تربية الأبناء في طريق المشاية
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد لك بالتسليم
عندما يزور الصادق (ع) العباس (ع) ويقول في زيارته: (أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْلِيمِ وَاَلتَّصْدِيقِ وَاَلْوَفَاءِ وَاَلنَّصِيحَةِ لِخَلَفِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ اَلْمُرْسَلِ)[١]؛ فهذه الشهادة هي شهادة معصوم يحكي الواقع بكل تفاصيله. ولو لم تكن هذه الشهادة هي شهادة تعبر عن الحقيقية لما نطق بها المعصوم. وهي تختلف بالتأكيد عما نتشهد به نحن. إننا عندما نتشهد قائلين: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لابد وأن نوحده في العمل أيضا ولكنن لا نفعل ذلك؛ إذ نجعل الهوى وحبنا للدنيا لله شريكا.
إن التسليم على درجات؛ فهناك تسليم خارجي. فقد يأمر القائد العسكري جنوده فيسلمون لأوامره إما خوفا من العقاب وإما طمعا بالغنائم. وهناك تسليم ذاتي يكون عن حب وشوق. وهذا ما نلحظه في أرجوزة العباس (ع):
إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
وهذا هو ما جعل العباس (ع) يفدي أخاه بنفسه؛ لأنه إمام يُقتدى به ويُؤتمر بأوامره. لقد كان هذا التسليم نابعا عن يقين باطني ولهذا من أوصاف العباس (ع) نفوذ البصيرة، والوفاء بالبيعة. لقد وصف الحسين (ع) أصحابه بالأبر ولكنهم كانوا في درجاتهم مختلفين وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلافهم في التسليم الباطني. لقد كان في أصحاب الحسين (ع) كالعباس (ع) وكان فيهم غلام وظيفته الخدمة؛ ولكنه حول في يوم عاشوراء الخدمة إلى تضحية. وكان فيهم العوسجي القائل: (وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُحْرَقُ ثُمَّ أُذَرَّى يُفْعَلُ بِي ذَلِكَ سَبْعِينَ مَرَّةً مَا تَرَكْتُكَ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ)[٢]. وإن كنا نعتقد أنهم انصهروا في يوم عاشوراء جميعهم في بوتقة واحدة وهي بوتقة الحسين (ع). لقد حصلوا جميعهم على وسام موحد وإن كانوا مختلفين في درجات التسليم.
وبذلك يكون أقرب الناس إلى العباس (ع) وإلى الحسين (ع) وإلى الله عز وجل هو ذلك الذي يملك هذه الحالة من التسليم. وقد قال سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجࣰا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمࣰا)[٣]. وهذا التسليم هو التسليم القلبي لا العملي اضطرارا؛ كالذي يذهب إلى الحاكم الشرعي لخلاف مادي بينه وبين أخيه، فيحكم لصالح أخيه، فيرى في قلبه حزازة من الحكم ولكنه يُسلم لأنه لا يملك خيارا آخر.
تسليم الرضا (عليه السلام)
إن من مناسبات شهر صفر والتي قل من يلتفت إليها في هذا الشهر انشغالا منهم بالزيارة الأربعينة؛ استشهاد الرضا (ع) بحسب بعض الروايات. إن المحنة التي عاشها الرضا (ع) لم يعشها أحد من أئمة أهل البيت (ع)؛ فقد جيء به من المدينة موطن آبائه إلى خراسان التي كانت نهاية حدود الدولة الإسلامية في أقصى البلاد في ذلك الزمان. وقد قطع الإمام (ع) هذه المسافة الشاسعة امتثالاً لما كتب الله عز وجل له، وهو يُشبه ذهاب أمير المؤمنين (ع) إلى مسجد الكوفة وهو يعلم أنه مقتول، ويُشبه مجيء الحسين إلى كربلاء وعلمه بأن فيها مقتله، وهذا قمة التسليم.
