- ThePlus Audio
الإمام الرضا (عليه السلام) وخصال العقل الكامل
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد نلت ثواب الزائرين وأنت في منزلك…!
يتمنى الكثير من المؤمنين أن يكون في يوم مولد الإمام الرضا (ع) حاضرا في مرقده الشريف؛ ولكن يمنعه من ذلك عارض يعرض له من عمل أو مرض أو ما شابه ذلك. وهؤلاء وإن كانوا يشعرون في أعماقهم بحسرة الفراق؛ إلا أنه ينبغي أن يعلموا أنهم شركاء مع الزوار في الثواب. لقد روي أن رجلا من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (ع) ذكر عند أمير المؤمنين (ع) حسرته على أخيه الذي أراد أن يكون في معسكر الإمام (ع) ولكنه منعه من ذلك مانع. فقال له الإمام (ع): (فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا)[١]. فإذا كانت نية هؤلاء نية صادقة؛ فلا ريب أنهم سيُؤجرون عليها.
لا أهمية للمكان في السفر الروحاني
إن المؤمن البعيد عن مقام مولاه؛ يشتاق إليه ويشعر بحالة من حالات الحرمان، وقد يتفاعل أكثر من تفاعل من وصلوا إلى الضريح المبارك. وإذا ما رأى المؤمن بثا مباشرا من الحرم الشريف فدمعت عينه وقال: السلام عليك يا مولاي يا أبا الحسن، ستُكتب له زيارة، ولعل ما يُعطى هذا الزائر من بعد على هذا التفاعل والحسرة؛ أكثر مما يُعطى زائره إذا كان ساهيا غير مقبل وغير متفاعل. إن عين الإمام (ع) على القلوب المقبلة والمنكسرة.
وإذا أغمض الإنسان عينه؛ فلا فرق عندئذ أن يكون عند الضريح أو خارجه. فإذا أغمضت عينك في المنزل أو عند الضريح؛ فلن ترى شيئا. والتفاعل القلبي لا يحتاج إلى مواجهة حسية دائما؛ فيكفي أن يعيش الإنسان المشاعر والمعاني فتجري عبرته حزناً او شوقاً. إننا نصلي كل يوم صلواتنا اليومية من دون أن نرى شيئا، وقد يبكي المؤمن وينتحب في صلاته وهو لا يرى شيئا؛ فالرؤية القلبية كافية لتفاعل الجوارح مع هذه المعاني.
التأمل في أحاديث الرضا (عليه السلام) ضرورة للزائر
ومن الأمور التي ينبغي للزائر التأمل فيها؛ كلمات الإمام (ع). وسنذكر بعض هذه الكلمات ونحوم حولها قليلا. من هذه الكلمات، ما روي عنه (ع): (لاَ يَتِمُّ عَقْلُ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ: اَلْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ)[٢]. وفي هذا الحديث لم يذكر الإمام (ع) العبادات والعلوم وما شابه ذلك وإنما ذكر العقل الذي هو أول ما خلق الله سبحانه بحسب الروايات الشريفة. فقد روي في حديث قدسي يخاطب الله سبحانه فيه العقل قائلا: (مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ بِكَ أُعْطِي وَبِكَ أَمْنَعُ وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعَاقِبُ)[٣].
مكانة العقل في بيان الإمام الرضا (عليه السلام)
إن كلمة العقل مأخوذة من العقال، والعقال هو الحبل الذي يعقل به البعير؛ أي يُربط به. فالعقل هو القوة الماسكة بحسب هذا التعريف. فإذا كان الإنسان عابدا؛ ولكنه عندما يرى حراما يُقبل عليه، ولا يمسك نفسه – وبتعبير السواق: ليس له فرامل في حياته – فلا عقل له، أو له عقل معزول. فقد يكون الرجل وزيرا مرموقا، فيتم عزله؛ عندها لا يستطيع أن يُقدم ولا يؤخر شيئا.
إنني أحيانا أخاطب الشاب المبتلى بالمخدرات وأقول له: لماذا تأتي هذا المنكر الذي هو منكر بكل المقاييس والأعراف دينيا وقانونيا ودوليا؟ فعندما يقول لي: ليس الأمر بيدي، أعلم أنه لا خير في هذا الشاب. إن الإنسان الذي يفقد السيطرة على نفسه؛ هو تماما كالسيارة التي تسير من دون فرامل؛ وكلما أسرعت في السير، كلما اقتربت من الهاوية.
