بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}.
{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}.. {بِهَذَا الْبَلَدِ}: أي بمكة المكرمة.. {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}: أي مقيم، ومستقر بهذا البلد.. والمعنى: أقسم بهذا البلد، والحال أنك حال به، مقيم فيه.. وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها، وكونها مولده ومقامه.. {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}: ينطبق على إبراهيم وولده إسماعيل (ع)، وهما السببان الأصليان لبناء بلدة مكة، والبانيان للبيت الحرام قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. وإبراهيم (ع) هو الذي سأل الله -عز وجل- أن يجعل مكة بلداً آمناً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}؛ ولكن لماذا الإبهام؟.. لعله -والله العالم- للتفخيم والتعظيم!.. بعض الأوقات الإبهام، يوجب تعظيم الطرف المقابل!..
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.. الكبد: الكد والتعب.. بعض الناس يحب أن تستقيم له كل شؤون الحياة: مال وفير، صحة وعافية، ذرية كثيرة طيبة، ارتياح نفسي، مهاب في عشيرته وقومه، الخ!.. والحال أن الواقع خلاف ذلك، فقد ورد عن الإمام السجاد (ع): (من طلب الغنى والأموال والسعة في الدنيا؛ فإنما يطلب ذلك للراحة في الدنيا.. والراحة لم تخلق في الدنيا، ولا لأهل الدنيا؛ إنما خلقت الراحة في الجنة.. والتعب والنصب، خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا).. وفي حديث آخر: أوحى الله تعالى إلى داود (ع): (…ووضعت الراحة في الجنة، وهم يطلبونها في الدنيا فلا يجدونها).. وعليه، فإن الدنيا دار تعب ومشقة!.. والمؤمن إذا رأى بلاء في ماله، أو في نفسه، أو في زوجته؛ يشكر الله عز وجل.. لأنه إذا كان لابد من البلاء، فليكن في غير الدين، ألا نقرأ في الدعاء: “اللهم!.. لا تجعل مصيبتنا في ديننا”!.. نعم، المصيبة الكبرى هي التي تكون في الدين!.. مثلاً: البعض يقف ليصلي، يحب أن يقول: الله أكبر!.. وكأن هناك شيئاً يدفعه عن الصلاة، لمرض أو لغيره.
{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}.. إن الإنسان لما كانت خلقته مبنية على كبد، فلا ينال قط شيئاً مما يريد، إلا دون ما يريد، أو غير ما يريد.. فهو محاط في خلقه، مغلوب في إرادته، مقهور فيما قدر له من الأمر.. والذي يغلبه في إرادته، ويقهره على التلبس بما قدر له، وهو الله -سبحانه- يقدر عليه من كل جهة؛ فله أن يتصرف فيه بما شاء، ويأخذه إذا أراد.. فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد، فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله تعالى، ويستكبر عن عبادته.. فمادام الإنسان ضعيفاً، محاطاً بالآفات في: النفس، والبدن، والمال؛ لمَ لا يلتجئ إلى رب الأرباب، وهو في كل يوم يحتاج إلى عنايته؟!..
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}؟.. {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ}: أي جهزناه في بدنه، بما يبصر به.. فإذا كان الإنسان يرى الأشياء بعينيه، التي خلقها الله عز وجل، فكيف بخالق العينين، أليس هو أولى بالرؤية!.. {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}؛ أي ألم نجعل له لساناً وشفتين، يستعين بهما على التكلم، ويعبر عما في فؤاده من خلالهما!.. {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}: النجد: الطريق المرتفع.. والمراد بالنجدين: طريق الخير، وطريق الشر؛ أي علمناه طريق الخير، وطريق الشر بإلهام منا.
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا}.. اللبد: الكثير، سياق الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة، مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام، أو مال إليه، فقد أنفق بعض ماله، وامتن به مستكثراً له بقوله: {أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا}؛ أي أنا أنفقت أموالاً كثيرة، وكأنه يريد من الله -عز وجل- الجائزة الكبرى!.. فنزلت الآيات، وردّ الله -عز وجل- عليه: بأن الفوز بميمنة الحياة، لا يتم إلا باقتحام عقبة الإنفاق في سبيل الله تعالى، والدخول في زمرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}.. الاقتحام: الدخول بسرعة، وضغط، وشدة.. والعقبة: الطريق الصعب الوعر، الذي فيه صعود من الجبل.. واقتحام العقبة إشارة إلى الإنفاق الذي يشق على منفقه.. فإذن، إن كنت تريد الجائزة، والأجر العظيم؛ عليك باقتحام العقبة.. وفي الكافي، بإسناده عن جعفر بن خلاد قال: (كان أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إذا أكل أتي بصحفة، فتوضع قرب مائدته.. فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به، فيأخذ من كل شيء شيئاً، فيضع في تلك الصحفة، ثم يأمر بها للمساكين.. ثم يتلو هذه الآية: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}.. ثم يقول: “علم الله -عز وجل- أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنة”).
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ}.. {وَمَا أَدْرَاكَ}: تفخيم لشأنها!.. {فَكُّ رَقَبَةٍ}: أي عتقها وتحريرها، أو التقدير: هي -أي العقبة- فك رقبة.. فالمراد بالعقبة نفس الفك الذي هو العمل، واقتحامه الإتيان به.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}.. المسغبة: المجاعة.. والمؤمن هو الذي يطعم الناس في اليوم الذي يكون فيه الجوع، والقحط؛ وبعبارة أخرى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}؛ أي قدّمْ عملاً يعتد به!.. البعض يطعم الطعام، ولكن من أجل الوجاهة الاجتماعية، أو ما شابه ذلك.. لذا، يجب أن يكون العمل خالصاً لله -عز وجل- أولاً، وفيه مجاهدة للنفس ثانياً.. والمقربة: القرابة بالنسب.. نحن بعض الأوقات، نقدم أيتام الناس على الأيتام الأرحام.. مثلاً: هناك إنسان له أخ متوفى، وهذا الأخ له ولد، هنا على المؤمن أن يرعى هذا الولد اليتيم.. ورعاية اليتيم ليس حتماً بالمال، فقد يكون مستغنياً، ولكنه بحاجة إلى عطف وحنان.. فالعم المؤمن، أو الخال المؤمن؛ يجب أن يعطف على أيتام أرحامه.. والمتربة: من التراب؛ أي الالتصاق بالتراب من شدة الفقر.. والمعنى: أو إطعام في يوم المجاعة: يتيماً من ذي القربى، أو مسكيناً شديد الفقر.. فالمؤمن يبحث عن هذه العينات الاجتماعية المستضعفة.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: وصية بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله عز وجل.. {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}: وصية بعضهم بعضاً بالرحمة، على ذوي الفقر والفاقة والمسكنة.. هنيئاً لإنسان جمع بين صفتين: يده تعطي المال، ولسانه يعطي الحكمة!.. البعض يتكفل عشرات الأيتام، ولكن في حياته ما هدى إنساناً واحداً، وما أرشد ضالاً!.. والبعض فقط يتكلم ويتكلم، ولا يقدم ديناراً واحداً.. بينما المؤمن يجمع بين الصفتين؛ لأن المؤمن وجود معطاء في كل الأبعاد.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.