- ThePlus Audio
العباس (عليه السلام)؛ قمة الثبات والاستقامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الثبات والاستقامة ودورهما في تقوى القلب
من العناصر المهمة التي تحول الشعائر إلى عامل من عوامل تقوى القلب؛ عنصر الثبات والاستقامة. يقول الله عز وجل: (وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقࣰا)[١]، وقال عز من قائل مخاطبا نبيه (ص): (فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)[٢]، وهذه الآية من سورة هود هي علة قول النبي (ص): (شَيَّبَتْنِي هُودُ)[٣]. فقد يكون من السهل أن تسير في الطريق المستقيم؛ ولكن من يضمن لك الوصول إلى النهاية وبلوغ الغاية؟ لابد من الاستقامة حتى تحقيق الهدف المرجو.
العباس (عليه السلام) مظهر الاستقامة والثبات
لقد كان العباس (ع) مظهر الاستقامة والثبات. وقد ورد فيه الكثير من النصوص نذكر منها نصين وثيقين، أحدهما ما روي عن إمامنا زين العابدين (ع): (رحم الله عمي العباس. فلقد آثر وأبلى وفدا أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه. فأبدله الله عز وجل منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب عليه السلام. وإن للعباس عند الله تبارك و تعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)[٤].
عم الإمام زين العابدين (عليه السلام)
والإمام زين العابدين (ع) لا يُريد من لفظ العم هنا بيان النسبة وإنما هو لفظ تعظيم وتفخيم. إن هذه المنزلة التي نالها العباس (ع) هي من أجل هذه الصفات التي ذكرها الإمام الصادق (ع) في قوله: (كان عمنا العباس نافذ البصيرة صلب الايمان. جاهد مع أخيه الحسين عليه السلام وأبلى بلاءا حسنا ومضى شهيدا)[٥]. وصُلب الإيمان هو الذي لا تغيره الظروف والأيام ولا يتأثر إيمانه بشيء من المؤثرات.
لا تكون مزّاجا…!
ومن الضروري أن يتخذ المؤمن مسارا ثابتا إلى الله عز وجل، لقوله سبحانه: (فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا)[٦] . فلا تكن مزّاجا[٧]، ولا تكن ممن يتمضمض ولا يشرب…! إن الله سبحانه لا يدع من عباده المؤمنين أحدا إلا ويُتم عليه الحجة في فترة من فترات حياته؛ فتراه في تلك الفترة – وإن كانت قصيرة – مقبلا على الله عز وجل، ويقيم الليل ويصلي في أول الوقت؛ ولكنه سرعان ما يفقد كل ذلك، وهذا اختبار منه سبحانه وتعالى. ومثال ذلك بائع العطور الذي يقف أمام المحل وبيده أوراق معطرة يوزعها على العابرين يشمونها، فإذا طلب أحدهم الأصل أرشده إلى المحل. ولا يُمكن أن تحصل على الأصل من دون أن تدفع ثمنه وإلا قال لك: اخرج، فلست بمشتر…!
اخرج من محل العطور
قد يكون الرجل في محل العطور ويشم مختلف الروائح الطيبة، فيظن أن العالم كله معطر فإذا مر على جيفة تبين له خلاف ما اعتقد، ومسك أنفه كراهية أن يشمها. ولذلك إذا دخلت إلى مشهد الحسين (ع) ذات يوم وقرأت ما قرأت من الزيارات، خاطبه بلغة شعبية وقل: يا أبا عبدالله، إنني أشكر الجواهر التي تمن بها علي، ولكن ماذا أفعل بقطاع الطرق وهم كثر؟ إن قطاع الطرق لا ينظرون إلى المفلس وإنما ينظرون إلى أصحاب الجواهر وأنا أخشاهم يا سيدي، من أن يسلبوني ما أنا فيه. إن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ينظر إلى جمع المعزين ليتربص هو وجلاوزته بأكثرهم دموعا وتفاعلا، وأكثرهم التزاما وصفاء ونقاوة، ليسلبه ما يملكه؛ فهو في نظر الشيطان متمرد ثائر وفي طريقه إلى المقامات العليا، ولابد من قمع المتمردين، والحيلولة دون وصوله إلى تلك المقامات.