فما أجدر بزائر الرضا (ع) أن يطلب من إمامه؛ أن يُعينه على إكمال عقله. بالتأكيد لن ينوب عنك الإمام (ع) في ما ينبغي لك من بذل الجهد والعمل الحثيث وطلب العلم والمعرفة؛ وإنما يُسهل لك السبيل كما قال سبحانه: (وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)[٤]. وشتان بين مجاهدة من دون إعانة ومجاهدة مع إعانة. والفرق بينهما هو كالفرق بين سفينة شراعية تدفعها الرياح نحو مقصدها، وبين سفينة تفتقد هذه الرياح.
لقد ذكر الإمام الرضا (ع) في هذا الحديث أن من صفات العاقل: (اَلْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ). والألف واللام هنا هما (ال) الجنس؛ أي أن كل أنواع الخير مأمول منه. ولم يقل (ع): الخير منه واقع وإنما مأمول؛ لأن المؤمن يُحب أن يمد يد العون لكل من يستطيع؛ ولكنه قد لا يستطيع ذلك لضيق في الرزق أو لسبب من الأسباب. ولكنه في جميع الأحوال يُرجى منه الخير، إن تمكن منه. ولهذا من المستحيل أن يرد المؤمن أخيه إذا قصده بحاجة؛ إلا مع العجز عن قضائها. ولهذا يقول الشاعر في الإمام زين العابدين (ع):
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ
لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ[٥]
فإذا ما راجعك الناس لقضاء حوائجهم ولم تستطع قضائها لأي سبب من الأسباب؛ حاول أن تردهم إما ببذل اليسير وإما برد جميل كما أكدت على ذلك الروايات الشريفة، وقد قال عز وجل: (وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنۡهَرۡ)[٦].
اَلشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ
أما الخصلة الثانية من خصال العقل الكامل: (وَاَلشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ)[٧]. فكل أنواع الشر لا يُمكن توقعها من هذا المؤمن الذي اكتمل عقله. وهذا معنى من معاني تحية السلام التي نلقيها على بعضنا البعض. فإذا قال أحدنا لأخيه: السلام عليك، وما إن غاب عن بصره شرع في غيبته؛ يكون كاذبا في سلامه وخائنا له. إنه يقول بسلامه: أنه لن ينالك مني شر ولا أذى، ولكنه لا يبتعد عنك بضعة أمتار؛ فتُخلف ما وعدته به. إن المؤمن هو من يُؤمن قوله وشره. ومعروف أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أحدهم؛ فإما أن يصاهره أو يجاوره أو يسافر معه.
يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ اَلْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِ
ومن الخصال: (يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ اَلْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَسْتَقِلُّ كَثِيرَ اَلْخَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ)[٨]. لقد سمعت من ابن أحد أولياء الله الكبار؛ أنه كان يدعو لكل طبيب عالجه في حياته. وكان ولده يقول له: يا أبت، لقد قبض الطبيب أجر عمله، فكان يقول له: لقد عالجني هذا الطبيب بغض النظر عن كل شيء؛ فهو يستحق مني الدعاء. ويكشف هذا عن نفس راقية، وعن صفة ينبغي أن يتصف بها كل مؤمن. فلا ينبغي للإنسان أن ينسى إحسان الآخرين في حقه.
لقد تبرع أحد المؤمنين في مشهد الرضا بمبلغ كبير لمشروع معين، وعندما أنجز هذا المشروع؛ اتصلت به وأخبرته بذلك. فقال لي مستغربا: إنني لم أتبرع بهكذا مال. فقلت له: كيف لا تتذكر هذا المبلغ الضخم الذي دفعته؟ فقال لي: إن كنت قد فعلت ذلك فهو قد وقع في محله. لقد كان بحق مصداقا لهذه الرواية الشريفة: (يَسْتَقِلُّ كَثِيرَ اَلْخَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ).
نعمة حوائج الناس
ومن الخصال: (لاَ يَسْأَمُ مِنْ طَلَبِ اَلْحَوَائِجِ إِلَيْهِ وَلاَ يَمَلُّ مِنْ طَلَبِ اَلْعِلْمِ طُولَ دَهْرِهِ)[٩]. وهذا يُشبه ما روي عن الإمام الحسين (ع): (اِعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ اَلنَّاسِ إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ فَلاَ تَمَلُّوا اَلنِّعَمَ فَتَتَحَوَّلُ إِلَى غَيْرِكُمْ)[١٠]. فإذا ما كثرت حوائج الناس إلينا؛ فلنعتبر ذلك حوالة إلهية من الله عز وجل. ولقد ورد في الدعاء: (وَيَا مَن لاَ يَحْتَقِرُ أَهْلَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَيَا مَنْ لا يُخَيِّبُ الملِحِّيْنَ عَلَيْـهِ، وَيَا مَنْ لاَ يَجْبَهُ بِالرَّدِّ أَهْلَ الدَّالَّةِ عَليهِ)[١١]. فهل يسأم بعد هذا مؤمن تترى عليه الحوائج من عباد الله؟ بل يرى الفضل للسائل لا لنفسه. فهو لو أعطى السائل بيتا؛ لا يرى ذلك عظيما في مقابل ما يُعطيه سبحانه من القصور ومن جنة عرضها السماوات والأرض.
