بعض آداب التجارة التي لا ينبغي أن تجهلها
بسم الله الرحمن الرحيم
اهتمام الشريعة بمختلف جوانب الحياة
لم تغفل الشريعة عن شريحة من شرائح المجتمع إلا وبينت أحكامهم وما لهم وما عليهم. ومن هؤلاء التجار والكسبة والموظفون والعاملون في مختلف الأصناف. وكما اهتمت الشريعة بعلاقة الإنسان بربه، قد اهتمت بعلاقته بالطبيعة وعلاقته بالبشر. وعلاقة الإنسان في هذه الحياة إما مع الخالق وأما مع سوى الخالق، سواء كان جمادا كالطبيعة أو حيا كسائر البشر الذين يعيش معهم، وهذا التقسيم الثنائي حصري لا ثالث له.
وسنحاول في حديثنا هذا أن نتعرض إلى آداب التجارة وآداب العمل والوظيفة في الإسلام. إن العمل الوظيفي یدخل تحت عنوان الإجارة الشرعية وهي كما عرفها الفقهاء: معاوضة أو معاملة على المنفعة. فتارة يعامل الإنسان على منفعة شيء صامت كالدار والسيارة وما شابه ذلك، وتارة تكون المعاوضة على العمل، كالموظف والمهندس والطبيب والكاتب وما شابه ذلك من المسميات الوظيفية، أو كالبائع وهي كلها أمور تندرج تحت عنوان المعاوضة وهي نوع من أنواع الإجارة.
ويفهم من النصوص المروية عن أهل البيت (ع) أن التجارة محمودة في الشريعة، وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : (إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ اَلْمُحْتَرِفَ اَلْأَمِينَ)[١]. وكان النبي (ص) لا يحب الشاب الذي لم تكن له حرفة؛ وإذا علم بشاب غير محترف كان يقول: (سَقَطَ مِنْ عَيْنِي)[٢]. ولا ريب في أن السقوط من عين النبي (ص) يعني السقوط من عين الله عز وجل. ولا نعني بحديثنا إلا الذي أصبح عاطلا عن العمل باختياره لا الذي يبحث عن فرص العمل ويكد ويسعى فلا يجد.
منافع التجارة في المفهوم الإسلامي
وللتجارة أربع منافع أساسية؛ أولها؛ الاستغناء عن الناس. وقد روي أن الإمام الصادق (ع) كان يأمر أصحابه التجار بالذهاب إلى أعمالهم بقوله: (اُغْدُ إِلَى عِزِّكَ يَعْنِي اَلسُّوقَ)[٣]؛ أي كن عزيزا باستغناءك عن السؤال وصون نفسك وعيالك عن الاستجداء والطلب وحتى القرض لا يليق بالمؤمن إلا أن يضطر إليه اضطرارا.
التعامل مع الطبقات الاجتماعية المختلفة
من منافع التجارة؛ التعامل مع الطبقات الاجتماعية المختلفة، وذلك يكسب التاجر خبرة كبيرة في الحياة، فهو يتعامل مع الجاهل كما العالم ويتعامل من المعلم والمهندس والطبيب، ويتعامل مع الصبور كما المشاكس، ويتعامل مع الأمين والغاش، ويمكن أن يسخر هذه التجارب في خدمة أهداف عالية من قبيل جذب الناس إلى الدين، فهو أقدر من غيره على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما اكتسب من لباقة في السوق وحسن بيان. وبإمكانه من خلال مصاحبة المشتري أن يسوقه نحو المسجد والحج والدين.
القدرة على المناورة وإدارة الأزمات
ومن المنافع القدرة على المناورة وإدارة الأزمات. فقد يمر التاجر بظروف قاسية قد تجره إلى الإفلاس أحيانا ولكنه بالتوكل على ربه وببرمجة لوضعه وتجارته سرعان ما يستعيد عافيته. وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اَلتِّجَارَةُ تَزِيدُ فِي اَلْعَقْلِ)[٤]، لأنها تعلم الإنسان كيفية الخروج من المآزق والتدبير، ويرى بأم عينيه الألطاف الإلهية التي تحيط به، وقد قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[٥]، وقد رأينا تجارا أوشكوا على الإفلاس وإذا بمؤمن من المؤمنين يقرضهم مبلغا من المال ابتداء من غير مسألة منهم، فينتشله من واقعه.
إجالة الفكر وقدرة إدارة الأموال
من منافع التجارة وبركاتها؛ إجالة الفكر وقدرة إدارة الأموال. فالذي يستثمر الأموال الكبيرة ويفكر في كيفية مضاعفتها لا بد له أن يبذل جهدا فكريا من أجل ذلك، وهو ما أكدت عليه الروايات الشريفة من عدم تجميد الأموال حتى وإن أصبح التاجر ميسورا. فالتاجر يستمر في تجاراته بنية توظيف المؤمنين وقضاء حوائج المحتاجين إن استغنى بنفسه عن المال. فقد روي عن أحد الأصحاب قال: (شَهِدْتُ مُعَاذَ بْنَ كَثِيرٍ وَقَالَ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إِنِّي قَدْ أَيْسَرْتُ فَأَدَعُ اَلتِّجَارَةَ فَقَالَ إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ عَقْلُكَ أَوْ نَحْوَهُ)[٦]. فلا يضع أمواله في البنوك طمعا في الأرباح الميسرة من دون أن يعمد إلى التجارة التي تقوي تفكيره وتدبير.
