حادثة عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم
حادثة عاشوراء، الذكرى الأكثرعراقة على وجه الأرض
إن حادثة عاشوراء هي أعرق ذكرى مرت على البشر من لدن آدم إلى النبي محمد (ص)، فلم يكن ثمة نبي ولا مرسل إلا وقد ذكر الحسين وبكاه. ونحن لا نعلم كيفية حزن الله عز وجل وغضبه وفرحه؛ فلا نعلم كيف يتأذى سبحانه في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[١]، ولا كيف يفرح في الرواية التي تقول: (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَمَزَادَهُ فِي لَيْلَةِ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا)[٢]، ولكننا نعلم أن هذه المصيبة العظيمة قد عزت على رب السماوات.
ولذلك قد وعد سبحانه الذين يقيمون العزاء للحسين (ع) أن ينالهم أجرا وثوابا عظيما مما قد يستغرب البعض من عظمة هذا الثواب وكثرته، والاستغراب في محله إذا نظرنا إلى قضية الحسين (ع) نظرة تاريخية بحتة؛ باعتباره إنسانا مظلوما أو شهيدا من شهداء الإسلام، ولكننا نعلم أن القضية أعمق من هذا بكثير؛ فلقد بكته السماوات والأرضون، حتى نقل عن بعض العامة أنه لم يرفع حجر بعد حادثة عاشوراء إلا ووجد تحته دما عبيطا، ولقد بكته الحور، واقشعرت له أظلة العرش.
وعلى الأفق من دماء الشهيدين عليً ونجله شاهدان
فهما في أوائل الليل فجران وفي أمسياته شفقان
ثبتا في قميصه ليجيء الحشر مستعدياً إلى الرحمن[٣]
إن قضية الحسين (ع) هي قضية إلهية، ولقد خرق الحسين (ع) بحركته وثورته كل الموازين، وقد لا يجد البعض مبررا لخروجه إذا ما تم النظر إلى قضيته من زاوية فقهية محضة، فهو يعلم أن مصيره القتل وهذا ما أنبأ به أصحابه ليلة العاشر من محرم، ولقد قال لهم: (هَذَا اَللَّيْلُ قَدْ غشيكم فاتّخذوه جملا)[٤]، فلم يكن يرى الإمام أفقا للنصر من منظوره المادي ولأبقى على نفسه لقاد الأمة وهو حي وأثر عليها تأثيرا كبيرا إلا أن الله سبحانه شاء أن يراه قتيلا كما شاء أن يرى نسائه سبايا؛ ولقد كان قتله انتصارا للحق على الباطل على طول التاريخ، ولا أعلم إن كان سيبقى للحسين (ع) هذا الذكر والثناء لو قدر له أن ينتصر ويخلع يزيد ويقيم الحكومة الإسلامية الرشيدة في الكوفة وفي الشام، ولقد أراد سبحانه لهذا الدم أن يفور طوال التاريخ ولا يبرد إلى أن يخرج القائم طالبا بثأر جده الحسين (ع) وذلك من أهم الدواعي لظهوره (عج).
لماذا لم ينصر الحسين (عليه السلام) إلا هذه العدة القليلة؟
يبدي الجميع منا عند زيارته الحسين (ع) أسفه على عدم وجوده في زمان الإمام، عند القول: (يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً)[٥]، وهي بحق أمنية جميلة ولكن هل كان سيضمن الإنسان نفسه أن يكون في زمرة أصحاب الحسين (ع) بعد تلك الملابسات التي أحاطت بثورته الشريفة؟ هل كان سيضمن نفسه ألا يكون من المتخاذلين الذين خذلوا الحسين وما كان أكثره آنذاك؟
لقد خرج الحسين (ع) من المدينة رافعا شعاره الإصلاحي: (إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)[٦]، ولقد ودع قبر جده رسول الله (ص) وأمه الزهراء (س) وكذلك أهل وإخوته ذلك الوداع الذي لا رجعة فيه ويبدو ذلك جليا من الحوار الذي دار بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية، وليس من المعقول أن يدخل بعد ذلك مكة ولا يفصح عما في قلبه من إرادة الثورة والإصلاح. ولقد كان مسيره (ع) منذ خروجه من المدينة حتى دخوله كربلاء واضحا وقد رسم مسيرته المؤرخون ولكن بقي العدد الذين التحقوا به ضئيلا جدا قياسا إلى الأمة والقائد والرسالة التي كان يحملها الحسين (ع) وقياسا إلى الظلم الذي كان يمارسه يزيد وأعوانه. لقد كان القائد هو الحسين (ع) وهو ابن رسول الله (ص) والرسالة هي أعظم رسالة عرفها البشر وهي رسالة الإسلام، والهدف هو إنقاذ الأمة من براثن جور يزيد، ذلك الخليفة المفضوح الذي لم يكن بالإمكان التستر عليه كما كان بالنسبة لمن سبقه، فلقد خرق جميع الأستار وبدا وجهه الكريه للناس خَلقا وخُلقا ومنطقا وأسلوبا وسلوكا، واستهزاء بالدين وأهله ومع ذلك لم يلتحق بالحسين (ع) إلا هؤلاء الاثنان والسبعون.