التململ من التعلم
وقد ذكر (ع) خصلة مهمة وملفتة: (لاَ يَمَلُّ مِنْ طَلَبِ اَلْعِلْمِ طُولَ دَهْرِهِ). إن البعض من الأكاديميين في الجامعات يُدرس فترة ثم يجلس في منزله بعد التقاعد قد لا يقلب كتابا ولا يدنو من صحيفة. وفي الواقع كان العلم عند هذا الرجل؛ أداة لكسب المال ليس إلا. ولكننا ننظر إلى المراجع لا يفترون عن طلب العلم، ويموت أحدهم وهو يُجيب على الاستفتاءات إلى آخر لحظة من حياته. إن البعض من مراجعنا يتجاوز القرن وهو لا زال في طلب العلم.
الفقر أحب إليه من الغنى…!
ومن الخصال: (اَلْفَقْرُ فِي اَللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اَلْغِنَى)[١٢]. أي أنه لو رأى أن فقره ناتج من إلتزامه بما أمر الله عز وجل ونهى؛ كأن يكون مستقيما في تجارته وتدعوه أمانته إلى الخسارة أحيانا؛ لا يبالي بذلك الفقر أبدا. لقد رأست ذات يوم أحد التجار فقال لي: إنني خسرت رأس المال وما ربحت تجارتي؛ لأنني كنت أعمل في حقل معين يتطلب مني أن أغش كما يغش زملائي ولكنني لم أفعل. والمؤمن لا ينظر إلى سعة المال عنده، وإنما يعتقد بالقانون الذي سنه النبي الأكرم (ص) حيث قال: (إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى)[١٣].
الذل والعز الحقيقيان
ومن الخصال: (وَاَلذُّلُّ فِي اَللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اَلْعِزِّ فِي عَدُوِّهِ)[١٤]. إن المراد بالذل هنا؛ الذل في الموضع الذي يحسن فيه التذلل. فمن موارد الذل التي ذكرها القرآن الكريم: (وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ)[١٥]؛ فالذل للوالدين هو بأمر الله عز وجل والذل بأمر الله وفي سبيله هو عين العزة. ولهذا أقول لمن يستنصحني في أب قاس فحاش: هذا سلوكك، وصبرك عليه؛ تقرب إلى الله عز وجل. بل لو كان الوالدان على رأس حزب كافر؛ فلا ينبغي مقاطعته ومعاملته بالسوء وإنما يقول سبحانه: (وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا)[١٦]. ولو كان الإنسان مع عدو الله عزيزا؛ فلا قيمة لهذا العز، كأعوان السلاطين الذين يعيشون لفترة العز الظاهري؛ الذي يتحول يوم القيامة إلى موقف ذل بين يدي الله.
وكان الإمام الرضا (ع) مظهرا من مظاهر العز. لقد عاش الإمام (ع) في أرض طوس غريبا وحيدا لا أهل معه، وكان محكوما ومخفوراً؛ فأصبح مشهده اليوم من أكثر المشاهد في العالم حضوراً وروعة. تُشير الإحصائيات إلى أن هذا المشهد الرضوي يضم أكبر تجمع بشري في ليالي القدر المباركة. وقد سمعت عن بعض الزوار؛ أنهم يُسلمون على الرضا (ع) من جانب ويلعنون هارون المسمى بالرشيد من جانب آخر.
