- ThePlus Audio
التخلص من الذنوب والتبعات باللجوء إلى هذه المناجاة
بسم الله الرحمن الرحيم
أين أنت عن هذه الصيديلية المتنقلة؟
إن المناجيات الخمس عشرة هي صيدلية متنقلة كما يُعبر عنها كبار العلماء. إنها صيدلية قد حوت لأمراض الروح من الدواء ما يناسبها. فإذا ما عصى الإنسان ربه، فلن تنفعه مناجاة المحبين أو المريدين وهو يعيش حالة الفقد، وإنما يجد حاجته وضالته في مناجاة التائبين. وإذا كان ممن أنعم الله عليه بنعم متيزة كبيرة، لهج بمناجاة الشاكرين. فإذا رأى نفسه في قمة الوجد والحب والتوجه إلى الله عز وجل، فلن يجد أفضل من مناجاة المريدين التي تتضمن ذروة الكلمات العاطفية.
سر الحرقة في مناجيات الإمام زين العابدين (عليه السلام)
ويُمكن القول بعبارة أعم: إن مناجيات الإمام زين العابدين (ع) الخمس عشرة وغيرها ومناجياتها في ليالي شهر رمضان المبارك وفي أسحارها كمناجاة أبي حمزة الثمالي متميزة جدا وتجد فيها حرقة خاصة. وقد يصح إذا قلنا: كما أن الله عز وجل قد عوض أباه (ع) من قتله أن الأئمة من ذريته والشفاء في تربته والإجابة تحت قبته، فقد عوض الإمام زين العابدين (ع) عن معاناته في كربلاء والشام والمآسي والغصص التي تجرعها في المدينة المنورة، بأن جعل في مناجياته وأدعيته حرقة خاصة.
لابد وأن تزل قدمك…!
ومهما حاول الإنسان، فلابد وأن تزل قدمه يوما ما، وهذه الزلة إما أن تكون كبيرة من الكبائر كالغيبة التي هي من الكبائر التي يتهاون فيها الكثير، وإما أن تكون من الصغائر كالنظر إلى الأجنبية بشهوة أو بريبة. إلا أن يكون ممن وصل إلى درجة يمج الحرام وذلك بعد طول مجاهدة ورياضة باطنية. نعم، إن العبد ليصل إلى درجة تتحول المحرمات في نظره إلى قاذورات. فكما أنك لا توصي العاقل بتجنب أكل القاذورات والحشرات، فكذلك لا يحتاج هذا العبد إلى أن ينهاه عن المنكرات بعد أن أصبح يستقبحها ويمجها. فهو ينظر إلى الطعام غير المذكى وإن كان من أشهى الأطعمة وألذها؛ كما ينظر إلى الحشرات والقاذورات ويستقبح النظر إلى المرأة المتهتكة حتى وإن كانت فائقة الجمال.
كيف يستغفر إذن؟
ولكنه وإن كان معصوما من المعاصي؛ إلا أنه غير معصوم من الغفلة. وهنا لا يُمكنه معالجة أمره بمناجاة التائبين لفرط الغفلات، وإنما ينبغي أن يلجأ إلى المناجاة الشعبانية وإلى هذه الفقرات التي وردت فيها: (لِتَطْهِيرِ قَلْبِي مِنْ أَوْسَاخِ اَلْغَفْلَةِ عَنْكَ)[١]. إن أمير المؤمنين (ع) يُعبر عن الغفلة بالأوساخ التي ينبغي أن يتطهر منها الإنسان. إن هذا العبد قد يسامر أصحابه إلى الصباح في غير شهر رمضان ويضحك ويمرح من دون أن يقول حراما ولكنه يقوم بما لا يناسب زي العبودية. ولهذا ينبغي أن يتوب إلى الله عز وجل بعد هذا المجلس وهذه الساعات التي سيُسئل عنها يوم القيامة فيما أفناها؟
المداومة على الاستغفار
إن ديدين المؤمن المداومة على الاستغفار عصى ربه أم لم يعصه. ولابد أن تكون له محطة استغفارية ثابتة يربطها بحدث أو عمل أو صلاة لكيلا لا ينسى الاستغفار أبدا. وهذه وصية علمائنا السلف؛ أن نربط الأذكار بالمناسبات، كربط دعاء الفرج بالأذان أو نزول المطر مثلا. هذا وقد ورد في المأثور استحباب الاستغفار بعد صلاة العصر سبعين مرة؛ فالتزم بهذه المحطة واقرن الاستغفار بتعقيبات صلاة العصر أو بالصلاة في جوف الليل.