من الروايات التي تصف لنا شدة معاناته في تلك الديار ما روي أنه: (كَانَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ مِنَ اَلْجَامِعِ وَقَدْ أَصَابَهُ اَلْعَرَقُ وَاَلْغُبَارُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ – اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَرَجِي مِمَّا أَنَا فِيهِ بِالْمَوْتِ فَعَجِّلْهُ لِيَ اَلسَّاعَةَ وَلَمْ يَزَلْ مَغْمُوماً إِلَى أَنْ قُبِضَ)[٤]. كم كان ثقيلا على الرضا (ع) وهو إمام مفترض الطاعة؛ أن يرى عدوه وقاتله يرتقي المنبر؟ إنني للأعجب من عظيم صبر الإمام (ع) على هذه المحنة العظيمة. وقد اكتملت حلقات البلاء حيث لم يأذن الله له باصطحاب ولده الجواد (ع) ولا أحدا من أهل بيته كأخته فاطمة المعصومة (س)؛ فذهب وحيدا وعاش في تلك الديار غريبا ولذلك نقول له: يا غريب الغرباء. ولكنه رغم اشتداد المحن كان مسلما لله سبحانه حتى قضى شهيدا.
وما أجدر بالمؤمن أن يستثمر سهولة السفر في أيامنا، فيزور أئمته (ع)؛ خاصة في مناسباتهم. إن الرجل ينوي اليوم أن يزور إمامه (ع) فيقطع تذكرة فيكون عند إمامه في اليوم التالي. وعندما يصل المؤمن ويقف أمام ضريح الرضا (ع)؛ لا بأس أن يتشبه بدعبل الخزاعي الذي قرأ تائيته الشهيرة أمام الرضا (ع) حتى غشي عليه بحسب بعض الروايات. وقد أكرمه الإمام كرامة لا نظير لها وأعطاه ثوبه وأموالا. فإذا زرت الرضا (ع)؛ فاقرأ له هذه الأبيات وقل له: يا مولاي، لقد أبكاك دعبل بهذه الأبيات وأنت حي تسم كلامي وأريد أن أرثي جدك بهذه الأبيات:
أَ فَاطِمُ لَوْ خِلْتِ اَلْحُسَيْنَ مُجَدَّلاً
وإذا ذكرت موسى بن جعفر (ع) وأنشدته:
وَقَبْرٌ بِبَغْدَادٍ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ
ورق قلبك وأنت في هذه الحالة من النعي والرثاء وفي محضر الإمام (ع)؛ فاقطع بالإجابة واعلم أن الصفقة قد تمت والتجارة قد ربحت. وقل: يا مولاي، أعطيت دعبلا قميصك وأموالا؛ ولكن تكفيني منك نظرة كريمة.
بكاء الرضا (عليه السلام) على الحسين (عليه السلام)
ومن كلمات الرضا (ع) المشهورة قوله: (إنَّ يَوْمَ اَلْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا)[٥]؛ وقد ورد فيها تفسيران: لتفسير الأول هو أنه يعني بيوم الحسين (ع) يوم عاشوراء والأيام التي تسبقه وبكائهم في هذه الأيام هو الذي أقرح جفونهم. والتفسير الثاني هو أن يوم الحسين (ع) واستشهاده وما حل به وبأهل بيته وأصحابه أقرح جفونهم لأنهم يبكونه طوال العام. وهذا ما روي عن إمام زماننا (عج): (فَلَأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً وَلَأَبْكِيَنَّ لَكَ بَدَلَ اَلدُّمُوعِ دَماً)[٦]. ولا غرابة في البين بعد أن وجدنا كثيرا من المؤمنين في مختلف البلاد يبكون الحسين (ع) طوال العام؛ فما بالنا بالرضا (ع) وبإمام زماننا (عج)؟
ما هي الزيارة التجردية؟
الزيارة التجردية هي أن نحول المشي والأعمال الظاهرية التي نقوم بها في كل زيارة؛ إلى زيارة تأملية تفضي إلى معرفة الإمام (ع)؛ تلك المعرفة التي أكدت عليها الروايات كثيرا: عارفا بحقه. إن الزيارة الظاهرية هي كالصلاة التي تبدأ من التكبير وتنتهي بالتسليم إلا أنها تخلو من الإقبال والتوجه. لقد سمعت من بعض المنحرفين أنهم يتأملون في أوقات الصلاة ويكتفون بذلك عن إقامة الصلاة الظاهرية وهؤلاء من تاركي الصلاة وبئس العاقبة، عاقبتهم.