المؤمن يفر من الشهرة فرارا
ومن الخصال قوله (ع): (اَلْخُمُولُ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنَ اَلشُّهْرَةِ)[١٧]. وليس المراد بالخمول هنا القعود أو اتخاذ موقف سلبي في الحياة. فلا يعني كرهه للشهرة؛ اعتزاله عن الناس والعمل على قضاء حوائجهم وحل مشاكلهم. لقد ورد في المناجاة الشعبانية: (فَنَاجَيْتَهُ سِرّاً وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً)[١٨]؛ فالمؤمن لا يبتعد عن مجتمعه وإن كان في قمة اتصاله بالله سبحانه. والشهرة بالنسبة له آفة؛ فهو يزور الحرم مثلا؛ فلا يأخذ راحته وقد يُثير تجمع الناس من حوله العجب في نفسه، وقد ينجر إلى أفعال لا تُرضي الله سبحانه حفاظا على شهرته.
كل الناس خير مني…!
تقول الرواية: (ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ اَلْعَاشِرَةُ وَمَا اَلْعَاشِرَةُ قِيلَ لَهُ مَا هِيَ قَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لاَ يَرَى أَحَداً إِلاَّ قَالَ هُوَخَيْرٌ مِنِّي وَأَتْقَى)[١٩]؛ فمن العقل ألا تجزم بمستواك الإيماني والأخلاقي. ثم يُبين الإمام (ع) أن المؤمن يصل إلى درجة يرى فيها كل الناس خيرا منه. فإذا رأى عاصيا قال: لعله في باطنه خير مني وأنا الذي صليت البارحة صلاة الليل؛ قد أكون صليتها مجاملة. إنه (ع) يقول: (إِنَّمَا اَلنَّاسُ رَجُلاَنِ رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَتْقَى وَرَجُلٌ شَرٌّ مِنْهُ وَأَدْنَى فَإِذَا لَقِيَ اَلَّذِي شَرٌّ مِنْهُ وَأَدْنَى قَالَ لَعَلَّ خَيْرَ هَذَا بَاطِنٌ وَهُوَخَيْرٌ لَهُ وَخَيْرِي ظَاهِرٌ وَهُوَشَرٌّ لِي وَإِذَا رَأَى اَلَّذِي هُوَخَيْرٌ مِنْهُ وَأَتْقَى تَوَاضَعَ لَهُ لِيَلْحَقَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَلاَ مَجْدُهُ وَطَابَ خَيْرُهُ وَحَسُنَ ذِكْرُهُ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ)[٢٠].
هل ضمنت عاقبتك؟
من موجبات التواضع وعدم الاعتداد بالنفس؛ العلم بأن الأمور بخواتيمها. كم رأينا في التاريخ من أصحاب الأئمة (ع) من انحرفوا عن طريقهم. لقد ابتلي الإمام الرضا (ع) بالواقفية الذين وقفوا على الإمام الكاظم (ع) وأسسوا مذهبا واقفياً قبال مذهب أهل البيت (ع) كأبي حمزة البطائني وجماعته. هذا وقد كان فيما قبل ذلك يحمل الأموال إلى الإمام (ع). فكانت من أسباب إنكاره إمامة الرضا (ع)؛ كثرة الأموال التي كانت في حوزته؛ فقد منعه طمعه بها من تسليمها إلى الإمام الرضا (ع)؛ فادعى ما ادعاه. فمن لا يستطيع أن يُحرز حسن العاقبة؛ كيف يغتر بنفسه؟
كيف أطلب من الإمام الرضا (عليه السلام) حاجتي؟
وبالنسبة إلى ما ذكرنا في مستهل الحديث والشوق الذي يشعر به البعض إلى الزيارة؛ نجد من يصل إلى الضريح وفي قلبه قساوة وفي عينه جفافا. قال لي أحد الزائرين وكان يزور الإمام الرضا (ع) لأول مرة: كنت أتوقع من نفسي أن أنفجر بالبكاء؛ ولكن لم يحصل ذلك. إنني أوصي هؤلاء بالتزكية وبالغسيل الباطني قبل الزيارة. فكما يغتسل أحدنا بالماء قبل الزيارة؛ يغتسل بماء التوبة ليطهر قلبه ويأتي الحرم مستعدا ومقبلا وفي حالة من الطهارة الباطنية.
