– الساتر: هناك تأكيد على ستر العورة في الصلاة، إذ لا بد من ستر هذا الجزء من البدن، لأنه لا يستحسن إظهاره.. وكذلك فإن باطن الإنسان له عورات، يستقبح إظهارها، فليحاول أن يسترها بساتر.. ومن العورات التي يبتلى بها المؤمنون كثيراً عورة الغضب والحدة.. فالمؤمن لا يخلو من حِدة، والمفروض عكس ذلك.. فها هو أحد النصارى يشتم الإمام محمد الباقر (ع) قائلاً له: أنت بقر، فيرد (ع) عليه: «أنا باقر»، فيقول: أنت ابن الطباخة، فيرد (ع): «ذاك حرفتها»، فيقول: أنت ابن السوداء الزنجية البذية، فيرد (ع): «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك». فما كان من النصراني إلا أسلم لما رأى عظيم أخلاق الإمام (ع).
– فإذاً، إن الإنسان في صلاته يستر عورته، أما العورة الباطنية، فبالإمكان أن تعدم، حيث من الممكن أن يصل الإنسان إلى مستوى لا يكون له عورة في الباطن.. ولو كشف عنه الغطاء؛ لما كشف عن شيء يشين باطنه.. فالدرجة العالية ليس هو ستر العورات الباطنية، ولكن هو محو تلك العورات.. بحيث لو كشف الباطن للآخرين، لا يرون إلا الجميل.
شروط الساتر:
– أولا: الطهارة والإباحة، إذ لا بد للمكان أن يكون مباحاً، والثوب كذلك لا بد أن يكون مباحاً.. فالإنسان الغاصب إنسان غير مؤهل للقاء الله عز وجل، فهو إنسان لا تستجاب دعوته.. ولولا أن الخمس في الذمة لا في العين، لبطلت صلواتنا جميعاً.. ولهذا فإن البعض من الصالحين أو الورعين يخمس الثوب الخاص بالصلاة.
– ثانيا: أن لا يكون من الحرير: يجب أن لا يكون ثوب الصلاة من الحرير أو الذهب أو الفضة بالنسبة للرجال.. إن الذين يبحثون عن الحكمة في المسائل الشرعية، هؤلاء مخطئون لأن طبيعة الشريعة على التعبد، فالشريعة ليست كالطب حتى تسأل الأستاذ عن سبب هذه الظاهرة.. إن الجندي الذي يسأل مسئوله عن سبب الأوامر، يعاقب، لأن القانون يقول: امتثِل ثم سل.. وإذا أُجبت ولم تقتنع، فأكمل.. وكذلك بالنسبة للشريعة، فإن الإنسان ليس مكلفاً أن يعلم الحكم والأسباب.. إن الكون معظمه غيب، هذا الوجود مليء بالمدد الذي لا يُرى، فكيف برب العالمين في تربيته لعباده الصالحين؟!..
– فإذن، إن الذهب والحرير ممنوع على الرجل، فهم الإنسان الحكمة أو لم يفهم.. فالإنسان الذي يلبس خاتما ذهبيا لمدة عشرين سنة، فهو يرتكب الذنب على الذنب.. والإصرار على الصغيرة يحول الأمر إلى الكبيرة.. فاحذروا الصغائر!.. وهناك بعض الذنوب قد لا نرى فتوى صريحة بحرمتها، ولكن ملاك الحرام موجود فيها.. فالذين يكسرون خواطر من حولهم، وإن كان فقط بالغضب وليس أذى ماديا، ولكن نظراته مؤذية ومحرجة، أيضاً هذه من الموانع التي توجب أن تصد الأبواب.
– ولكن الإنسان المؤمن يستفيد من ذلك، أن الخشونة في العيش من الأمور التي أمرنا بها.. فقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: (اخشوشنوا؛ فإن النعم لا تدوم)!.. وعن علي (ع) أنه قال: (ألا وإن الشجرة البرية؛ أصلب عودا!.. والروائع الخضرة؛ أرق جلوداً!.. والنباتات البدوية؛ أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً)!.. فعلى الإنسان المؤمن، أن يكون في مستوى تحمل شيء من الخشونة؛ لأن هذه الحياة لا تدوم بهذه الكيفية.. بالإضافة إلى أن بعض العبادات، تحتاج إلى قوة وشدة.. ومن تعود اللين والترف؛ قد يتقاعس عن وظيفته عند الشدائد، وقد لا يستجيب نداء وليّه صاحب الأمر (عليه السلام) عندما يظهر روحي له الفداء.