لماذا هذا التخاذل؟ ولقد كان من قبل ذلك ما منيت به ثورة مسلم من الخذلان الفظيع؟ أين ذهبت تلك الجماهير الغفيرة التي حفت به عند دخوله الكوفة عندما قتل ورمي جسده الشريف من أعلى قصر الإمارة؟ أين ذهبت تلك الصرخات المدوية؟ ألم يعترض على قتله أحد؟ فلم يحدثنا التاريخ عن حركة احتجاجية في الكوفة بعد مقتل مسلم إلا بعض المبادرات الفردية التي أدت إلى قتل وسجن المبادرين.
ولابد أن نسأل عن أسباب هذا الخذلان وهل كان هذا الخذلان لغموض الرسالة أو لنقص في القيادة؟ لقد كانت الرسالة واضحة والقائد مما لا يشك في إيمانه ولا صدقه وهو الحسين (ع) سبط رسول الله (ص)، ولكنها ضعف البصيرة وقلة الوعي وفقان الثقافة، فلم يكن زمانهم كزماننا هذا الذي انتشر فيه الوعي بحمد الله في أجيالنا وكثر المتكلمون والكتاب والطباعات وانتشرت القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فانتقلت قضية الحسين (ع) من المجالس المتواضعة عقيب صلاة الفجر وفي السراديب المظلمة خوفا من الطغاة إلى ذكر يشع في الآفاق وتتناقله الصحف والقنوات وتعج به وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يوجد قائد في الشرق أو الغرب لم يسمع بالحسين (ع) وثورته المباركة، وأنه الإسلام المتحرك الصارخ المدوي، حتى لقد امتلأت مكتبة الفاتيكان بالكتب التي تناولت سيرة الحسين (ع) وثورته، لأنه قد علموا من هو الحسين (ع) وعظيم ما قام به هو أهله.
ولم يكن أهل المدينة يعتقدون أو يتعاملون مع الحسين (ع) باعتباره سبط النبي (ص) وابن أمير المؤمنين (ع) وإمام مفترض الطاعة وأنه ينبغي أن يكون سلما لمن سالم وحربا لمن حارب، فلم يكن قد تبلو هذا المفهموم في أذهانهم، ولهذا قام الأئمة (ع) وعلى رأسهم الإمام الباقر والإمام الصادق (ع) بتبيين هذه المفاهيم وتحديد ملامحها، ولذلك تلاحظ أن الإمام الباقر (ع) قد أمر أن يندبنه النساء عشر سنين في منى بعد استشهاده، وكان دأب الأئمة الحث على إقامة مجالس الحسين (ع) وكانوا يغدقون على شعراء أهل البيت (ع) ويعدون بالشفاعة كل من يقيم له مأتما أو يذرف له دمعة، ويبدو ذلك جليا في حديث الرضا (ع) حيث يقول: (فَعَلَى مِثْلِ اَلْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ فَإِنَّ اَلْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ اَلذُّنُوبَ اَلْعِظَامَ)[٧]، ولقد قام الأئمة (ع) بترسيخ هذه المفاهيم فكريا في أذهان أتباعهم بالإضافة إلى أحاطتها بهالة من العاطفة لتستقر في النفوس، فلم نعهد شخصية في التاريخ حظيت بأفضل أنواع الرثاء وأنشد فيها الشعراء بمثل ما أنشدوا في الحسين (ع) ولم يتمحور الأدباء والمفكرون والسياسيون والمحبون حول شخصية كالحسين بن علي (ع).