إن القيام في الليل يمحي الذنوب. لماذا لا يفوتك طعام السحر إذا كنت صائما وتفوتك صلاة الليل؟! إنك في شهر رمضان المبارك إما أن تكون ممن يسهر إلى السحر، وإما أن تستيقظ في تلك الساعة لتوفي نصيب البدن من عدة لقيمات تُقيم بهن صلبك. فلماذا تحرم الروح من نصيبها؟ لو التزمت بصلاة الليل في شهر رمضان قُبيل تناول الطعام في السحر، وأضفت إليها عشرة من شهر شوال استمكالا للأربعينية؛ لاستطعت بتوفيق الله أن تستمر في غير هذا الشهر كذلك. إنه عمل يحتاج من الله العون والتوفيق؛ فعندما أوصى النبي (ص) أمير المؤمنين (ع) بهذه الصلاة قال: (اَللَّهُمَّ أَعِنْهُ)[٢].
ومما ورد في مناجاة التائبين لإمام زين العابدين (ع): (أَلْبَسَتْنِي اَلْخَطَايَا ثَوْبَ مَذَلَّتِي)[٣]، وبما أن الإمام (ع) معصوم لا تصدر منه إلا الحكمة. إنه (ع) يُبين لنا من خلال هذا الدعاء، ارتباط المعاصي بالذل والهوان. كما أننا نجد في أدعية أخرى: (وَ مِنْ ثِيَابِ اَلنَّارِ وَ سَرَابِيلِ اَلْقَطِرَانِ فَلاَ تُلْبِسْنَا)[٤]؛ فمن ارتدى ثياب المعاصي هنا؛ أعقبته ذلة بارتداء ثياب النيران وسرابيل القطران في تلك الدار. وهي ذلة ما بعدها ذلة وهوان لا يجد الإنسان للخلاص منه سبيلا.
إننا نشعر بذلة المعصية في الدنيا
ولا شك أن الذي لا زال على فطرة سليمة، يحتقر نفسه بعد كل معصية. إنه لتأتيني الكثير من الرسائل من الإخوة والأخوات يذكرون لي فيها، ندمهم الشديد واحتقارهم الذات بعد كل معصية؛ حتى يصل الأمر بالبعض منهم أن يجلد ويصرب نفسه لما يشعر بالاشمئزاز منها وقد ينتهي الأمر بالبعض إلى الانتحار حيث يقول: إن مماتي خير من هذه الحياة. وتزول هذه الحالة من تأنيب الضمير مع تكرر ارتكاب المعصية، حتى لا يرى لها قبحا بعد فترة من الزمن.
عقوبة ترك الذكر
ثم إن الله سبحانه بالمرصاد وهو يمهل ولا يهمل، وقد ورد في حديث قدسي: (لَأُقَطِّعَنَّ أَمَلَ كُلِّ مُؤْمِنٍ أَمَّلَ دُونِي بِالْإِيَاسِ وَ لَأُلْبِسَنَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ)[٥]. فربنا له دوره وله فاعليته وله حاكميته وهو يضيق على العاصي من كل الجهات ولهذا القول شاهد من القرآن الكريم: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةࣰ ضَنكࣰا)[٦]. كن غربياً أو شرقياً وكن ثرياً أو فقيرا فلن يختلف الأمر وسنة الله سبحانه في عباده واحدة. ولهذا تشير الإحصائيات في بلاد الغرب إلى أنها من أعلى الدول نسبة في الانتحار. إن دولة متقدمة كاليابان والتي وصلت إلى أعلى درجات التقدم التكنولوجي هي على رأس هذه القائمة. لأن الانسان يصل إلى مرحلة لا يرى خيراً في حياته مع كثرة ما يملك. هذا وأدخل بيوت بعض الفقراء، فأرى الابتسامة تعلو وجوههم وهم في أدنى درجات الفقر.
ولكن قد يسأل سائل فيقول: فما بال بعض الدول الإسلامية يكثر فيها الانتحار؟ فأقول: إن مجرد النطق بالشهادتين لا يعني أن الإنسان قد حصن نفسه. نعم، لقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (كَلِمَةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ قَالَهَا دَخَلَ حِصْنِي وَ مَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي)[٧]، والكن الدخول في حصن التوحيد وفي حصن الولاية بحاجة إلى خطوات عملية، فليس الأمر مجرد دعوى وتلفظ ببعض الألفاظ.
