سر خلود الأعمال
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو سر خلود الأعمال في القرآن الكريم؟
يحتوي القرآن الكريم على آيات مختلفة من التبشير والتنذير والتخويف وما شابه ذلك. ومن الآيات التي هي في قمة التبشير قوله سبحانه: (فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)[١]، وهي من الآيات المؤملة التي تبين لنا أن الذي يعيش دهرا من حياته في الانحراف والمعاصي ثم يعود إلى الله عز وجل؛ فإن الله تعالى سيبدل سيئاته حسنات. ومن الآيات التي هي قمة في التخويف قوله سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[٢]، وإن كانت الآية في ظاهرها تخاطب المشركين إلا أنها مخيفة للجميع.
آفة عمل الإنسان
لم تتحدث الآية الشريفة عن الذين لا عمل لهم؛ بل قد لا يتعرض من لا عمل له إلى العجب الذي يتعرض له صاحب الأعمال الكثيرة، وإنما تحدثت الآية عن الذين يقدمون الأعمال وهم غافلون عن أنها لا قيمة لها عند رب العالمين؛ كالتاجر الذي يعمل ما يعمل ويكتسب ما يكتسب وهو لا يعلم أنه على حافة السقوط والإفلاس وإذا به يفلس إفلاسا شديدا، ولذلك يقال: إن إيقاف الخسارة في أي وقت هو ربح في حد نفسه.
ما هي الأمور التي تحبط عمل الإنسان؟
ثم تبين الآية التالية أن كفر هؤلاء سبب في إحباط أعمالهم وتبددها وعدم إقامة وزن لهم وذلك قوله سبحانه: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[٣] والكافر موجود مبغوض للمولى وهذا الوجود البغيض لا يمكنه أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء لأنه لا يعترف بمن يمكن التقرب إليه. وكذلك من الذين لايقام لهم وزن يوم القيامة، المؤمن الذي يعمل لغير الله عز وجل.
كيف يخلد العمل؟
والعمل في حد نفسه لا خلود له وإن كان الفاعل يحمد على فعله ويكتسب الثناء الجميل من الناس؛ ككرم حاتم، ولكن العمل لا يخلد ولا يتحول إلى طاقة لا نهائية تتجلى في عرصات يوم القيامة وفي الجنة إلا بالانتساب إلى الله عز وجل، وإن لم ينتسب العمل إلى الله عز وجل فسيكون حاله كحال الشمس التي تتكور يوما ما والنجوم التي تنكدر والعظام التي تؤول إلى رميم. وقد وصف الله سبحانه نفسه في حديث قدسي بأنه خير الشريكين، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ مَنْ عَمِلَ لِي وَلِغَيْرِي فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ دُونِي)[٤].
قالب العمل وهيئته
وقبل أن يفكر الإنسان في كم الأعمال، وقبل أن ينظر إلى حجمها؛ ينبغي أن يهيئ القالب الذي يوضع فيه العمل، وكما أن في اللغة العربية لكل كلمة مادة وهيئة – فالضارب هيئته الفاعل، ومادته الضرب – وكذلك عمل الإنسان له مادة وهيئة: فالمادة عبارة عن الإنفاق، والصيام، والصلاة، والحسنات وما شابه ذلك والهيئة هي التي تعطي للعمل قيمته، وهي عبارة عن انتساب العمل لله عز وجل، وإلا ما وزن بناء الكعبة في عالم البناء؟ وكم كلف إبراهيم (ع) بناء الكعبة؟ إن الكعبة بناء فى منتهى البساطة، ولعله لا يوجد على وجه الأرض بناء ضخم كبساطة الكعبة: فهو بناء مكعب، ليس فيه أي جمال هندسي، ولا فيه تعقيد من تعقيدات البناء المتعارفة ولكن هذا العمل على بساطته انتسب إلى الله عز وجل. ولهذا أول ما قاله إبراهيم الخليل (ع): (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[٥]؛ أي تسمع ما نقول، وتعلم ما فى القلوب.
وينبغي للمؤمن أن يبادر إلى إيقاف حالة الخسران المستمرة في حياته وذلك من خلال النظر المستمر إلى أعماله ومراقبتها والتأمل فيها واستشارة أهل الاختصاص في هذا المجال، والتفقد الدائم لقالب العمل الذي يكتسب العمل منه بقائه وخلوده.
ما هي علامة العمل المقبول؟
إن العمل المقبول، هو العمل الذي ينعش روح الإنسان. وكما يقول علماء الأخلاق: إن مع كل عمل صالحٍ مقبول هبة نسيم من عالم الغيب. والإنسان عندما يزاول عملا مخلصا لوجه الله تعالى يرى بأن الله عز وجل ينظر إليه برفق، ويرى التيسير والتسديد أينما ذهب؛ بخلاف العمل الذي لا يعمله لوجه الله تعالى، حيث أن عينه تكون إلى الخلق، وإلى المكاسب، وإلى عاجل متاع الدنيا؛ وإن كان حسنا في نفسه إلا أنه لا تأثير له على صلاته ولا دعائه ولا على علاقته بالله عز وجل. وليحذر المؤمن من أن يكون عمله وسعي كسعي الذين كفروا حتى لا يبتلى بعاقبتهم التي قال عنها القرآن الكريم: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[٦].
خلاصة المحاضرة
- إن العمل في حد نفسه لا خلود له وإن كان الفاعل يحمد على فعله ككرم حاتم ولكن العمل لا يخلد ولا يتحول إلى طاقة لا نهائية تتجلى في يوم القيامة إلا بالانتساب إلى الله وإن لم ينتسب العمل إلى الله فسيكون حاله كحال الشمس التي تتكور والنجوم التي تنكدر والعظام التي تصبح رميما في يوما ما.