بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}.. الإِلف: بكسر الهمزة؛ اجتماع مع التئام.. وقريش: عشيرة النبي (ص).. هناك رأي: أن هذه السورة مرتبطة بسورة الفيل.. فسورة الفيل تقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، ثم يذكر الدمار الذي حل بأبرهة وجيشه.. ولكن لماذا هذا الانتقام الإلهي من أبرهة؟.. رب العالمين انتقم من أبرهة وجنده وفيلته، كي تتحقق الإلفة لقريش.
{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}.. {إِيلافِهِمْ}: عكس وحشتهم، والمراد بـ”الرحلة” خروج قريش من مكة للتجارة، وذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه.. فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة بالصيف إلى الشام؛ وكانوا يعيشون بذلك.. وكان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام، فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم، أو الإغارة على بلدهم الآمن.. رب العالمين يقول: نحن إنما أهلكنا أبرهة وجنوده لإيلاف قريش، هؤلاء ألفوا التجارة بعدما دمر الله عليهم الخصوم.. فإذن، هذا معنى ارتباط سورة قريش بسورة الفيل.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}.. وهناك رأي آخر: أن هذه السورة مستقلة، وليست مرتبطة بالسورة السابقة، فـ{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} مرتبطة بـ{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}.. أي يا قريش!.. اعبدوا رب هذا البيت؛ لأن رب العالمين هو الذي جعل مكة بلداً آمناً، والناس تحترمكم لمكان البيت، وتأتي للتجارة إلى مكة، بعد جلب البضائع من الشام واليمن.. إذن، هذه نعمة إلهية تستحق الشكر.. ومحصل معنى الآيات الثلاث: ليعبد قريش رب هذا البيت، لأجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء والصيف، وهم عائشون بذلك في أمن.. هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها، ذات سياق مستقل في نفسها.. وأما على تقدير كونها جزء من سورة الفيل، متممة لها، فالمعنى: فعلنا ذلك بأصحاب الفيل، نعمة منا على قريش، مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف، فكأنه قال: نعمة إلى نعمة.
{الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.. إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منّه الواضح، ونعمته الظاهرة عليهم: وهو الإطعام، والأمن.. فهم يعيشون في أرض لا خصب فيها، ولا أمن لغيرهم.. فشبه الجزيرة العربية كانت مضطربة، والناس تتخبط من حولهم، ولكن مكة كانت بقعة آمنة، بل من آمن البقاع؛ وهذه منة إلهية على قريش.. وكذلك جعلهم مركزاً لمراجعة القبائل.. لذا، فليعبدوا رباً يدبر أمرهم أحسن التدبير، وهو رب البيت.
الدرس العملي:
إن القرآن الكريم في ختام سورة قريش، ذكر نعمتين مهمتين: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.. فكل مجتمع، وكل دولة، وكل أمة؛ بحاجة إلى عنصرين: الاستقرار الاقتصادي، والاستقرار الأمني.. إذا كان الإنسان آمناً في وطنه، وله قوته؛ هذا الإنسان أعطي الدنيا بحذافيرها.. قال رسول الله (ص): (من أصبح معافىً في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه وليلته؛ فكأنما حيزت له الدنيا).. نحن -مع الأسف- عندنا النعم الثلاث: أبداننا إجمالا سليمة، وأرزاقنا موسعة، والأمن والأمان متحقق.. ولكن أتفه الأشياء؛ تنغص علينا حياتنا.. فلا نتذكر هذه النعم الكبرى، بل عيننا دائماً على مشكلة بسيطة في حياتنا.. هذه مشكلة بني آدم: لا ينظر إلى الموجودات، إنما ينظر إلى المفقودات.. هل هذا من الإنصاف!.. رب العالمين يذكر نعمه على قريش بكلمتين: {.. أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}؛ وهذا -والحمد لله تعالى- متحقق في بلادنا.. فإذن، لنشكر الله -عز وجل- على هذه النعم الكبرى!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.