حب الدنيا، من أسباب الخذلان والهروب من الجهاد
ولم يكن ضعف البصيرة السبب الوحيد لخذلان الخاذلين؛ فقد نستشف من بعض الرسائل التي أرسلت إلى الإمام وجود نسبة من الوعي في الأمة ولاسيما قياداتها والتي منها: (أَنْ قَدْ أَيْنَعَتِ اَلثِّمَارُ وَاِخْضَرَّ اَلْجَنَاب ُ وَإِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ)[٨] إلا أن حب الدنيا غلب عليهم وكانوا قوما ضالين، فعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (حُبُّ اَلدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ)[٩]، وقد اعتبر القرآن الكريم حب الدنيا العامل الرئيسي في التخلف عن الجهاد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)[١٠]، وينبغي للمؤمن أن يدعو الله عز وجل أن يثبته عند ظهوره إمامه (عج)؛ فقد يكون على مستوى جيد من الوعي والتنظير إلا أنه قد يتخاذل عند دعوة الإمام له للجهاد بالسيف وبذل الدم والمال، وقصة الرجل الصابوني الذي أذن له في لقاء الإمام (عج) وفي أثناء الطريق مطرت السماء فانشغل فكره في أثناء توجهه للقاء الإمام (عج) بالصابون الذي قد نشره على سطح منزله وأنه سيذوب بهذا المطر، فحرمه الإمام من اللقاء وقال: دعوه فإنه رجل صابوني، ولكل منا ما يتعلق به في هذه الدنيا.
قوة يقين أصحاب الحسين (ع)
ومن أسباب الخذلان ضعف اليقين، فقد كان البعض في زمان الإمام الحسين (ع) له نسبة من الوعي ويحب الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا أنه لم يكن على يقين من أمره كما كان أصحاب الحسين وأهل بيته (ع) الذين قال عنهم الحسين (ع): (اَللَّهُمَّ إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلاَ أَزْكَى وَلاَ أَطْهَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَلاَ أَصْحَاباً هُمْ خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِي)[١١]، ولم يكن ليعطيهم الإمام هذا الوسام إلا من بعد ما تأكد من صدق نياتهم وقوة يقينهم حتى قال أحدهم: يا ابن رسول الله لو خيرنا بين الفناء معك والبقاء مع غيرك لآثرنا الفناء معك، وقد كان أحدهم يمزح مع أخيه فقال له أهذا وقت مزاح؟ قال له: ولم لا نمزح وما هي إلا لحظات ونعانق حور العين؟ وهذا درس للمؤمن أنه يتبع رضوان الله عز وجل في إقدامه وإحجامه ولا يعبأ بالمكاسب الظاهرية؛ فإن شاء سبحانه عجلها وإن شاء أخرها.
التأسي بالحسين (ع) وأخذ العبر من سيرته
وينبغي لنا أن نأخذ العبر من حياة الإمام الحسين (ع) كما نستثير العبرة ونجريها عليه، ومن العبر العمل بالتكليف الإلهي كيفما كان، فنحن نعلم أن الإمام (ع) لم يكمل حجه وقد عبر عن ذلك الشاعر في قوله بهذه الأبيات التي نرددها في حجنا وعمرتنا:
وَقَــد اِنــجَــلى عَـن مَـكـة وَهـوَ اِبـنُهـا وَبَهِ تَـــشـــرَّفـــت الحَـــطـــيـــمُ وَزَمــزَم
لَم يَــدر أَيــنَ يــريــح بُــدنَ ركــابــه فَـــكـــأنَّمــا المَــأوى عَــلَيــهِ مــحــرَّم[١٢]
هذا والإمام كان قد خرج قبل فترة من المدينة إلى مكة وهو ينتظر موسم الحج، ولكن الأمر الإلهي والتكليف مقدم على كل شيء عند الإمام (ع)، وهذا ما نتعلمه نحن من سيرته؛ فإن الإنسان يحب أن يكمل عبادته وورده ولكن يعرض عن ذلك إذا رأى أن الأولوية تقتضي منه عبادة أخرى؛ فلو تعارضت الصلاة المستحبة مع خدمة الوالدين يقدم خدمة الوالدين عليها، ولو تعارض حجه المستحب مع ذي فاقة من الأرحام أو المؤمنين يحتاج إلى مال يسد به فاقة أو أعزب يعينه على زواجه لقدم هذا على تلك، وقد قال سبحانه لإبليس حينما رفض السجود لآدم واقترح على الله عبادة أخرى في مقابل أن يعفيه من السجود: (لاَ حَاجَةَ لِي إِلَى عِبَادَتِكَ إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُعْبَدَ مِنْ حَيْثُ أُرِيدُ لاَ مِنْ حَيْثُ تُرِيدُ)[١٣].