إن الله سبحانه يهبنا فترة من الإقبال قد تكون في زيارة الأربعين أو في غيرها؛ من باب الاختبار. لقد ذكر لي أحد الأشخاص ممن أقطع بصدقه: أن الله سبحانه كشف له الغطاء في أو زيارة له في الأربعين؛ فانقلبت حياته ورأى العالم كله يسبح بحمدالله. إن الله سبحانه يقول: (لَّقَدۡ كُنتَ فِي غَفۡلَةࣲ مِّنۡ هَٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡيَوۡمَ حَدِيدࣱ)[٨]؛ فهذا الكشف حاصل لا محالة في البرزخ وعندها كلنا سنكون عرفاء ولكن لا فائدة من ذلك الكشف في ذلك اليوم وقد فات الأوان.
فإذا جاءتك الرقة يوما وأقبل قلبك؛ اتخذ إلى ربك سبيلا. يُقال: أن الأقمار الصناعية في حركة مستمرة، لأن توقفها سقوطها؛ وكذلك الأمر في من سلك هذا الطريق؛ فإذا كان في حركة مستمرة في الفضاء الأعلى لم يسقط.
كيف تكتشف خارطة الوصول إلى الله سبحانه؟
إن الأبحاث النظرية هي الأساس الذي يبتني عليه كل عمل، ولذلك سمعت أحد كبار المهندسين في الغرب يقول: إن الغرب يخططون لسنوات طويلة وينفذون في وقت قصير، ونحن ننفذ بسرعة ولكن يتبين الخطأ لاحقا ونرى البناء بعد إكماله أنه كان معوجا. فلابد من امتلاك هذه النظرة الاستراتيجية أو النظرة الكونية قبل الدخول في أي عمل. دخلت ذات يوم في صف الرياضيات في مدرسة من مدارس البلاد البعيدة، فقلت لهم بوجود المترجم: أريد أن أكتب معادلة على اللوحة وأريد منكم الإجابة: اللانهاية نقسمها على عدد معين كالستين أو السبعين ماذا تكون النتيجة؟ قالوا جميعهم إناثا وذكرانا: اللانهاية. فقلت لهم: إن حياتنا حياة قصيرة لا تتجاوز عادة السبعين، وبهذه السنوات القليلة نكتسب الأبدية. ما هي الأبدية أو اللانهاية؟ إذا أراد أحدنا أن يتصور اللانهاية؛ لأصيب بالصداع.
فعلى سبيل المثال: لو قطرت مياه البحار وجعلت مقابل كل قطرة مليارات السنين؛ لنفذ البحر ولم تصل إلى اللانهاية. إننا نعتقد أن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، ولن يبقى في النار موحد، وقد ادخر النبي (ص) شفاعته لأهل الكبائر من أمته، ولكن ماذا نفعل إذا طال بأحدنا المقام على الأعراف التي يصفها سبحانه قائلا: (وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالࣱ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚ وَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ)[٩]؛ وهؤلاء فئة من المؤمنين ينتظرون دورهم للدخول إلى الجنان؛ فهم لم يدخلوا بعد ولكنهم يطمعون في الدخول، فهم في هذا العذاب النفسي إلى أن يُحدد مصيرهم.
لماذا خلد العباس (عليه السلام)؟
سمعت عن أحد العلماء الكبار ممن جمع بين الاجتهاد والخطابة يقول: لو أن العباس عندما وصل للمشرعة؛ غرف من الماء غرفة وشرب لم يكن ملوما عند الحسين (ع)؛ بل كان ذلك جزائه بعد أن شق طريق الماء والسهام تنهال عليه كالمطر والرماح تتجه إليه من كل صوب، والكبد مفتت من الظمأ، ولهذا يوصف ببطل العلقمي. ولكن ماذا فعل العباس (ع) عندما أحس ببرد الماء؟ رمى الماء على الماء وقال:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني
وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَنونِ
وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ
تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني
ولا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ
وعندما وصل الحسين (ع) إلى مصرعه ورآه بتلك الحالة؛ تركه في مكانه حيث مثواه الآن، وذلك لأن العباس (ع) كان قد طلب منه ذلك؛ فقد كان يستحي من أن تراه سكينة عائدا من دون ماء للخيام.
خلاصة المحاضرة
- إن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ينظر إلى جمع المعزين ليتربص هو وجلاوزته بأكثرهم دموعا وتفاعلا، وأكثرهم التزاما وصفاء ونقاوة، ليسلبه ما يملكه؛ فهو في نظر الشيطان متمرد ثائر وفي طريقه إلى المقامات العليا، ولابد من قمع المتمردين، والحيلولة دون وصوله إلى تلك المقامات.