الجسارة في التجارة
ومن الصفات المهمة التي ينبغي أن يتحلى بها التجار؛ الجسارة. فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اَلتَّاجِرُ اَلْجَبَانُ مَحْرُومٌ، وَ اَلتَّاجِرُ اَلْجَسُورُ مَرْزُوقٌ)[٧]، فلا بد من أن يدع القلق والخوف من المستقبل وما شابه ذلك جانبا، فيتوكل على الله سبحانه بعد أن يقوم بما ينبغي له من تهيئة المقدمات ومشاورة العقلاء ويباشر التجارة، وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ)[٨].
التفقه في الدين
من أهم وظائف التجار قبل التجارة، هو التفقه في الدين. فهنالك الكثير من المعاملات المحرمة التي ينبغي للمؤمن الاحتراز منها، من قبيل: شراء بطاقات اليانصيب، وهي شراء ورقة لاحتمال ربحها وهذه المعاملة هي معاملة باطلة في الإسلام، فالمؤمن لا يدفع المال إلا لمنفعة. وقد تقوم بعض المؤسسات الخيرية ببعض المشاريع الخيرية وتوزع على المؤمنين بطاقات من اشترى منها واحدة شارك في ذلك المشروع ثم توزع على المشاركين بعض الجوائز من خلال القرعة وذلك لا بأس به.
المعاملات الربوية
والمؤمن يحترز من القروض الربوية، وقد يكون الفرق بين البيع والربا فرقا طفيفا بحسب الظاهر إلا أن بينهما فرق شاسع في الحقيقة. فقد يدفع لك أحدهم مبلغا من المال لشراء سيارة ثم يربح نسبة مئوية على المبلغ الذي أعطاكه، وقد يبيعك سيارة بالأقساط ثم يربح من بيعه ما شاء، فقد يبدو أن في الظاهر متشابهين ولكن الله حرم هذا وحلل ذا. وذلك يشبه عجز البعض عن إجراء صيغة العقد بينه وبين امرأة وهي مجرد كلمات ولكنه يستحلها بها، ويرضى بالحرام والعياذ بالله. فالربا، قد يميزه عن البيع نية المؤمن وهي ما يعجز عنها البعض للأسف الشديد.
مستحبات التجارة
ولم تقتصر الشريعة على الواجبات بل أحاطت التجارة بأمور استحبابية حتى تصطبغ المعاملات بالصبغة الإلهية المقدسة، فيستحب للمؤمن أن يقول الشهادتين عند إجراء المعاملات والعقود، من شراء منزل أو دابة أو ما شابه ذلك، ويستحب التكبير أيضا لكي يتذكر الإنسان عظمة الله عز وجل وأنه المالك الحقيقي لهذا الوجود، إذ أنك في شرائك للمنزل أو الدابة لم تحدث شيئا في عالم الوجود سوى انتقال الملكية من زيد إلى عمر وإلا فإن الوجود يملكه الله سبحانه حقيقة.
غش المسلمين
من الأمور المحرمة في المعاملات؛ غش المسلمين. فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَنْ غَشَّ أَخَاهُ اَلْمُسْلِمَ نَزَعَ اَللَّهُ بَرَكَةَ رِزْقِهِ)[٩]، فللأسف هناك من يرى أن النجاح في زيادة الرصيد المصرفي ولكنه غافل عن أن البركة قد ترفع عن هذا الحساب فيصرف الألوف من الدراهم على مرض أو مصيبة ثم لا يسترجع تلك العافية. وقد سمعنا عن البعض ممن جمع من المال ما جمع بعد كد وجهد وتحمل المشاق وبعرق الجبين، ولكن خلف من بعدهم خلف اتبعوا الشهوات وركبوا بها المحرمات، واستثمروا تلك الأموال فيما لا يحل من الأعمال، وهذا مال منزوع البركة.
فمن صور الغش أن يوضع القمح الرديء تحت القمح الجيد أو يخلط القمح بالشعير لتشابههما وهو إخفاء المراد بغير المراد كما ذكر ذلك الفقهاء، او توضع الفاكهة الطازجة الشهية ويوضع تحتها ما ذبل من الفاكهة أو الفاكهة الرديئة، أو إظهار البضاعة بصورة غير واقعية؛ كأن ترش الفاكهة والخضار لتبدو طازجة وليست هناك.
ومن صور الغش ما ذكره الفقهاء – وهو يدل على دقتهم ونباهتهم رضوان الله تعالى عليهم – عن بيع البضاعة التي عيبها ظاهر ولكن المشتري يأخذها لثقته بك دون تفحصها وتقليبها، وهذا يدل على حرص الشريعة على سلامة التعامل في المجتمع الإسلامي.
