

- ThePlus Audio



العتق من النار؛ أفضل مكسب تخرج به من شهر رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف أكون من أرضى من طلع عليه الهلال؟
إن من أدعية الإمام السجاد (ع) ما يُستحب قراءته عند رؤية هلال الشهر خاصة هلال شهر رمضان، وقد ورد في هذا الدعاء: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا مِنْ أَرْضَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ وَأَزْكَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ)[١]. ونجد ما يشابه هذا التعبير في دعاء كميل: (وَاِجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِنْدَكَ وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ)[٢]. لماذا يسعى أحدنا في زواجه وكسبه ودنياه أن يكون الأفضل ولا يسعى إلى ذلك فيما يتعلق بآخرته؟ ولذا من الأمور التي ينبغي أن يهتم بها المؤمن، تحسين عبادته والارتقاء بها في كل عام ومنها شهر رمضان الذي لابد وأن يكون كل عام، خير شهر رمضان مر عليه.
اغتنم الفرصة الأخيرة في شهر رمضان المبارك
وقد يشهد المؤمن الشهر الفضيل ويبقى في غفلته إلى أن ينقضي من الشهر أكثره حتى تتضاءل فرص استثمار الشهر والعتق من النار. ولكن الله سبحانه مع ذلك قد جعل في ليلة العيد فرصة أخيرة لمن فاتته في الشهر الفرص الكثيرة حتى ليالي القدر التي جف القلم فيها بما هو كائن. إن ليلة العيد أو ليلة العتق من النار هي ليلة ينتهي فيها شهر رمضان ويكون المؤمن قد دخل في شهر شوال مع أذان المغرب ولن تكون أعماله كما كانت في الشهر المبارك. فلا نومه عبادة ولا أنفاسه تسبيح ولا الشياطين مغلولة مع أذان المغرب من ليلة العيد. ولذا يعيش المؤمن حالة ممزوجة بين الحزن والفرح؛ الفرح بالعيد السعيد والحزن على الحرمان من هذه المزايا. والمؤمن حريص على ساعتين؛ الساعة الأخيرة من الليل قبل أذان فجر اليوم الأخير والساعة الأخيرة من اليوم قبل أذان المغرب.
فكن على مصلاك في الساعة الأخيرة في هاتين الساعتين وتضرع إلى الله عز وجل واعلم أن الفرصة أوشكت على النفاد. وليكن حالك حال من خرج من ضيافة ملك كريم بعد أن أمضى شهرا في القصر الملكي فهو في حسرة وتثاقل. فعوض ما استطعت مما فرطت في هذا الشهر في هاتين الساعتين. واعلم أن لك رب كريم يُعطيك في لحظة ما لا تناله في سنوات من عمرك، فلعلك تأخذ الجائزة الكبرى في هذه اللحظات. ولا يشغلك التحضير للعيد وتهيئة مقدماته كشراء الثياب والطعام عن اغتنام هذه الفرصة.
حقيقة العتق من النار
يظن الكثير من الناس أن العتق من النار هو ألا يدخل الإنسان في نار جهنم؛ بل العتق الحقيقي هو العتق من موجبات الدخول في النار كالشهوات والأهواء. وكأننا في طلبنا للعتق من النار نقول: خلصنا يا رب من أسر الشياطين والشهوات التي تنتهي بنا في قعر النيران. إن دخول النار معلول غلبة الشهوات والشياطين، والطلب في هذه الدنيا لدفع المعلول بدفع علته. وأعجبني أحدهم في بعض ليالي القدر كان يقول أحيانا بدل الغوث الغوث، خلصنا من النار يا رب وبكل أريحية مع ربه: يا رب، إنني لا أخشى نارك وإنما أخشى غضبك ومقتك. وهي التفاتة منه لطيفة؛ فالكثير منا يُفكر في النار ولا يُفكر في واقعه الفعلي وفي أفعاله التي تجلب له المقت الإلهي. وهو يعلم أنه لا خلاص من النار إلا في هذه الدنيا، فإذا انتقل إلى ذلك العالم قامت قيامته وثمة حساب ولا عمل. وهناك إذا أراد التكلم قيل له: (قَالَ ٱخۡسَـُٔواْ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[٣].
