التبرك بآثار الأولياء في القرآن وسيرة الصحابة
بسم الله الرحمن الرحيم
التبرك بقبور الأولياء
من الغريب أن تطرح مسألة التبرك بالآثار المقدسة في الآونة الأخيرة؛ إذ لم يختلف فيها من المسلمين الأوائل في صدر الإسلام أحد. ولكننا اليوم نرى قسما كبيرا من المسلمين ينكرون مسألة التبرك بالآثار، ويستنكرون بعض الصور التي يُفهَمُ من ظاهرها عبادة أصحاب هذه الآثار. فمن يزور قبر النبي (ص)، ويتوجه إلى الله عز وجل، طالبا الشفاعة وقضاء الحاجة بجاهه عند الله؛ نرى من يتهم هؤلاء بعبادة للقبور؛ والحال، بأن هناك فرقا كبيرا جدا، بين عبادة القبر، وبين التوجه إلى الله عز وجل والتوسل بصاحب القبر وجعله واسطة بيننا وبين الله مع الاعتقاد بأن صاحب القبر حي يرزق.
سيرة السلف والصحابة في التبرك بالآثار
ولو رجعنا إلى سيرة الصحابة وتعاملهم مع آثار المصطفى (ص) لم نجد أنهم كانوا يرون بأسا في ذلك، ولم يجدوا حزازة في أنفسهم من التبرك بآثاره، وهذه كتب العامة بين أيدينا تذكر لنا جانبا من ذلك.
الرواية الأولى: ما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة/ ج١/ ص٢٤٤، وابن عساكر في تاريخ دمشق/ ج٧/ ص١٣٧: عن أبي الدرداء أن بلالاً – مؤذن النبي (ص) – رأى في منامه المصطفى (ص) وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه بلال حزيناً وجلاً خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي (ص) فجعل يبكي عند القبر، ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسنان (ع) فجعل يضمهما ويقبلهما.
والرواية الثانية: ينقلها ابن حجر العسقلاني في المواهب اللدنية / ج٤ /ص ٥٨٣، والسمهودي في وفاء الوفا /الجزء الرابع: يقول علي (ع): (قدم علينا أعرابي – الأعرابي هو البعيد عن أجواء الوحي – بعد ما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله! قلتَ فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان في ما أُنزل عليك: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ) وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي.. يقول الإمام علي (ع) – وهو الشاهد على هذه القصة – فنودي من القبر: قد غُفر لك).
ويقول أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به؛ أي ما دمت تريد بهذا وجه الله عز وجل، ولست تعتبر المزور شريكا لله عز وجل، فما المانع من ذلك؟ وقد طلبت السيدة خديجة (ع) من النبي (ص) أن يكفّنها ببردته تبركاً ولكي تحميها البردة من هول المطلع. ولبى النبي (ص) طلبها هذا، وكفّنها ببردته.
وهكذا كان الأمر في عهد ذرية النبي (ص). فالكميت يطلب من الإمام الباقر (ع) قميصه، ويطلب دعبل من الإمام الرضا (ع) جبة، فعندما وصل إلى بغداد، رأى بأن جاريته أصيبت في عينيها، فمسح بقطعة من هذه الجبة فبرئت الجارية.
هل يجوز نسبة قضاء الحوائج إلى غير الله عز وجل؟
ويتبين لنا من مجموع هذه الروايات والأحداث؛ أنه لا مانع من توسيط هذه الذوات المقدسة لأجل قضاء الحوائج ما دام الإنسان لا يرى لهم قدرة بإزاء قدرة الله عز وجل. وقد ورد في القرآن الكريم أن الله سبحانه هو الذي يتوفى الأنفس وتارة ينسب ذلك إلى ملك الموت وتارة يوكل الأمر إلى الملائكة لتقوم بهذه المهمة. فما المانع من أن يقضي الإمام حوائجنا بإذن الله عز وجل كما يتوفانا ملك الموت أو الملائكة بإذن الله عز وجل؟
ثم إن الله عز وجل قد نسب علم الغيب لنفسه في قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)[١] ولكنه مع ذلك يطلع من يرتضي من الأنبياء على ذلك وهو قوله سبحانه: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)[٢]. وقد ذكر أحد العلماء: أن علم النبي (ص) بالغيب ما دام أنه من الله عز وجل؛ فلا يقال: أن النبي يعلم الغيب حقيقة وإنما أطلعه الله عز وجل على الغيب، فالذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى.
التبرك بآثار الأولياء في القرآن الكريم
والآيات الشريفة التي تدل على جواز التبرك بالآثار كثيرة منها قوله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[٣]. والتابوت هو ذلك المهد الذي وضع فيه موسى (ع) ثم ألقي في النيل. فهو صندوق خشبي، لامس بدن نبي من الأنبياء كموسى (ع). ولما حضرته الوفاة وضع فيه الألواح، ووضع فيه درعه، وما عنده من آيات النبوة، فأودعها يوشع وصيه. ولم يزالوا في عز وشرف، ما دام التابوت بينهم؛ فلما عملوا المعاصي، واستخفوا بذلك التابوت، رفعه الله تعالى عنهم. ثم جعل رد التابوت دليلاً على أنه جعل الله تعالى طالوت ملكاً. وتابوت يرفع عقوبة وينزل علامة ليس لشيء إلا لأنه قد لامس بدن ولي ونبي من أنبياء الله عز وجل.
بل أعجب من ذلك قصة السامري وعجله العجيب، حيث خاطبه موسى (ع) بما ذكره القرآن الكريم بقوله: (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)[٤]، وقال صاحب تفسير الميزان رحمه الله: (فسره الجمهور: أن السامري رأى جبرائيل، وقد نزل راكباً على فرس من الجنة قدام فرعون، فأخذ قبضة من أثر جبرئيل، وقيل: -أو- أثر حافر فرس جبرئيل (ع))[٥]. ولو كان لحافر فرس جبرئيل (ع) هذه الخاصية؛ فكيف بهذه الوجودات الطاهرة الذين لم يمت واحد منهم حتف أنفه وإنما استشهدوا جميعا في سبيل الله عز وجل وقد قال سبحانه: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[٦]. وإذا كان الشهيد حي يرزق، فكيف بنبي الشهداء، وإمام الشهداء؟
وإذا أخطأ البعض في التطبيق العملي وتوهم البعض من كيفية تبركه الشرك وعبادة القبور فما ذنب الفكرة والمفهوم؟ هل ينبغي أن نحمل الشريعة والفكرة والمفهوم، سلبيات المطبقين لتلك الفكرة؟
ونحن نعتقد أن التبرك قضية أثبتها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولذلك لا يختلف المسلمون في تقبيل الحجر الأسود – وإن كانوا يستندون في فعلهم إلى تقبيل الخليفة الثاني له – وتقبيل القرآن الكريم تبركا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر المقدسات التي نؤمن بها.
خلاصة المحاضرة
- لقد ثبت بالقرآن والسنة جواز التبرك بآثار الأولياء، وكان الرعيل الأول من الصحابة يتبركون بآثار رسول الله (ص) ولم يكن يعيب عليهم فعلهم أحد، وإنما الاعتراض على هذه القضية هو اعتراض متأخر صدر عن بعض الجهلة بالقرآن والسنة.