ثم لا تستعجل بالدخول، وقف على الباب هنيهة، وقل: أأدخل يا الله، أأدخل يا رسول الله؟ فإذا رأيت في قلبك رقة، وفي عينك دمعة؛ فاعلم أنه قد أُذن لك. فإذا لم يرق قلبك؛ فلا تيأس لأنك بباب مستشفى القلب…! فقل: يا مولاي، جئتك من مكان بعيد على أمل هذه الرقة، وعلى أمل توبة تنمها علي؛ فكيف تدعني وهذه حالي؟ وإذا أردت أن تأخذ الحاجة من الإمام الرضا (ع)؛ فأقسم عليه بأمه الزهراء (ع) وبولده الجواد (ع). ولا بأس أن تتمثل بهذه الأبيات:
أيا ضامن الجنات يا خير مرتجى
يؤمل منه الخير في كل لحظة
أرى حاجتي بالباب بعد تشرفي
بطرقي لها فأقضوا لنا كل حاجة
وما حاجتي إلا رضى الله وحده
ومن بعده نيل الرضا من أئمتي
وإني لأرجوا بالبتولة فاطم
وبالتاسع الميمون من أهل عصمتي
جواد بني الزهراء أن تنظروا إلى
عبيدكم المحتاج خير التفاتة
لقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مَا جَفَّتِ اَلدُّمُوعُ إِلاَّ لِقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ وَمَا قَسَتِ اَلْقُلُوبُ إِلاَّ لِكَثْرَةِ اَلذُّنُوبِ)[٢١]؛ ومن مواطن التوبة؛ مشهد الرضا (ع). إننا نعترف بذنوبنا عند المستجار أو الملتزم؛ وننسى بعدها الذنوب الماضية. ولكن في هذا المكان ينبغي استذكار الذنوب الماضية، واستشفاع الإمام (ع) في طلب المغفرة والاستغفار لها.
ما هي علامة قبول الزيارة؟
وإن أقوى علامة على قبول الزيارة؛ وهو التغير الجوهري. يُقال في الرسالة العملية: من المطهرات الانقلاب؛ أي انقلاب الخمر خلاً على سبيل المثال. فإذا تحول خمر الباطن إلى خل؛ فقد تم ما أردت من الزيارة. فعلى سبيل المثال كنت قبل الزيارة ممن تثيرك المناظر الكذائية، ويثير غضبك أدنى مثير؛ وبعدها أصبحت كالجبل لا يهزه الريح. فأنت بعد الزيارة تنظر إلى المناظر المحرمة؛ فتشمئز منها ولا تحتاج إلى مجاهدة. وقد رأيت بعض الشباب الجامعيين وسألتهم عن كثرة ما يواجهونه في الجامعات من الصور المثيرة، فقال لي أحدهم: إنني أرى المتبرجة مخالفة لأوامر ربها؛ ويكفي ذلك لكي تسقط من عيني. إن التأثر فرع الإعجاب، وأنا لست معجباً حتى أتأثر…!
لن تعود خالي الوفاض من الزيارة…!
ولا ننسى أننا لن نرجع بعد الزيارة صفر اليدين. لقد ذكر لي أحدهم أنه رأى رجلا يضع كوبا فارغا أمام الصنابير الإلكترونية التي ينزل منها الماء بمجرد الاقتراب منها؛ ليشرب، وإذا به ينفجر بالبكاء. فقيل له: ليس هذا موضع بكاء؟ فقال: لقد قدمت كوبا فارغا وامتلأ تلقائيا، فكيف إذا ممدت يدي الفارغة إلى الإمام الرضا (ع)؛ أتراها ترجع خالية؟
[٢] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[٣] أعلام الدین ج١ ص١٧٢.
[٤] سورة العنكبوت: ٦٩.
[٥] الفرزدق.
[٦] سورة الضحى: ١٠.
[٧] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[٨] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[٩] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[١٠] مستدرك الوسائل ج١٢ ص٣٦٩.
[١١] الصحيفة السجادية.
[١٢] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[١٣] الکافي ج٢ ص١٤٠.
[١٤] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[١٥] سورة الإسراء: ٢٤.
[١٦] سورة لقمان: ١٥.
[١٧] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[١٨] الصحیفة العلویّة ج١ ص١٨٥.
[١٩] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[٢٠] تحف العقول ج١ ص٤٤٣.
[٢١] علل الشرایع ج١ ص٨١.
خلاصة المحاضرة
- إذا ما راجعك الناس لقضاء حوائجهم ولم تستطع قضائها لأي سبب من الأسباب؛ حاول أن تردهم إما ببذل اليسير وإما برد جميل كما أكدت على ذلك الروايات الشريفة، وقد قال عز وجل: (وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنۡهَرۡ).
- إن المؤمن يُحب أن يمد يد العون لكل من يستطيع؛ ولكنه قد لا يستطيع ذلك لضيق في الرزق أو لسبب من الأسباب. ولكنه في جميع الأحوال يُرجى منه الخير، إن تمكن منه. ولهذا من المستحيل أن يرد المؤمن أخيه إذا قصده بحاجة؛ إلا مع العجز عن قضائها.