وينبغي لنا أن نلتفت إلى أن البكاء على الحسين (ع) ليس من قبيل بكائنا على فقد متاع من متع الدنيا أو عزيز من أعزتها، وإنما البكاء عليه هو حصيلة عملية فكرية وشعورية من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي المرحلة الفكرية وهي الاعتقاد بالحسين (ع) ثم تأتي المرحلة الشعورية وهو الإحساس بعظمة هذا الإمام (ع) ثم تأتي المرحلة الجوارحية وهي ظهور هذه المشاعر على الجوارح من البكاء وما شابه ذلك من مظاهر الحزن، ولو أردنا أن نبين ذلك قرآنيا لضربنا مثلا ما حدث لنسوة مصر الذين أغرموا بالنبي يوسف (ع) وما جرى لهن، وإن كانت الآية بحسب الظاهر لا تربط بهذا الحديث إلا أنها من الآيات التي تحتوي على قاعدة من قواعد السلوك إلى الله عز وجل، يقول سبحانه: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)[١٤]، لقد سمع نسوة مصر وصف يوسف من زليخا ولكن هذا الوصف لم يكن كافيا ليقطعن أيديهن ولكن عندما رأينه واستحال العلم يقينا أكبرنه في صدورهن وشعرن بعظمته ثم قطعن أيديهن وهو العمل الجوارحي الذي بدر منهن، وهنا نحن نسمع بالحسين (ع) ونؤمن به وإن كان إيماننا هذا إيمان بسواد على بياض بحسب وصف النبي (ص) لإيمان أهل آخر الزمان، ثم نستشعر عظمته ومن بعدها تفيض الجوارح بما تفيض به من الحزن والأسى والبكاء وإلا فإن الدمعة التي تجري من دون فهم عميق ولمجرد التأثر بظلامة الإمام قد لا تؤتي أكلها.
والبكاء على الحسين (ع) موقف بذاته، فالمؤمن بدموعه هذه يعلن موقفه من الحق وبرائته من قتلتة الحسين (ع)، ولو لاحظنا زيارة عاشوراء لرأينا كمية اللعن على من نصب الحرب وظلم محمدا وآل محمد (ع)، وينبغي للمؤمن أن يحافظ على موقفه هذا وأن يسلك سبيل الحسين (ع) ويحمل شعاره الذي خرج من أجله: (وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلاَ بَطِراً وَلاَ مُفْسِداً وَلاَ ظَالِماً وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ)[١٥] وألا يتشبه بأخلاق أعدائه يزيد وأعوانه ومن هم على شاكلته.
ومن الدروس التي نستفيدها من ثورة الحسين (ع) هو محاولته (ع) إتمام الحجة على أعدائه قبل القتال من خلال الخطب والبيانات، ولقد أثرت إحدى هذه الخطب على الحر مما جعلته يتراجع عن موقفه ويلتحق بالإمام (ع)؛ فقد طلب التوبة من الله عز وجل لإرعابه بنات رسول الله (ص) وحاول أن يصفى حسابه مع الله سبحانه بقول: (الله إليك أنيب فتب علي)، ثم أتى الحسين (ع) بحالة منكسرة وقال: هل لي من توبة يا ابن رسول الله؟ فقال له الإمام (ع): نعم تاب الله عليك، وهكذا أنقذ الإمام إنسانا من النار وهكذا كان دأبه منذ خروجه من مدينة جده المصطفى (ص) يحاول تثقيف الأمة وبث الوعي في أوساطهم وإخراجهم من ضلالتهم حتى آخر لحظة من حياته الشريفة.
ذكر المصيبة
وفي موقف آخر يطلب الحسين (ع) من أخيه العباس أن يفاوض الأعداء ويؤخرهم ليلة: (اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى اَلْغُدْوَةِ وَتَدْفَعَهُمْ عَنَّا اَلْعَشِيَّةَ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا اَللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُحِبُّ اَلصَّلاَةَ لَهُ وَتِلاَوَةَ كِتَابِهِ وَاَلدُّعَاءَ وَاَلاِسْتِغْفَارَ)[١٦]، ومن هذه الرواية وأمثالها نعرف قيمة الدم الذي سفك في كربلاء يوم العاشر من محرم؛ فالإمام لا يبالي بالموت ولم يطلب الاستسلام وإنما أراد أن يتزود ليلة أخرى من ذكر ربه عز وجل.
