قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وآله- بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر.. قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟.. قال: جهاد النفس.. ثم قال: أفضل الجهاد، من جاهد نفسه التي بين جنبيه).. ما هو السر في أن الجهاد الأصغر، أطلق على الحرب، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر؟..
أولاً: في الجهاد الأصغر العدو واضح المعالم، بإمكان الإنسان أن يشخصه ويهرب منه أو يهاجمه.. أما الجهاد الأكبر: فهو مع موجودين غير مرئيين: النفس، والشيطان؛ {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.. وكذلك النفس التي هي أقرب الأشياء إلينا؛ من عرف نفسه فقد عرف ربه، فإننا لا نراها.. ليس هناك إنسان رأى وجهه حقيقة؛ فكيف بنفسه؟!..
ثانياً: الجهاد الأصغر جهاد مقطعي.. حروب الجاهلية كانت حروبا طويلة؛ كحرب البسوس وغيرها.. أما حروب الإسلام، وحتى حروبنا هذه الأيام، هي حروب مقطعية تستمر لعدة أيام وتنتهي.. بينما جهاد النفس، الجهاد الأكبر يبدأ مع البلوغ، وينتهي بموت الإنسان.. إذ لابد للإنسان في كل يوم من مجاهدة نفسه.. فإذن، إن مجاهدة النفس فيها أمد طويل، ومحاربة الأعداء فيها أمد قصير.
ثالثاً: الحرب مع العدو إذا كانت شرعية، فالنتيجة هي إحدى الحسنيين: إما الظفر، وإما الشهادة في سبيل الله.. بينما الحرب مع النفس: إذا خسر الإنسان في هذه المعركة؛ معنى ذلك خسران الأبد.. فالذي يهزم أمام العدو هو شهيد، أما الذي يهزم في معركة النفس، ليس فقط ليس بشهيد؛ بل إنسان خاسر، وإنسان مسكين وفقير.
فإذن، إن الفروق مخيفة جداً بين الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر!..
ما معنى جهاد النفس؟..
أي أن يقف الإنسان أمام النفس في مرحلتين:
المرحلة الأولى لازمة.. الجهاد الواجب: أن يقف الإنسان أمام نفسه في الحرام، فإذا قيل له: هذا لا يجوز، يقف فوراً ودون تردد!.. من يشتكي النساء السافرات هذا على شفا حفرة، والحال أن المؤمن يجب أن لا تأتيه الشهوة أصلا، ولا يرى أن هناك أي إغراء في البين.. فإذن، إن المؤمن أمام الحرام لا يحتاج إلى جهاد.
المرحلة الثانية مفضلة.. الجهاد المفضل: بعض الأوقات الإنسان تنازعه نفسه إلى أشياء محللة، ولكن ذلك قد يقلل من شأنه، مثلا: إنسان جالس على مائدة، وأمامه طعام قليل؛ وهناك طعام شهي على بعد مسافة؛ فهل المؤمن يمد يده إلى ذلك الطعام؟.. والحال أنه يستحب للمؤمن أن يأكل مما يليه.. هذا أيضا جهاد نفس!.. (وضع خوان من فالوذج بين يدي أمير المؤمنين (ع)، فوجأ (أي ضرب) بإصبعه حتى بلغ أسفله، ثم سلّها ولم يأخذ منه شيئاً، وتلمّظ (أي تذوّق) بإصبعه وقال: طيب طيب وما هو بحرام، ولكن أكره أن أُعوّد نفسي بما لم أُعوّدها).. وعن الصادق (ع): (أنه مدّ يده إليه ثم قبضها، فقيل له في ذلك، فقال: ذكرت رسول الله (ص) أنه لم يأكله، فكرهت أن آكله).. وعن الصادق (ع) أنه قالوا له: تحرّمه؟.. قال: (لا، ولكن أخشى أن تتوق إليه نفسي)، ثم تلا: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.. فإذن، لا بأس بالمؤمن بين وقت وآخر، أن يحرم نفسه اللذة المحللة؛ ليستولي على نفسه كاملة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.