من آداب التجاره
ومن سماحة الإسلام أنه يوصي المؤمنين بأن يستردوا البضاعة التي باعوها لللآخرين إن ندموا على شراءها، فقد تسوق لبضاعة كاسدة عندك تسويقا يجعل الآخرين يرغبون بها ثم قد يندم البعض منهم على ما اشترى منك، فلا بأس بأن تسترجع البضاعة، وجزاءك في الدنيا الثناء الجميل واتصفاك بالمروءة والإنسانية وأما جزاءك في الأخرى فقد بينه الإمام الصادق (ع) حيث قال: (أَرْبَعَةٌ يَنْظُرُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَوْ أَغَاثَ لَهْفَانَ أَوْ أَعْتَقَ نَسَمَةً أَوْ زَوَّجَ عَزَبا)[١٠]. ولا حاجة لبيان حال من ينظر الله إليه عز وجل ما يفعل به.
من موجبات البركة في الرزق
من الآداب أن يزيد الإنسان في وزن ما يضع في الميزان عند البيع، فقد ورد في الأحاديث الشريفة أنه: (وَمَرَّ عَلِيٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَلَى جَارِيَةٍ قَدِ اِشْتَرَتْ لَحْماً مِنْ قَصَّابٍ وَهِيَ تَقُولُ زِدْنِي فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: زِدْهَا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ)[١١].
المماكسة في البيع
ويجوز للمشتري أن يماكس؛ أي يطلب من البائع أن يخفض له من سعر بضاعته، ولا ذل في ذلك كما يتصور البعض، فعن الحسين بن يزيد قال: (سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَقُولُ وَقَدْ قَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَجِبَ اَلنَّاسُ مِنْكَ أَمْسِ وَأَنْتَ بِعَرَفَةَ تُمَاكِسُ بِبُدْنِكَ أَشَدَّ مِكَاساً يَكُونُ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَمَا لِلَّهِ مِنَ اَلرِّضَا أَنْ أُغْبَنَ فِي مَالِي)[١٢]. فقد كان الإمام (ع) يطلب من البائع أن يخفض له في السعر مما عجب من ذلك أبو حنيفة، وإجابة الإمام (ع) هذه دليل على أن ذلك لا ينافي وجاهة المؤمن وعزته. وأما التاجر الصدوق الذي يصف لك حسن البضاعة كما يصف لك عيوبها، فهو مع الشهداء يوم القيامة.
العاملات بلا أجر وثمن
ويجدر ذكر فئة من الناس تعمل الساعات الطويلة التي تجاوز الثماني ساعات، صباحاً، مساءاً، وهي لا ترجو أجرة ولا تبتغي ثمنا، ألا وهن ربات البيوت، والنساء الصالحات اللواتي يعملن بإخلاص وأمانة من دون عقد ملزم، فليس من واجبات المرأة العمل في البيت، ولا نستبعد أن يلحق الله عز وجل هذه النساء بالشهداء والصالحين كما يلحق بهم التاجر الصدوق في تجارته.
[٢] بحار الأنوار ج١٠٠ ص٩.
[٣] من لا یحضره الفقیه ج٤ ص٣٥٢.
[٤] الکافي ج٥ ص١٤٨.
[٥] سورة الطلاق: ٢-٣.
[٦] الکافي ج٥ ص١٤٨.
[٧] شهاب الأخبار ج١ ص٧٨.
[٨] نهج البلاغة ج١ ص٥٠١.
[٩] وسائل الشیعة ج١٧ ص٢٨٣.
[١٠] الخصال ج١ ص٢٢٤.
[١١] من لا یحضره الفقیه ج٣ ص١٩٦.
[١٢] الکافي ج٤ ص٥٤٦.
خلاصة المحاضرة
- من منافع التجارة؛ التعامل مع الطبقات الاجتماعية المختلفة، وذلك يكسب التاجر خبرة كبيرة في الحياة، فهو يتعامل مع الجاهل كما العالم ويتعامل من المعلم والمهندس والطبيب، ويتعامل مع الصبور كما المشاكس، ويتعامل مع الأمين والغاش، ويمكن أن يسخر هذه التجارب في جذب الناس إلى الدين.
- يستحب للمؤمن أن يذكر الشهادتين عند إجراء المعاملات والعقود، من شراء منزل أو دابة أو غير ذلك، ويستحب التكبير أيضا لكي يتذكر الإنسان عظمة الله عز وجل وأنه المالك الحقيقي لهذا الوجود، إذ أنك في شرائك للمنزل أو الدابة لم تحدث شيئا في عالم الوجود سوى انتقال الملكية من زيد إلى عمر.
- هناك فئة من الناس تعمل الساعات الطويلة التي تجاوز الثماني ساعات، صباحأً، مساءاً، وهي لا ترجو أجرة ولا تبتغي ثمنا، ألا وهن ربات البيوت، والنساء الصالحات اللواتي يعملن بإخلاص وأمانة من دون عقد ملزم، فليس من واجبات المرأة العمل في البيت، ولا نستبعد أن يلحق الله عز وجل هذه النساء بالشهداء والصالحين كما يلحق بهم التاجر الصدوق في تجارته.