ومن المواقف التي تستحق منا الوقوف عليها طويلا ما جرى بين مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر، هؤلاء الأصحاب الذين ذابوا في الحسين (ع) فأصبحوا يهتدون بهديه ويسيرون على نهجه، فقد قال حبيب لمسلم لما دنى أجله: يعز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال له مسلم: بشرك الله بالخير، ثم قال حبيب: لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك، فقال مسلم: أوصيك بهذا وأشار للحسين (ع) فقاتل دونه حتى تموت، ولقد كان همهم الحسين (ع) حتى في لحظاتهم الأخيرة.
ومن المواقف العظيمة ما جرى بين جون مولى أبي ذر وبين الحسين (ع)، فقد نقل أصحاب المقاتل: (ثمّ تقدّم جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ وكان عبدا أسود، فقال له الحسين عليه السّلام: أنت في إذن منّي فإنّما تبعتنا طلبا للعافية فلا تبتل بطريقنا، فقال: يا ابن رسول اللّه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدّة أخذلكم، واللّه إنّ ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم ولوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنّة، فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ وجهي، لا و اللّه لا افارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود مع دمائكم)[١٧].
ومن أصحابه سويد بن عمرو فقد روي أنه: (تقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع وكان شريفا، كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى سقط بين القتلى وقد اثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك، حتّى سمعهم يقولون: قتل الحسين عليه السّلام فتحامل وأخرج سكّينا من خفّه وجعل يقاتل حتّى قتل)[١٨].
وإذا كان هذا حال أصحابه فكيف بأهل بيته من بني هاشم، كالعباس وعلي الأكبر الذي كان أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسول الله (ص)، وأما القاسم بن الحسن (ع) فقد خرج: (وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم، فلمّا نظر الحسين عليه السلام إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما، ثمّ استأذن الحسين عليه السلام في المبارزة، فأبى الحسين أن يأذن له، فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له، فخرج ودموعه تسيل على خدّيه، وهو يقول:
إن تنكروني فأنا فرع الحسن سبط النبيّ المصطفى و المؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهن بين اناس لا سقوا صوب المزن
وكيف لا يبكي عليه الحسين (ع) وهو بقية أخيه الحسن المظلوم (ع) الذي قال للحسين (ع): لا يوم كيومك يا أبا عبدالله.
(وكان وجهه كفلقة القمر، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل – على صغره – خمسة وثلاثين رجلا. قال حميد: كنت في عسكر ابن سعد، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص و إزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما. فقال عمرو بن سعد الأزديّ: واللّه لأشدّنّ عليه. فقلت: سبحان اللّه! وما تريد بذلك؟ واللّه لو ضربني ما بسطت إليه يدي، يكفيك هؤلاء الّذين تراهم قد احتوشوه. قال: واللّه لأفعلنّ، فشدّ، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه، ونادى: يا عمّاه. قال: فجاءه الحسين كالصقر المنقض فتخلّل الصفوف، وشدّ شدّة الليث الحرب فضرب عمرا قاتله بالسيف فاتّقاه بيده فأطنّها من المرفق، فصاح فتنحّى عنه، وحملت [خيل] أهل الكوفة فاستنقذوه من يد الحسين، فوقف الحسين على رأس الغلام وهو يفحص [برجليه]، فقال الحسين: يعزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ولا ينفعك، بعدا لقوم قتلوك. ثمّ احتمله، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي: ما يصنع؟ فجاء حتّى ألقاه بين القتلى من أهل بيته. ثمّ قال: اللّهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا، صبرا يا بني عمومتي، صبرا يا أهل بيتي، لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا)[١٩].
ولقد كان الحسين (ع) يستعد لمصيبة أكبر، إلا وهي مصيبة أخيه العباس (ع)، فلقد استأذن الحسين (ع) للقتال بعدما رآه وحيدا فريدا، وكان الأمر أوشك على نهايته، قتل الأصحاب وقتل من قتل من بني هاشم، فبكى الحسين (ع) بكاء شديدا وقال: أنت صاحب لوائي، وصاحب اللواء يؤخر للحظات الأخيرة وإذا مضيت تفرق عسكري، ولكن هل كان يقبل بذلك العباس وقد ضاق صدره وسئم الحياة ولم يدع له بكاء الأطفال راحة وقد زادوا قلبه حرقة وغصة، فطلب الحسين (ع) أن يطلب الماء لهؤلاء الأطفال قبل أن يذهب للقتال.