هل رأيت ملكوت العتق في شهر رمضان المبارك؟
وقد يصل الحال بالبعض أن يروا ملكوت هذا العتق في شهر رمضان المبارك. فيشعر المؤمن أن قد سكت عنه الغضب وأصبحت شهوته تحت إمرته ومسك زمام الوهم والخيال. وهذا الثلاثي الذي يتمحور حوله جميع كتب الأخلاق وكأنها ماركة مسجلة لتلك الكتب…!
قد يكون الرجل صالحا ولكنه فاقد للسيطرة على بعض هذه الملكات. لقد ذكر لي أحدهم أنه كان مبتلى بالشهوة فنظر بريبة في حرم الرضا (ع) إلى إحداهن وكانت محجة، فهرع إلى الضريح وتوسل بالرضا (ع) وذكر أنه مريض يطلب الشفاء والتجأ إلى الإمام (ع) التجاء صادقا، فخرج وهو مالك لزمام النفس مسيطرا لا على الشهوة فحسب؛ بل على الشهوة والغضب والوهم.
بهذا تعرف المستوى الذي وصلت إليه
فإذا أردت أن تعلم المستوى الذي وصلت إليه والحالة التي اكتسبتها في شهر رمضان المبارك؛ فلن تحتاج إلى اتصال بعالم الغيب أو الالتجاء إلى أهل الكشف والشهود لأنهم لا يصدقون وإنما يكفي أن تنظر إلى قلبك في الأيام الأولى من شهر شوال، لترى ما به من شهوة وغضب. ومن أجل ذلك يبتليك الله سبحانه في هذا الشهر بعد أن من عليك بشهر كامل من الضيافة التي تناولت فيها ما تناولت من الفيتامينات والمغذيات المعنوية، لينظر كيف سيطرتك على الشهوة والغضب؟ فإذا ما أسأت التصرف، عرضت النعمة إلى زوال. وأنت في ذلك كمن خرج من ضيافة الملك من القصر وتعدى على يتيم أو مسكين.
حذار من الشياطين بعد شهر رمضان…!
قد يصل الأمر بالبعض أن تستهوي الشياطين وتمطيه وتسوقه كما تستهوي الشاب السيارة الفاخرة فيُحب ركبوها وسياقتها…! وذلك قول الله عز وجل: (كَٱلَّذِي ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّيَٰطِينُ فِي ٱلۡأَرۡضِ حَيۡرَانَ لَهُۥٓ أَصۡحَٰبࣱ يَدۡعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ)[٤]. وإن للشيطان أعوانا يقومون بمسح ضوئي للمؤمنين ومنهم من يُصبح قرينا للبعض وهو قوله عز من قائل: (وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنࣰا فَهُوَلَهُۥ قَرِينࣱ)[٥]. وهذا الشيطان هو الجاسوس أو الطابور الخامس الذي يرفع تقاريره دائما إلى الشيطان الكبير.
فهو يرى في شهر رمضان المبارك من تميز ومن بكى في الليل ومن أكثر من التلاوة والبكائين والملتجأين إلى الله في ليالي القدر ويُحاول النيل منهم. ولهذا يقول الشيطان: إنني لا أضيع جهدي على فلان الفاسق الذي يرقص من دون طبل وإنما أهتم بالمقبلين على الله عز وجل لأصرفهم عنه. ولهذا ينبغي الإكثار من هذا الدعاء صباحا ومساء: (اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد). وهو من الأدعية التي لها آثار عظيمة ومن أسرار أهل البيت (ع). إنك تطلب بهذا الدعاء الدخول في درع حصينة لا من الأعداء الخارجيين فحسب؛ بل من الشياطين والنفس الأمارة.