– حدث أحد الثقاة أنه عندما أراد أن يتوضأ، قال: رأيت شخصاً جليلاً على هيئة الأعراب قاعداً عند الماء يتوضأ، وهو في غاية من السكينة والوقار والطمأنينة، وكنت مستعجلاً لخوف عدم إدراك الجماعة، فوفقت قليلاً فرأيته كالجبل لا يحركه شيء، فقلت: وقد أقيمت الصلاة ما معناه لعلك لا تريد الصلاة مع الشيخ؟.. أردت بذلك تعجيله فقال: لا، قلت: ولم؟.. قال: لأنه الشيخ الدخني.. فما فهمت مراده، فوقفت حتى أتم وضوءه، فصعد وذهب، ونزلت وتوضأت وصليت.
فلما قضيت الصلاة وانتشر الناس، وقد ملأ قلبي وعيني هيئته وسكونه وكلامه، فذكرت للشيخ ما رأيت وسمعت منه.. فتغيرت حاله وألوانه، وصار متفكراً مهموماً فقال: قد أدركت الحجة (عجل الله فرجه الشريف) وما عرفته، وقد أخبر عن شيء ما اطلع عليه إلا الله تعالى.
اعلم أني زرعت الدخنة في هذه السنة في الرحبة، وهي موضع في طرف الغربي من بحيرة الكوفة، محل خوف وخطر من جهة أعراب البادية المترددين إليه، فلما قمت إلى الصلاة ودخلت فيها ذهب فكري إلى زرع الدخنة وأهمني أمره، فصرت أتفكر فيه وفي آياته.
وهكذا نحن: فإن البعض منا له متجره، أو سوقه، أو جامعته.. وفي صلاته بدلاً من الحديث مع الله -عز وجل- ينشغل بكل شيء إلا مع رب العالمين.. فمن موجبات الحسرة العظمى يوم القيامة، أن يواجه ربه بصلواتٍ مجزية غير مقبولة، أي يوم القيامة يقال: لا نعاقبك معاقبة تارك الصلاة، وفي نفس الوقت لا نُثيبك ثواب المُصلين.
– هناك مسألة شرعية بسيطة، بالنسبة للمرأة المؤمنة أثناء الصلاة، مع الأمن من الأجنبي، لا مانع من أن تكشف عن رجلها.. ولكن القدم ضمن ما يستر خارج دائرة الصلاة.
– هيئة المصلي، يجب أن تكون هيئة متميزة، فما دمنا محرومين من الخشوع الباطني، فعلى الأقل نتخشّع، ونحاول أن نظهر بثيابٍ نظيفةٍ بيضاءٍ متطيبة، لنكن على هيئة جيدة عند لقاء الله عز وجل.
-الوقت: يبدو أن الصلاة كلها في واد، والصلاة في أول الوقت في وادٍ آخر!.. الروايات في هذا المجال كثيرة، من الآيات {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}.. فالذي لم يصل في أول الوقت، لم يلب نداء ربه.. وما نصليه لاحقاً -من دون عُذر وجيه- تشبه الصلاة، لأن وقت الصلاة عند أولياء الله انتهى عند أول الوقت!..
– لو أن أبا طلب من ابنه أن يأتي له بكأس من الماء، وطلب منه ذلك ست مرات، وبعد فترة كذلك طلب منه ست مرات أن يعجل في جلب الماء.. ثم بعد ساعتين جاء له بأفضل أنواع العصير، فإنه سيقول له: خذ عصيرك هذا، أنا طلبت منك ماءً، والآن تأتيني بالعصير!.. وكذلك بالنسبة للصلاة: هناك الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل.. وبعد استراحة قليلة، تأتي الإقامة وتقول ست مرات كالسابق، فرب العالمين يقول: أقبل علي -اثنتا عشرة مرة- وأنت تقول في مقام العمل -ولو قلتها بلسانك كفرت بالله-: يا رب!.. أنا لست فارغا لك الآن، اتركني مع المسلسل، أو حتى مع الاجتماع التجاري المهم، أو …الخ!.. ولو أنك صليت بعد ساعتين بخشوع وإقبال، فإنك بمثابة هذا الرجل.. وهذه إهانة، فالإهانة تكون تارة لفظية، وتارة عملية.. وفي بعض الأوقات الإهانات العملية ليس بأقل من الإهانات اللفظية.
