- ThePlus Audio
المراقبة قبل شهر رمضان المبارك وبعده وأدب من آداب الزيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا لا نتغير حتى مع العبادات؟
كثيرا ما يسأل المؤمنون عن علة عدم التغيير الجوهري الذي يتمنوه بعد الأعمال العبادية التي يقومون بها كالحج والعمرة وصيام شهر رمضان المبارك وهم غافلون عن أنهم قد خلطوا بين عالم المادة وعالم المعنى. فيظن الواحد منهم أن الطواف المادي أو الصيام البدني يؤدي إلى تغيير في الباطن بالضرورة وليس الأمر كذلك ما لم يقترن العمل البدني من الطواف والسعي والصلاة خلف المقام إلى تفاعل روحي. إنني أشبه ذلك بالجنازة التي يطاف بها حول الضريح؛ فلا يُقال: أن الجنازة زارت المعصوم، لأنها غير ملتفتة إلى المزور.
إن لشهر رمضان المبارك وكذلك للحج والعمرة وما شابه ذلك من العبادات ظاهر وباطن هو ملكوتها. فملكوت الصلاة أنها معراج المؤمن، ولكننا صلينا عمرا ولم نصل إلى هذا المعراج. إن صلاتنا هي إسقاط للتكليف ليس إلا، ولا يعدو صيامنا الإمساك عن الطعام والشراب وهي عملية ظاهرية لا تتجاوز الجهاز الهضمي للإنسان وإن كان مجرد الكف عن الطعام والشراب امتثالا لأمر الله عز وجل مما يُقرب الإنسان إلى الله سبحانه.
إننا لا نبخس الصيام حقه ولكن ينبغي أن نعلم أنه لا يكفي مجرد الكف عن الطعام والشراب ولابد من صوم الجوانج مع صوم الجوارح. لو نطقت المعدة في بعض الصائمين لقالت: يا أيها الصائم! لقد أمسكتني عن الطعام والشراب وأذقتني ألم الصيام ولكن ما بال قلبك لم تكففه ولم تُمسكه؟ وهنا قد قامت المعدة بدورها وبقي دور القلب أن يُمسك عن الحرام ليل نهار. إن الصائم الذي لا تهجد له ولا قيام في الليل، لا يستفيد من صومه كما ينبغي؛ فكيف إذا كان عاصيا واغتاب وارتكب القبائح؟ في هذه الحالة لا يكون لهذا الصائم قلب ولا قالب. فلابد أن يُهيئ الإنسان نفسه قبل شهر رمضان للوصول إلى ملكوت الشهر بتجاوز الصوم الجوارحي إلى الجوانحي.
مراقبة سارقي النور بعد شهر رمضان المبارك…!
وكما يتهيئ الإنسان للشهر قبل دخوله، يُراقب نفسه بعد الخروج منه للحفاظ على ما اكتسبه ولتبرص الشياطين به. إن قطاع الطرق لا يقطعون الطريق على الصعاليك المعدمين وإنما يتربصون بالأغنياء الذين يحملون معهم أموالا طائلة وجواهر ثمينة. فلو ظفر قاطع الطريق بصاحب الجوهرة أخذها منه، فإن قاوم قتله. وهذا المقتول لو كان يعلم أن امتلاكه لهذه الجوهرة ستؤدي به إلى القتل لما أخذها أصلا.
ولا تظنن أن الشياطين إنما تتربص بك بعد الشهر، فلذا أنت في مأمن؛ فأين أنت عن نفسك الأمارة بالسوء؟ إن الله سبحانه يُغل الشياطين في هذا الشهر لتعلم أنها ليست الشياطين فحسب التي تسول لك وتوسوس وإنما معها النفس الأمارة التي تحل محل الشياطين في هذا الشهر. فلا ينبغي أن تُلقي اللوم على الشياطين فحسب؛ بل لابد أن تلوم نفسك وتراقبها حتى لا تتردى في وادي الهلاك. ولذا ترى الحاج بعد رجوعه من الحج أو العمرة أحيانا متقلب المزاج سريع الغضب، يرتكب بعض المحرمات الشهوية وما ذلك إلا لتربص الشياطين به لسلبه نور الحج الذي جاء به.
هذه هي الزيارة التي ينبغي أن تتقنها…!
إن الزيارة تشبه الصلاة من ناحية التوجه إلى المزور. إننا لا نرى في الصلاة شيئا نتوجه إليه وإنما نتوجه إلى الله عز وجل بقلوبنا؛ فحتى في حالة الصلاة عند الكعبة المشرفة، فإننا لا نتوجه إلى الكعبة التي هي مجرد بيت يرمز إلى الله عز وجل وإنما نتوجه بقلوبنا إلى صاحب البيت. وهذا المعنى لا يتيسر للكثير من المصلين؛ فالتوجه إلى الله عز وجل معنى لا يأتي جزافا وإنما يحتاج من الإنسان تدرجا باطنيا. لابد وأن يكون المتوجه إلى الله في صلاته قد بلغ مرحلة من الكمال يستشعر الجلال الإلهي لما روي: (لَوْ يَعْلَمُ اَلْمُصَلِّي مَا يَغْشَاهُ مِنْ جَلاَلِ اَللَّهِ مَا سَرَّهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ)[١]. وكما ذكرت آنفا لا يشعر بهذا الجلال كل أحد وإنما يشعر به بعض أولياء الله الصالحين.
فكما أن المطلوب منك في الصلاة التجرد والتقرب إلى من لا تراه ممن هو فوق الزمان والمكان؛ فكذلم مطلوب منك في الزيارة أن تكون كذلك أمام المزور الذي لا تراه. إنك في زيارة المعصوم لا ترى إلا ضريحا ولكن بإمكانك أن تتجرد وتتكلم مع هذه الروح الباقية.