سياسة الدمج لا سياسية التعويض
إننا نؤكد دائما على سياسة الدمج لا سياسية التعويض. إن سياسة الدمج هي أن تجمع بين الصلاة الظاهرية وبين معراجية الصلاة؛ لا أن تتأمل بدل الصلاة الظاهرية. إن الصلاة الظاهرية هي القاعدة التي ينطلق المؤمن منها إلى معراجه. فلابد من أن نُتقن هذه الصلاة بتفاصيلها التي وردت في الكتب الفقهية أولا، ثم لا نكتفي بها وننطلق بها إلى ما هو أرقى. فالذي يفكر في كل شيء من التكبير حتى التسليم غير الله سبحانه؛ ففي صلاته خلل لابد من معالجته.
لابد وأن نحصل على ثمرة الصلاة التي ذكرها سبحانه في كتابه مخاطبا موسى (ع): (إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ)[٧]، واللام هنا قد تكون لام العاقبة أو لام التعليل أو لام الغاية أو ما شئت فعبر، وكلها تبين الهدف من الصلاة والثمرة المرجوة. عندما تقول: أيها الفلاح، ازرع الشجرة لآكل منها الثمرة؛ فالثمرة هي الغاية. لو زرعت ألف فسيل غير مثمر لم تصل إلى ما أردت.
زر الحسين (عليه السلام) لذكري…!
ويُمكن القياس على هذه الآية فنقول: زر الحسين (ع) لذكري. حول المشي والتعب البدني وما شابه ذلك إلى الطاعة؛ لأن من شروط الزيارة عرفان حق الإمام (ع) وأنه إمام مفترض الطاعة. متى يكون مفترض الطاعة؟ عندما تمتثل أوامره. إن المراد من عارفاً بحقه؛ تلك المعرفة المنتجة والمثمرة، والثمرة التقوى. وبتعبير العلماء هذه الزيارة التجردية في طول الزيارة الظاهرية لا في عرضها؛ وهما غير متقابلان وإنما مندمجان.
الصدقة المعراجية…!
فلابد من المشي ومن مراعاة الآداب الظاهرية. لقد حج الإمام الحسن (ع) ماشيا مرات كثيرة ولم يكتف بالتلبية وهو جالس في البيت. فكما أننا نحرص على الصلاة المعراجية لابد وأن نحرص على الصيام المعراجي والصدقة المعراجية. قد يقول قائل: وهل الصدقة تكون معراجية؟ نعم، فقد تدفع مالا للفقيه وأنت مدل عليه وتقول له: دفعت لك كذا وكذا وللفقير كذا ولكن المعراجية في الصدقة أن تعطي المال وتشعر بالتقصير لقوله سبحانه: (وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ)[٨]، لأنه يخشى غدا أن يسئل: من أين كسبت المال؟ هل دفعت ما عليك من الحق الشرعي؟ وأمثال ذلك من الأسئلة.
تأثير الآباء على الأبناء يكاد يقترب من الصفر…!