سر كثرة الصلوات في أدعية السجاد (عليه السلام)
إن الملفت في أدعية الإمام زين العابدين (ع)، الإكثار من الصلاة على النبي وآله (ص). فهو في كل فقرة يصلي على محمد وآله (ص) ويطلب من الله ما يطلب. وهذا ما ينبغي أن نفعله نحن في أدعيتنا اليومية؛ ففي الصلاة على النبي وآله (ص) سر الاستجابة. وقد روي عن أبي عبدالله (ع) أنه قال: (مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةٌ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ ثُمَّ يَخْتِمُ بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ الطَّرَفَيْنِ وَيَدَعَ الْوَسَطَ إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ لَا تُحْجَبُ عَنْهُ)[٦]. وقد قال عز وجل: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا)[٧].
فقد لا نكون مأمورين بطلب العافية والمال وما شابه ذلك ولكننا مأمورون بالصلاة على النبي وآله. فلنتقيد بهذه السنة السجادية وهذه البصمة التي تركها في جميع أدعيته حتى شكك البعض بالمناجاة الخمس عشرة لأنها تخلو من الصلوات، وقد يكون الناقل لها قد حذف الصلاة من أولها أو آخرها.
تصفية الملكات الباطنية؟
إن تصفية الملكات والصفات الباطنية بيت القصيد في حياة كل مؤمن. لقد ورد ذلك في الكثير من الكتب التي ألفها علمائنا طوال التاريخ وعلى رأسها القرآن الكريم الذي يقول: (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِيمࣲ)[٨]. وهذه كلمة جامعة مانعة تغني عن مئات المصنفات الأخلاقية.
إن باطن الانسان بمثابة الأمير، والجوارح هي الرعية، وقد قيل: الناس على دين ملوكها. فإذا كان الأمير صالحا، صلحت الرعية والعكس صحيح كذلك. ولذا قال الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
فإذا كان القلب يغلي حقدا على فلان وفلان، فمن الطبيعي أن يطاوعه اللسان في اغتيابه. ولا يستطيع أن ينهى لسانه عن غيبته فإذا فعل قال له اللسان: وما شأني أنا، وأنا أترجم ما في باطنك؟ ولذا يدعو الإمام زين العابدين (ع) ربه تارة للخلاص من السيئات التي لها مظهر خارجي وهي المعاصي الجوارحية وتارة يطلب الخلاص من المعاصي الباطني التي تُقبح باطن الإنسان.
اللسان يُترجم معاني التي يصنعها قلبك
إن القلب إنما يرتب المعاني ويُنشئها واللسان يُترجمها. فإذا أردت أن تسب أحدهم ترى أن قلبك قد سبقك في الغليان حقدا عليه. فقلبك يغلي ويغلي إلى أن يتحول ذلك الغليان إلى ألفاظ فحش ينطق بها اللسان. ويصل الإنسان إلى درجة لو قيل له: لم عملت العمل الفلاني؟ يقول: صدقوني، لم أكن أنوي فعل ذلك ولكن خانتني نفسي وسبقني لساني. فإن ما عاشه من المعاني الباطنية، أفقدته السيطرة على جوارحه إلى درجة قد يقتل في ساعة الغضب. فلنبدأ من ضبط ألسنتنا أولا، فضبط الخواطر أمر لا يُتقنه إلا الأولياء الخلص. فقل خيراً أو اصمت. لقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (لَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِطُولِ اَلصَّمْتِ فَإِنَّ اَلنَّدَامَةَ عَلَى طُولِ اَلصَّمْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً خَيْرٌ مِنَ اَلنَّدَامَةِ عَلَى كَثْرَةِ اَلْكَلاَمِ)[٩].


خلاصة المحاضرة
- قد يشهد المؤمن الشهر الفضيل ويبقى في غفلته إلى أن ينقضي من الشهر أكثره حتى تتضاءل فرص استثمار الشهر والعتق من النار. ولكن الله سبحانه مع ذلك قد جعل في ليلة العيد فرصة أخيرة لمن فاتته في الشهر الفرص الكثيرة حتى فرص ليالي القدر التي جف القلم فيها بما هو كائن.
- يظن الكثير من الناس أن العتق من النار هو ألا يدخل الإنسان في نار جهنم؛ بل العتق الحقيقي هو العتق من موجبات الدخول في النار كالشهوات والأهواء. وكأننا في طلبنا للعتق من النار نقول: خلصنا يا رب من أسر الشياطين والشهوات التي تنتهي بنا في قعر النيران.