كيف كان العلماء يزورون السيدة المعصومة (سلام الله عليها)؟
وكذلك الأمور في غير المعصومين ممن لهم مقام عظيم عند الله عز وجل كالسيدة فاطمة المعصومة (س) التي هي في حكم الشهيدة لما روي: (أَلاَ مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً)[٢]؛ فكيف بهذه السيدة التي قضت في طريق زيارة أخيها الرضا (ع) ولها ما لها من المقامات العالية؟ إنني انا رأيت كبار العلماء يقفون أمام السيدة (ع) بكل أدب واحترام ولمدة طويلة يتوجه فيها إلى روحها الباقية ويُخاطبها.
حقيقة الزيارة والزيارة من البعد
الزيارة عبارة عن مواجهة الروح للروح. إن حظ البدن لمس الضريح وتقبيله، وحظ الروح التحدث إلى صاحب المقام. فإذا ما أتيت الحرم يوما ما واكتفيت من الزيارة بلمس الضريح وتقبيله، فأنت زائر في العرف؛ لكنك لم تصل إلى الحقيقية العالية وهي مواجهة روح المعصوم. ومن تعود على هذه الزيارة الروحية التجردية أو الزيارة الانسلاخية التي ينسلخ فيها الزائر من عالم المادة؛ يكفيه أن يُغمض عينيه أينما كان من بلاد الله وفي أي زمان ويقول مثلا: السلام عليك يا أبا عبدالله. إن من زيارات الإمام الحسين (ع) أن تلتفت يمنة ويسرة على السطح ثم تتوجه إليه وتقول: صلى الله عليك يا أبا عبدالله وهي زيارة كاملة قد يفوق تأثيرها الزيارات الحسية من قريب.
ولذا نجد في كتاب المفاتيح زيارة للأئمة (ع) من بعد كزيارة النبي (ص) وزيارة الحسين (ع) من بعد. وهذه الزيارات تنفع من لم يستطع لأي ظرف أن يكون في مشاهد المعصومين طوال السنة. ولذا أوصي المؤمنين بزيارة الحسين (ع) على أقل التقادير ليلة الجمعة من سطح المنزل.
إن لي صحبة مع أحد المؤمنين ممن دأبه زيارة الحسين (ع) من على سطح منزله، فقلت له ذات يوم: ما حال زيارة السطح؟ فقال لي: إنني مستمر على ذلك حتى في أوقات المطر وأحيانا أجمع بين زيارات المعصومين (ع) وبين مناجاة رب العالمين. ما أجدرنا أن نتأسى به في هذه الصفة وأن نلجأ إلى هذه الزيارة إذا اعترانا قلق أو اكتئاب بدل اللجوء إلى التلفاز ومشاهدة الأفلام والمسلسلات. يكفي أن تصعد سطح المنزل وتصلي لله ركعتين ثم تزور الإمام (ع) لتنتقل إلى عالم آخر مغاير تماما للعالم الأرضي الذي كنت فيه.
ذكر الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)
ومن أولى بهذه الزيارة التجردية من إمام زماننا (عج) وولي أمر الناس جميعا الموالي والمخالف؟ أليس هو من بيُمنه رُزق الورى ولولاه لساخت الأرض بأهلها؟ إن رب العالمين هو رب العالمين وإن أنكره المنكرون؛ فهل يضر بربوبيته إنكار الملاحدة له على كثرتهم؟ والإمام هو الإمام وولي أمر الجميع وإن أنكره من أنكره. بالطبع إن هذا الإنكار سينتهي عند ظهوره الشريف، خاصة عند نزول المسيح والصلاة خلفه. فمن الطبيعي عندها أن يتبعه النصارى بعد أن يروا نبيهم (ع) يُصلي خلفه ويُقدمه.
وانظر إلى نفسك لمن تدعو ساعة الإقبال وساعة الإفطار وعند شريح سيد الشهداء في أيام الأربعينية بعد مشي طويل؟ ما هو الدعاء الذي يأتي على لسانك من دون تكلف؟ إن ذكر الأهل والعيال والأموال ثم تذكرت الإمام (عج) في نهاية المطاف، فلا تعد نفسك من الأوفياء ولا تظننها حالة طيبة…!
ساعة ذهبية للدعاء بالفرج
وإنني أعتقد أن ساعة الإفطار ساعة ذهبية للارتباط به. إذا أراد أحدا أن تصل بضاعته إلى المقصد من دون أن يعترضها المفتشون، قرنها ببضاعة السلطان التي لا يجرأ أحد على تفتيشها. فقل ساعة الإفطار: يا رب، ارفع صيامي مع صيام ولي أمري (عج)؛ فإن هذه البضاعة إن شاءالله ستصل إلى الله عز وجل. وكن من الداعين له بكل توجه في ساعتي الإفطار والسحر إلى أن تصل إلى رتبة الداعين له.
خلاصة المحاضرة
- لا يكفي مجرد الكف عن الطعام والشراب ولابد من صوم الجوانج مع صوم الجوارح. لو نطقت المعدة في بعض الصائمين لقالت: يا أيها الصائم! لقد أمسكتني عن الطعام والشراب وأذقتني ألم الصيام ولكن ما بال قلبك لم تكففه ولم تُمسكه؟ لقد قامت المعدة بدورها وبقي دور القلب أن يُمسك عن الحرام
- إذا أراد أحدا أن تصل بضاعته إلى المقصد من دون أن يعترضها المفتشون، قرنها ببضاعة السلطان التي لا يجرأ أحد على تفتيشها. فقل ساعة الإفطار: يا رب، ارفع صيامي مع صيام ولي أمري (عج)؛ فإن هذه البضاعة إن شاءالله ستصل إلى الله عز وجل.