الإمامة عند المدرستين
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
الإمامة عند المدرستين؛ مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
إن الإمامة من أهم المسائل العقائدية التي اختلف فيها المسلمون، وهناك مدرستان في فهم نظرية الخلافة بعد النبي (ص). تعتقد المدرسة الأولى بأن النبي (ص) قد أوكل أمر الخلافة إلى الأمة وقد اختارت الأمة عن طريق الشورى الناقصة أو المنتخبة وما شابه ذلك خليفتها وسارت خلفه وحصل ما حصل، وأما مدرسة أهل البيت (ع) فتعتقد أن مقام الإمامة هي امتداد لمقام الرسالة وقد قال سبحانه: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)[١]، فكما أن الله عز وجل لم يترك للبشر أمر اختيار الأنبياء (ع)؛ لم يترك للبشر أمر اختيار الأوصياء.
هل تغيرت الحاجة إلى الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله)؟
ولم تكن لتتغير حاجة الأمة إلى الراعي والقائد بعد وفاة رسول الله (ص)، فالأمة هي الأمة بحاجاتها وتحدياتها، بالإضافة إلى التحديات الجديدة التي واجهت الأمة بعد رحيل النبي (ص) من قبيل الفتوحات ودخول الثقافات الكافرة إلى المجتمع الإسلامي واستحداث المسائل الجديدة وانتقال الفلسفة اليونانية وتلاقح الأفكار والحضارات وكلها أمور تحتاج من حاكم الشرع أن يحدد موقف الشريعة تجاهها، الحاكم الذي يكون على اتصال بالسماء ويستقي علمه من الله عز وجل ورسوله (ص)، وهنا تأتي الحاجة إلى الإمام والوصي المرشح من قبل السماء.
سنة الأنبياء في الاستخلاف وتعيين الوصي
لم تكن الإمامة بدعا في الشريعة الخاتمة، فهذا موسى كليم الله يغيب عن قومه أربعين ليلة ولم يترك أمر أمته من دون راع؛ بل أوصى إلى أخيه هارون كما قال سبحانه وتعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[٢]، فهو وإن كان ذاهبا لتلقي الألواح في أجازة ربانية إلا أنه كان أحرص من أن يهمل أمر أمته، ومن الطبيعي أن يستخلف الرئيس عند غيابه عن شعبه أو الوزير عن وزارته أو المسئول عن دائرته أو الرجل عن أهله من ينوب عنه ممن يثق بهم فهو أدرى بمن هم تحت يده، فهل يترك النبي (ص) أمر أمته عند مغادرته الأبدية – لا كرحيل موسى أربعين ليلة – كما قال سبحانه: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)[٣]، وهو يعلم أنه ليس خالدا في الأمة فقد قال سبحانه: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)[٤] من دون تعيين خليفة وهو يعلم ببذور الخلافات التي كانت في حياته؟
اختلاف الصحابة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والمخاطر التي كانت تحدق بالأمة
ولقد سجل لنا التاريخ صورا كثيرة من الاختلافات التي كانت بين الصحابة والتي وصلت إلى الحد التشاجر، بالإضافة إلى أن النبي (ص) كان يعلم بوجود من هو حديث عهد بالإسلام والمؤلفة قلوبهم والخطر الذي كان يشكله اليهود والنصارى والمتربصين بالأمة من فلول المشركين والمنافقين، فهل من المعقول ألا يعين النبي (ص) الخليفة من بعده لهذه الأمة المرحومة؟
هل قام النبي (صلى الله عليه وآله) بتعيين الخليفة من بعده؟
إن النبي (ص) لم يقصر في تعيين الخليفة منذ أول أيام بعثته الشريفة حتى آخر لحظة في حياته، وكان يغتنم الفرصة بعد أخرى للإشارة إلى الخليفة من بعده، بدءا من حديث الدار وهو في مكة، مرورا بغزوة تبوك واستخلافه علياً (ع) على المدينة، وقد تألم الإمام (ع) لعدم مشاركته النبي (ص) في غزوته تلك حتى علق النبي (ص) على صدره أشرف الأوسمة وهو قوله (ص): (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي)[٥]، ولذلك قال الإمام الباقر (ع): (وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ)[٦]، ولقد بلغ الأمر بالنبي (ص) أن يلقي كساء على أهل بيته (ع) ويحددهم للأمة حتى لا يظن أحدهم أن المعني غير هؤلاء الخمسة الطيبة، ولو درس المسلمون جميعا حديث الكساء لما اختلفوا في أمر الخلافة أبدا.
عدد الخلفاء في كتب أهل السنة
وقد ورد في المصادر المختلفة للمسلمين أن النبي (ص) قد حدد الخلفاء من بعده، ففي صحيح مسلم الجزء الثالث منه يقول الرواي: (دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»)[٧]، وقد ذكر الحديث في هذا الكتاب أيضا بعبارات أخرى، ونلاحظ المضمومن نفسه في صحيح الترمذي الجزء الرابع، الباب السادس والأربعون، وكذلك في مسند أحمد.