أول أعداء العاصين
فباطن الإنسان وضميره، أول أعداء العاصين؛ فهو يشعر بوخز الضمير بعد كل معصية. ثم إن الله عز وجل يقول: (قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ)[٨]. فإذا أراد سبحانه أن يذله فعل ذلك بأي طريقة يريدها سبحانه؛ فقد يُسلط عليك من عباده من يذلك. فمن أراد العزة فليُطع العزيز وقد قال الله عز وجل: (مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ)[٩].
ليس هناك طريق إلى السعادة غير هذا
إن الناس عادة ما يبحثون عن السعادة والراحة والدعة في الدنيا، ولا طريق إلى ذلك إلا ما قال الله عز وجل: (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ)[١٠]. ويُقال في العربية: تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وتطمئن فعل الاستمرارية ويدل ذلك على التجدد، والقلوب جمع محلى بـ أل وأهل البلاغة يقولون: الجمع المحلى بـ أل، يفيد العموم. فلم يبقى شيء من أدوات التأكيد إلا وقد استعملها الله عز وجل في هذه الآية.
ولا ينبغي للعاصي أن ييأس بحال من الأحوال؛ فالله سبحانه يغفر اللمم وقد روي عن النبي الأكرم (ص) قاعدة عامة في هذا المجال: (لاَ كَبِيرَةَ مَعَ اِسْتِغْفَارٍ وَ لاَ صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ)[١١].
الإثم المضاعف
وقد تكون لبعض الشهور والأماكن حرمة مضاعفة، لا يغفر الله سبحانه للمرتكب فيها المعاصي وقد ينتقم منهم بسرعة. كشهر رمضان المبارك أو موسم الحج مثلا. فالذي لا يغض بصره وهو في حال الطواف وينظر إلى النساء مثلا نظرة محرمة، فقد ارتكب إثما كبيرا، لأنه في ضيافة الله عز وجل. إذا كان الإنسان في ضيافة الملك وبدرت منه بادرة فيها سوء أدب مع السلطان، انتقم منه. وشبابنا اليوم محاصرون ومحاربون بكل وسائل الإعلام والتواصل وفي الشارع والجامعة، وعليه أن يحذروا من المعاصي وأن يرتبطوا بمناجاة التائبين.
شهر المصافاة
وشهر رمضان المبارك هو شهر المصافاة مع رب العالمين. لو أن أحدهم ارتكب جريمة قتل، ثم دعاه ولي المقتول إلى مأدبة وعندما ذهب إلى بيته أراد الانتقام منه، ألا يُقال له: إنه ضيفك وقد أتاك برجلك وأنت كريم فاعف عنه؟ إن الله سبحانه في هذا الشهر قد دعانا إلى المغفرة والصفح والتسامح، وهو في هذا الشهر يهب مغفرته لمن يشاء؛ فلا تيأس من روح الله عز وجل، ولكن بشرط العزم على عدم العود.
التخلص من تبعات العباد
فقد يكون الرجل ممن يصوم في شهر رمضان المبارك ويقوم ليله، ولا يعصي الله عز وجل في ذلك الشهر؛ ولكنه يعود إلى المعاصي بعد شهر رمضان. إذا عزم أحدنا على عدم العود، فإن هذه الضيافة الإلهية كافية له.
وحاول أن تحصل في أول شهر رمضان المبارك على جائزة العتق من النار وجائزة الغفران حتى تتفرغ لاحقاً لجائزة الرضوان. لا تكتفي بالمغفرة في هذا الشهر من دون أن تنال القرب الممميز والرضوان الذي يسهل استحصاله في ليالي القدر المباركة. واعلم أن المناجاة والأدعية لن تمحو تبعات المخلوقين. فمن كان عليه دين ومظالم للعباد وهتك للحُرم فليباجر إلى التخلص منها حتى يتمكن من تلقي الرحمة الغامرة.
خلاصة المحاضرة
- إن المناجيات الخمس عشرة صيدلية متنقلة. إنها صيدلية فيها الدواء المناسب لأمراض الروح. فإذا ما عصى الإنسان ربه، فلن تنفعه مناجاة المحبين أو المريدين وهو يعيش حالة الفقد، وإنما يجد حاجته وضالته في مناجاة التائبين. وإذا كان ممن أنعم الله عليه بنعم متيزة كبيرة، لهج بمناجاة الشاكرين
- شهر رمضان المبارك هو شهر المصافاة مع رب العالمين. لو أن أحدهم ارتكب جريمة قتل، ثم دعاه ولي المقتول إلى مأدبة وعندما ذهب إلى بيته أراد الانتقام منه، ألا يُقال له: إنه ضيفك وقد أتاك برجلك وأنت كريم فاعف عنه؟ إن الله سبحانه في هذا الشهر قد دعانا إلى المغفرة والصفح والتسامح