لو تأملنا في مانشيت الثورة الحسينية؛ لوجدنا أنه الإصلاح بكل أبعاده لما روي عن الحسين (ع): (إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ)[٩]. وإن أول ما يخطر على بال الكثيرين هو الإصلاح السياسي الذي كان يتمثل في إزالة حكم بني أمية وهو معنى صحيح ولكنه ليس كل المعنى؛ فإن الإصلاح الذي تحدث عنه الحسين (ع) يشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية أو الفردية. ولو وصلت هذه الذوات الطاهرة إلى سدة الحكم لارتقت البلاد ونفوس العباد، ولذلك ورد أن الحلوم تكتمل عند ظهور إمامنا (عج)؛ أي أن الناس يصبحون في درجة عالية من العرفان والمعرفة.
ومن الإصلاج؛ إصلاح الذرية والعمل على تنشئتهم تنشأة صالحة وهذا يتطلب وجود ارتباط قوي بين الوالد والولد؛ الشيء الذي نجده مفقودا تقريبا في زماننا هذا. فقد يستطيع الوالد أن يسيطر على ولده لحين البلوغ ولكنه بعد ذلك وعند دخوله الجامعة؛ يفقد هذه السيطرة تقريبا. إن الاختلاف الفكري بين الجيل القديم والجيل الحديث اختلاف كبير. إن الطفل في الرابعة أو الخامسة أصبح اليوم، يبحث في محركات البحث ويفهم ما يفهم.
ألق ولدك في بحر المشاية ودع الإصلاح لصاحب الإصلاح
إنني أوصي المؤمنين أن يطلبوا من الأئمة (ع) صلاح أولادهم. إنك والد تشعر بحرقة في قلبك لما تشاهده من انحرافات في أولادك، فخاطب الإمام خاصة إذا كنت من ذريته قائلا: يا مولاي، هذا ولدي منسوب إليك، وهو ابنك قبل أن يكون ابني وأنا عاجر أشد العجز عن تربيته وقد أوكلت أمره إليك. ولا تغفل عن طريق المشاية الذي رأينا فيه كرامات كثيرة؛ فاصطحب معك الأولاد وليروا في هذه الطريق المشلول الذي يسير بكل حب نحو الحسين (ع) أو الأطفال الذين يخدمون الزائرين بكل ود، ويتألمون إن أحد من الناس لم يأخذهم منهم ماء أو ما شابه ذلك. إنني أعجب من أطفال في سن البراعم يخدمون بكل وجودهم وأتسائل: من علمهم؟ هل درسوا في جامعة؟ يبدو أن حب الخدمة الحسينية مغروس في قلوب المؤمنين وهو كالبذور في باطنهم تستنبتها زيارة الأربعين.
إن الكبار قد يمثلون للإعلام وأمام الفضائيات؛ ولكن هذا الطفل الصغير ليس في مقام التمثيل أبداً. فإن وجود الأولاد في هذه الطريق هو مما يؤثر فيهم من دون شك. ولذلك نرى في هذه الزيارة الوافدين من جميع أنحاء العالم. ترى الرجل يأتي من بلاد الغرب أو من الولايات المتحدة هو وأولاده ويصرف آلاف الدولارات لأنه رأى تأثير هذه المسيرة على أولاده. وإذا رأيت الولد أو الزوجة تصر على الزيارة؛ فلا تستنكف ولا تقدم الأعذار، واستثمر الفرصة ماداموا هم من لهم هذا الميل؛ فهيئ لهم مقدمات السفر، فقد يتحقق في زيارتهم ما لا تحققه أنت من التربية والترقي والصلاح طوال عمرك.
خلاصة المحاضرة
- الزيارة التجردية هي أن نحول المشي والأعمال الظاهرية التي نقوم بها في كل زيارة؛ إلى زيارة تأملية تفضي إلى معرفة الإمام (ع)؛ تلك المعرفة التي أكدت عليها الروايات كثيرا: عارفا بحقه. إن الزيارة الظاهرية كالصلاة التي تبدأ من التكبير وتنتهي بالتسليم إلا أنها تخلو من الإقبال والتوجه.