ولقد كانت الخلافة مما تشغل بال الكثير حتى قال أحدهم لعبدالله بن مسعود وهو من كبار الصحابة: (يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وﺁله: كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبدالله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم لقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وﺁله فقال: “اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل”)[٨]،
هل يستطيع أهل السنة أن يحددوا لنا اثني عشر خليفة؟
وهل يستطيع أحد من المسلمين بعد ما ذكرنا أن يقدم لنا لائحة بأسماء هؤلاء الخلفاء ممن كانت لهم سيرة مشرفة؟ أو هل نجد في الخلفاء الذين تجاوز عددهم الأربعين بعد رسول الله صلى الله عليه بدءا من الخلفاء الأربعة مرورا بخلفاء بني أمية، كمعاوية ويزيد ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبدالعزيز، ويزيد بن عبدالملك، وهشام بن عبدالملك ويزيد بن عبدالملك وإبراهيم بن الوليد ومروان بن محمد، وخلفاء بني العباس؛ كالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ثم المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر والقاهر والراضي والمستكفي والمطيع لله، والذين كانت لهم الليالي الحمراء في بغداد والشام ومصر اثني عشر خليفة يستحقون لقب خليفة النبي (ص)؟
الأئمة عند الشيعة
وفي المقابل نرى من ذرية فاطمة وأمير المؤمنين (ع) ومن نسل الشهيد بكربلاء (ع) اثني عشر إماما قد دونت سيرتهم ولا يختلف في نزاهتهم أحد من المسلمين، وموسوعة بحار الأنوار قد عكست لنا جانبا بسيطا من حياتهم وهي مجموعة صغيرة – وإن تجاوزت مجلداتها المائة – في مقابل قرنين ونصف القرن من حياتهم الشريفة، وأولهم يزكي آخرهم وآخرهم يزكي أولهم، وقد ابتلى كل واحد منهم بطاغية من هؤلاء الخلفاء في زمانه، فعانى الإمام الكاظم من جور الرشيد والرضا (ع) من جور المأمون، والصادق (ع) من جور المنصور، والسجاد (ع) من جور هشام، ولقد كانوا يمثلون في كل زمان الخط النبوي في الحكم والتفسير والحديث والفقه والمواقف الجهادية في مقابل الخط المعاكس لهم، وفي هؤلاء الخلفاء من لا يمكن تقديمه أمام المشركين والكفار لما قاموا من أفعال ومجاز ومفاسد أخلاقية تندى لها جبين الإنسانية.
انسجام الأئمة (عليهم السلام) طيلة فترة إمامتهم
ولماذا العدول عن الخط الواضح الذي كرسه النبي (ص) في حياته الشريفة صباحا ومساء، وهل من الصدفة أن يأتي اثنا عشر إماما في قرنين ونصف القرن حتى السنة المائتين والستين للهجرة يسيرون باتجاه واحد ويحملون فكرة واحدة، ولم نعهد في تاريخ الأنبياء والمفكرين على طول التاريخ أن توجد هناك ذرية بعضها من بعض تبلغ القرنين ونصف القرن تكون منسجمة في عطائها وفي خطها غير أئمة الهدى (ع).
الصبح أسفر لذي عينين..!
ألا يكفي ما ذكرنا من الروايات والأحاديث لقدح شرارة في العقول وإيجاد جو هادئ للتأمل والتدبر في مسألة الخلافة النبوية؟ نحن لا نبحث عن إفحام أحد؛ فلو تخلى الإنسان عن التعصبات والخلفيات الموروثة ورأى أنه واقف لا محالة أمام رب العالمين حيث لا ينفعه توسله بالآباء والأجداد أو تذرعه بأنه كان تحت تأثير الجو العام وما شابه من الحجج الداحضة يومئذ؛ لرأى الحقيقة ماثلة أمام عينة واضحة كل الوضوح، وقد ورد في تفسير قوله سبحانه: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ)[٩]؛ أن ينظر الإنسان إلى علمه ممن يأخذه، وإلى طعامه الفكر والعقائدي ممن يستحصله، حتى لا يقف أمام الله عز وجل داحضة الحجة وأمام النبي وآله (ع) خجلا في يوم هو من أمس الناس حاجة إلى شفاعته وشفاعة ذريته، وهل يطمع في الشفاعة من كان جافيا تجاه ذرية النبي (ص)؟
خلاصة المحاضرة
- إن الإمامة عند الشيعة امتداد للنبوة، وكما أن الله هو المسئول عن تعيين الرسول حيث يقول: (اللهُ أعلمُ حَيثُ يَجعلُ رسالَتهُ)، فهو المسئول عن تعيين الإمام والوصي من خلال النبي، وقد أخبر النبي بعدد الخلفاء من بعده وأسمائهم وكتب العامة والخاصة حافلة بهذه الأحاديث.
- لماذا العدول عن الخط الواضح الذي كرسه النبي (ص) في حياته، وهل من الصدفة أن يأتي اثنا عشر إماما في قرنين ونصف القرن حتى السنة المائتين والستين للهجرة يسيرون باتجاه واحد ويحملون فكرة واحدة،منسجمة في عطائها وفي خطها؟