قصد الفرات وكشف عنه أربعة آلاف من الجيش كانوا موكلين عليها حتى ورد المشرعة، ثم وضع في كفه الماء ليشرب ولكنه تذكر عطش الحسين (ع) فرمى الماء على الماء، وهذا سر من أسرار خلوده صلوات الله عليه.
وبقي الحسين (ع) وحده وكان قد باشر القوم بنفسه ووقف ليستريح ساعة وقد ضعف عن القتال، وبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، تلك الجبهة التي لطالما سجدت لله عز وجل وتلك الجبهة التي كان النبي (ص) وأمير المؤمنين والبتول (ع) يقبلوها وإذا بها تصبح هدفا للحجارة، رفع ثوبه ليمسح الدم عن وجهه فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب، وكأنه السهم الذي ادخره القضاء والقدر للحظات الأخيرة، فما سمعنا بهكذا سهم قبل هذا، فوقع السهم في صدره الشريف ثم قال قولته الشهيرة: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله (ص)، وكان قد احتار في كيفية التعامل مع هذا السهم فقد كان يمنعه عن القتال، فأخرجه من قفاه وجعل الدم يتدفق كالميزاب، فوضع يده تحته فلما امتلأت رمى بها نحو السماء.
ثم استعد للقاء الله عز وجل، وقال: هكذا ألقى جدي وأنا مخضب بدمي، صبرا على قضائك يا إلهي، وهكذا التقى الحسين ربه ولسان حاله يقول:
إلهي تركتُ الخلق طُرًّا في هواكَ وأيتمْتُ العيالَ لكي أراكَ
فلو قطَّعتَني بالحبّ إرْباً لَما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
وقع في الميدان، تقول الرواية: أنه أخذ يكبو على ركبتيه ولم يبقى منه إلا الرمق وهو ينظر إلى خيامه وينادي يا قوم اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي، وساعد الله قلب ولد الحسين (ع) الإمام السجاد (ع) حينما أصدر الأمر لعمته وحرم رسول الله (ص) بالفرار، صلوات الله عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.
[٢] الکافي ج٢ ص٤٣٥.
[٣] أبوالعلاء المعري.
[٤] إعلام الوری ج١ ص٤٥٥.
[٥] مفاتيح الجنان
[٦] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٢٧.
[٧] المناقب ج٤ ص٨٦.
[٨] الإرشاد ج٢ ص٩٥.
[٩] غرر الحکم ج١ ص٣٤٨.
[١٠] سورة التوبة: ٣٨.
[١١] الأمالی (للصدوق) ج١ ص١٥٠.
[١٢] جعفر الحلي.
[١٣] بحار الأنوار ج١١ ص١٤١.
[١٤] سورة يوسف: ٣١.
[١٥] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٢٧.
[١٦] الإرشاد ج٢ ص٨٧.
[١٧] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٦٥.
[١٨] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٦٧.
[١٩] تسلیة المُجالس ج٢ ص٣٠٤.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- قد يستغرب البعض من عظمة ثواب البكاء على الحسين (ع) والاستغراب في محله إذا نظرنا إلى قضيته نظرة تاريخية؛ باعتباره مظلوما أو شهيدا من شهداء الإسلام ولكن القضية أعمق من هذا بكثير فلقد بكته السماوات والأرض حتى نقل عن العامة أنه لم يرفع حجر بعد حادثة عاشوراء إلا ووجد تحته دما عبيطا.
- ولم يكن أهل المدينة يعتقدون أو يتعاملون مع الحسين (ع) باعتباره سبط النبي ص وابن أمير المؤمنين (ع) وإمام مفترض الطاعة وأنه ينبغي أن يكونوا سلما لمن سالم وحربا لمن حارب، ولهذا قام الأئمة ع وعلى رأسهم الإمام الباقر والإمام الصادق (ع) بتبيين هذه المفاهيم وتحديد ملامحها.
- ينبغي لنا أن نلتفت إلى أن البكاء على الحسين (ع) ليس من قبيل بكائنا على فقد متاع من متع الدنيا أو عزيز من أعزتها، وإنما البكاء عليه هو حصيلة عملية فكرية وشعورية من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي المرحلة الفكرية وهي الاعتقاد بالحسين (ع) ثم تأتي المرحلة الشعورية وهو الإحساس بعظمة هذا الإمام (ع) ثم تأتي المرحلة الجوارحية وهي ظهور هذه المشاعر على الجوارح من البكاء وما شابه ذلك من مظاهر الحزن.