تفسير الآيات الأولى من سورة تبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات الأولى من سورة تبارك
قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)[١].
ما هو معنى تبارك وكيف يكون المؤمن مصدر البركة؟
إن كلمة (تبارك) هي وصف لله عز وجل وتعني الرب الذي تصدر منه البركات الكثيرة، وهي من الصفات التي ينبغي للمؤمنين التأسي بها كما كان ذكر القرآن الكريم هذه الصفة لنبي الله عيسى (ع) حيث قال: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[٢]. ووجود المؤمن وجود مبارك ومثمر أينما حل ونزل لأنه مرتبط بمصدر البركة وهو الله سبحانه. وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (ع): (وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ اَلْخَيْرَ)[٣]؛ وهو دعاء يطلب فيه المؤمن أن يكون مصدرا من مصادر الخير والبركة وسببا من أسباب نزول البركات على الناس. ولذلك فإن المؤمن يطمح دائما في الحصول على أعلى المراتب؛ فإن لم يكن نبيا أو وصيا أو عالما أو مرجعا؛ فليكن ممن يفرج الله عز وجل بهم عن المؤمنين.
بيده الملك
وأما قوله سبحانه: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) فهو تعبير بليغ عن سعة ملكه سبحانه وتعالى. وقد عبر سبحانه في كتابه عن ذلك بعبارات مختلفة كقوله: (لَهُ الْمُلْكُ)[٤] وقوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[٥] وغيرها من التعابير؛ إلا أن هذا التعبير هو من أبلغ التعابير في إثبات الملكية لله سبحانه وكأن الملكية والحكومة والسلطة والسيطرة والقدرة بيده سبحانه وتعالى.
فأيهما أبلغ في التعبير؛ أن يقال: فلان طبيب أو ماهر في الطب أو له علم الطب أو بيده علم الطب؟ فبلا ريب أن تعبير بيده الطب أبلغ في إثبات قدرته ومهارته في علم الطب. فبعد ما تبين من سعة ملكه سبحانه فلماذا يتجه العباد إلى الملوك ولا يتجهون إلى من بيده الملك ومن يستطيع أن يسخر له قلوب الملوك كما سخر قلب فرعون لألد أعدائه ولمن كان حتفه على يديه؟
لماذا قدم سبحانه خلق الموت على خلق الحياة؟
وفي قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) إشارة إلى أن الله قد خلق الموت كما خلق الحياة. وهو بخلاف ما يعتقد الكثير؛ أن الموت هو فناء وعدم واستحالة إلى تراب؛ بل إنه سبحانه بذكره للموت قبل الحياة يبين أن الموت أشرف من الحياة فهو انتقال إلى دار الجزاء وحصاد الثمار. أفهل تكون ساعة الامتحان أحب إلى الطالب المجتهد أم ساعة استلام الجوائز والحصول على الشهادة في قاعة الاحتفال؟ وهذا هو حال المؤمن الذي ينتقل إلى قاعة الاحتفال لنيل الجائزة من الله سبحانه فهو أشوق إلى الموت منه إلى الحياة. ومن هنا نفهم قول أمير المؤمنين (ع) عندما قال: (وَاَللَّهِ لاَبْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ اَلطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ)[٦]؛ فهو يقسم بالله عز وجل لأنه شيء لم يألفه من الناس أحد على وجه البسيطة..!
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.. لم يقل: أيكم أكثر عملا؟.. فالحسن في العمل، أي إذا أردت أن تأتي بعمل، عليك أن تأتيه بأحسنه.. هب أن إنسانا له عبيد وجواري، فأمرهم أن يأتوه بالزهور من الحديقة.. فإذا بعبد يأتيه بطنٍّ من الزهور الذابلة مع الحشائش والأشواك، فإن هذا الكم من الزهور سيكون مصيره سلة المهملات!.. وإذا بعبد آخر يأتيه بوردة فواحة واحدة، تفتح قلب السيد من رائحتها، فيعتقه.. كما فعل الإمام الحسن عليه السلام، عندما جاءت الجارية بطاقة ريحان.. نعم، قد يأتي العبد يوم القيامة ولا عمل له.. ولكن عنده موقفا جميلا واحدا، فينجي.. إن بنات شعيب (ع) قدموا لله عز وجل عملا جميلا.. وربما كانوا عابدات قائمات.. لكن الله تعالى ركز على صفة وهي: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء}.. فهذا الوصف خُلد في القرآن الكريم.
وفي قوله سبحانه: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) بين أن حسن العمل خير من كثرته؛ فلم يقل تعالى: أيكم أكثر عملا. وإذا أراد العبد أن يأتي بعمل يلاحظ حسن العمل لا كثرته. فلو أن لأحد عبيد وجوار وأمرهم بأن يأتوا له بالزهور من بستانه فأيهما أحب إليه أن يؤتى له بطن من الزهور الذابلة المختلطة بالحشائش أم يؤتى له بزهرة واحدة فواحة يفتح لها قلبه ويأنس برائحتها؟
ولقد أعتق الإمام الحسن (ع) جارية بطاقة من الريحان قدمته له. وقد يأتي العبد يوم القيامة خالي الوفاض من الأعمال إلا موقف واحد يستحق عليه رضوان الله والجنة. ولقد خلد سبحانه ذكر ابنتي شعيب لصفة جميلة كانت فيهما وهو قوله سبحانه: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[٧].
ماذا لو عجزت عن فعل الخيرات؟
والمؤمن لا يصيبه اليأس إن عجز عن فعل الخيرات والإنفاق في سبيل الله؛ فالمهم هو أن يقدم أحسن الأعمال وإن كانت في ظاهرها بسيطة؛ فإن هذا الأعمال مما يتقبلها الله تعالى. إن بعض ملوك الجور من بني أمية وبني العباس قد فتحوا البلاد ومصروا الأمصار، ولكن الله عز وجل لم يكن ليتقبل ذلك منهم وهم حكام جور غاصبين لم يقصدوا بأي فعل وجهه سبحانه. ولكن في المقابل نرى عليا وفاطمة والحسن والحسين (ع) وفضة الخادمة الملحقة بهم، قد قدموا خبزا في سبيل الله تعالى، فكتب الخلود لذلك ونزلت فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
هلى ترى خلل في هذا العالم؟
وأما قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) فهو بيان لانسجام ما في العالم وخضوعه لأوامره تعالى وأنه لا يتخلله أي نقص أو خلل. بل يتحدى الله سبحانه الخلق بالنظر مرارا وتكرارا للعثور على أي خلل فيه بقوله سبحانه: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)[٨]. ولكن الخلل كل الخلل في سلوك ابن آدم وعمله حتى وصل الأمر به أي يوبخه الله عز وجل بهذا التعبير اللاذع لكفره وهو قوله: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)[٩]. وهو الذي تحمل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال حتى قال عنه سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[١٠]
إن الدرس العملي الذي نستفيده من هذه الآيات هو أن ننسجم مع الوجود ومع الكواكب والمجرات الممتثلة لأمر الله عز وجل وألا نشذ عنها في الانقياد إلى الله عز وجل حتى نصل وإياها إلى الكمال المنشود.
خلاصة المحاضرة
- إن الله سبحانه قد أكد في مستهل سورة تبارك على أن حسن العمل هو ملاك قبول العمل لا كثرته. ولا يضر المؤمن إذا أتى الله سبحانه في يوم القيامة وليس معه من الأعمال الكثير فهو يقبل القليل ولكن الشرط فيه أن يكون حسنا خالصا لوجهه.