– نحن نريد أن نصلح جوارحنا، بينما الأولياء الصالحون يريدون أن يصلحوا هواجسهم وخواطرهم. الأستاذ السيد القاضي -رحمه الله- قبيل وفاته أراد أن يلخص مدرسته الأخلاقية العرفانية، بأن خلاصة الطريق إلى الله عز وجل -ما مضمونه- الصلاة في أول الوقت هي المفتاح.. ولم يقيدها بالخشوع، وذلك من باب التخفيف.
– الصلاة في أول الوقت، حاولوا أن تعضوا عليها بالنواجذ.. إذا أراد الإنسان أن يكتشف نفسه، فعليه أن ينظر إلى نفسه عند دخول الوقت: فإذا كان متثاقلا، أو متفاجئا لدخول الوقت -وكأنه يتمنى أن لو أخّر المؤذن من وقت الأذان، ليكمل نشاطاته اليومية- فإن هذه من علامات البعد عن الله عز وجل.. هب أن عزيزاً عليك فارقك أشهرا أو سنوات، فإذا أراد أن يرى حبك له في هذه السنوات، يعلم ذلك عند المواجهة له في المطار، فينظر إلى تقاسيم الوجه.. فإذا رآك منشرحا متلهفا، يعلم بأنك صادق في محبتك له.. فالنبي الأكرم (ص) كان عندما يسمع الآذان، تتغير حالته ويقول: يا بلال، أبرِد!.. فمن بعض التفسيرات لهذه الكلمة: أبرد من البريد؛ أي عجّل كالبريد، لا تطيل الآذان مثلاً، أو لا تؤخر الوقت عن أوله.
تقول عائشة: كان النبي محمد -صلى الله عليه وآله سلـم- يحدثنا ونحدثه، ويلاعبنا ونلاعبه.. فإذا حضرت الصلاة، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه. يقول النبي الأكرم (ص): (إذا قام العبد إلى الصلاة، فكان هواه وقلبه إلى الله تعالى.. انصرف كيوم ولدته أمه).
– كيف نقضي الصلوات الفائتة، وخاصة صلاة الفجر؟.. إن الذين تفوتهم صلاة الفجر أكثر من مرة في الأسبوع، وخاصة إذا طال الأمر أسبوعاً كاملاً، فليحاول أن يناجي ربه قائلا: يا رب!.. ما الذي فعلت حتى طردتني من الوقوف بين يديك؟.. وقد جاء عن الإمام علي -عليه السلام- في جواب من سأله عن سبب ترك صلاة الليل، قال: أنت رجل قيدتك ذنوبك. فكيف بصلاة الفريضة!.. لو كان الله -عز وجل- يرغب في لقائك لأيقظك من نومك، {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ}؛ أي أماناً ولطفاً، وبعض الأوقات يغشّيكم النعاس نقمة وطرداً.
لعل القضاء مع الندامة والاستحياء من الله -عز وجل- خير من الصلاة الأدائية.. أحد العلماء فاتته نافلة الليل مرة واحدة في عمره، فكان يعيش الحسرة إلى آخر عمره.. مثل إنسان تاجر، فاتته مناقصة فيها ملايين من الربح، فهو إلى آخر عمره يلهج بهذه الخسارة .
– إن سُلّم الأولويات عندنا غير صحيح، حيث أننا لم نرتب حياتنا ترتيباً إلهياً.. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}؛ فأول صفة وصف عرفاني، إذ لم يذكر الجهاد ولا الزكاة، ولم يقل: يخشعون في يوم أو يومين، في ركعة أو ركعتين، وإنما دائماً خاشع، ومن ثم {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}.. فكل ذلك من أثر الصلاة الخاشعة.
– هناك قصة معروفة تدل على أثر الاستئناس بالصلاة: شاب عشق فتاة ذات حسب ونسب، وهو مجرد عامل عندها، فطلب منها الزواج.. وافقت على أن يكون مهرها مواظبته على صلاة الليل أربعين يوما، قبل بذلك.. وبعد الأربعين قال لها: لقد زهدت بك، فقد تعرضت في جوف الليل إلى جمالٍ أرقى!..
فالذين يستذوقون هذا الجمال الإلهي، هؤلاء لا يقر لهم قرار، فليلهم غير ليل الآخرين، ونهارهم نهار متميز.. بالليل صافون أقدامهم، وبالنهار حكماء علماء كالجبل الراسخ، لا تزعزعه العواصف، عَظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم.. فأصحاب الحسين -عليه السلام- يوم عاشوراء تجلى في صدورهم الحب الإلهي، فزهدوا حتى في الجنة.. إن هؤلاء وصلوا إلى هذه الدرجات، بعملهم المسبق.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.