يذبحها بهذه السكين.. وإبراهيم (ع) أراد أن يذبح ابنه أيضاً بهذه السكين.. وعليه، فإن المشكلة هي في العلاقة القلبية.. والإنسان كذلك: تارةً ينظر إلى الأولاد على أنهم يثقلون الأرض بكلمة: “لا إله إلا الله” ويكثرون من سواد المسلمين، ويكونون له عقباً صالحاً.. فهذا نعم الولد، لأنه مزرعة الآخرة!.. وتارةً يكثر من الذرية من باب التفاخر، وهذا موجود في العشائر، فالولد عندهم مطلوب لأمرين:
١. اقتصادياً: فهو مادة كادحة مجانية، فالولد إلى سن معينة، يعمل لحساب أبيه في الأرياف.
٢. اجتماعياً: عندما يقف أمام الناس، فإنه يفتخر بكثرة الأولاد والأحفاد.
فإذن، إذا كانت الذرية موجبة للالتهاء والتفاخر؛ فهذا هو التكاثر المذموم!..
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}.. بعض الناس يذهب إلى المقبرة، ويقول: هذا الصف كله من عائلتنا من آل فلان.. هذا التعبير الشائع: “آل فلان” ليس بحرام، ولكن بعض الأوقات يشعر: بالنخوة، والجاهلية، والتباهي.. المقاصد عند الله -تعالى- علينا أن ننتبه للاستعمال: إن كان للتفاخر، يدخل في {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}.. فالمعنى: شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها، والتسابق في تكثير العدة عما يهمكم، وهو ذكر الله حتى لقيتم الموت، فعمتكم الغفلة مدى حياتكم.. وقيل: المعنى شغلكم التباهي والتباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالاً، وهؤلاء: نحن أكثر، حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء، صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم، فتكاثرتم بأمواتكم.
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.. ردع عن اشتغالهم بما لا يهمهم عما يعنيهم، وتهديد معناه: سوف تعلمون تبعة تلهيكم هذا، وتعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.
{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.. تأكيد للردع والتهديد السابقين، وقيل: المراد بالأول علمهم بها عند الموت، وبالثاني علمهم بها عند البعث.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}.. البعض يقول: من الممكن أن نرى الجحيم في الحياة الدنيا، ولكن بفارق: في الآخرة نرى جهنم بعين الباصرة، أما في الحياة الدنيا فإننا نراها بعين القلب.. علي (ع) في خطبة المتقين يقول: {فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا؛ فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ}.. ولهذا المؤمن ترتسم دائماً على ووجهه ابتسامة، وعنده انشراح صدر؛ لأنه يعيش في النعيم.. فرب العالمين راض عنه، وهو راض عن الله عز وجل.. {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} هذا في الجنة، ولكن أيضاً هذا الرضوان الأكبر من الممكن أن يكون مع المؤمن في الدنيا.. وعندئذ لا حاجة للحور والقصور، فرحيق الجنة؛ هو رضوان الله تعالى، وهذا الرضوان موجود الآن.. ويقول (ع): (وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا؛ فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ).. وفي عبارة أخرى: (وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ).. وعليه، فإن المؤمن يصل إلى درجة يصبح كإبراهيم (ع)، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.
فإذن، يمكن رؤية الجحيم قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين.. وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين، بل ممتنعة في حقهم، لامتناع اليقين عليهم.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.. يا لها من آية مخيفة!.. بعض الناس يفرح بثروته الطائلة، وبمنازله المتعددة، وبسيارته الفارهة، وبرصيده المليوني.. ولكنه يغفل عن هذه الآية!.. فالمراد بالنعيم مطلقة، وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة.. فالإنسان مسئول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه.. والسؤال عن عمل العبد، سؤال عن النعيم كيف استعمله: أشكر النعمة أم كفر بها؟.. فهو يسأل: من أين له هذا؟.. ومن أين اكتسب هذا المال؟.. وهل صرفه من حله؟.. وهل دفع أموال ما لله -عز وجل- من حق في أمواله؟.. وبعد أن صفى الأموال، ودفع ما عليه: هل صرف المال فيما يحب الله -عز وجل- ويرضى؟.. يقول تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}؛ أي أن الإنسان هو وكيل وأمين على هذا المال، وليس بمالك.. فالمالك هو الله -عز وجل- وهذه الملكية هي ملكية اعتبارية، لا حقيقية.. لهذا بمجرد أن يموت الإنسان، تنتقل الملكية إلى الورثة رغم أنفه.
فإذن هذه السورة ذيلها مخيف!.. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} وهناك في روايات أهل البيت (ع)، ما يدل على أن من النعيم أو من أهم النعيم؛ حب آل البيت وولايتهم.. وفي تفسير القمي، بإسناده عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.. قال: (تسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.