الإسراف والتبذير في الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسراف والتبذير في القرآن الكريم
من الآيات البليغة التي تناولت موضوع الإسراف والتبذير في القرآن الكريم وذات تأثير كبير على منع هذه الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت منذ القدم في حياة الإنسان ومستمرة في زماننا هذا وستستمر إلى قيام الساعة، هو ما ورد في سورة الإسراء من قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[١].
والمراد بذوي القربى في الآية الشريفة هم أئمة أهل البيت (ع) الذين لهم حق كبير على هذه الأمة؛ فلهم حق الطاعة والاتباع فيما بلغوا عن الله عز وجل من الأوامر والنواهي، وهذا من باب تفسير الآية ببعض المصاديق وقد اتبع ذلك المفسرون في تفاسيرهم الروائية كالبرهان ونور الثقلين ومن كتب العامة الدر المنثور في التفسير بالمأثور، فتفسير الآيات بالروايات المأثورة أمر شائع بين المفسرين.
ما هو معنى التبذير؟
ولقد وردت الآية في سياق الإنفاق؛ فهي تحث على الإنفاق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل ولكنها تبين أن الإنفاق ينبغي أن يخضع للضوابط فلا يبذر الإنسان في إنفاقه تبذيرا، والتبذير مأخوذ من البذر؛ كالزارع الذي يبذر البذر، وقد شبهت الآية الذي لا يقتصد في إنفاقه بالذي يبذر البذر في الأرض السبخة مثلا أو الأرض الصخرية أو في الطرقات فهو يضع البذر في غير موضعه.
لا تستقل الإنفاق مهما صغر!
والمال في يد الإنسان كالبذر في يد المزارع، فلم يكن ليتجاوز الخبز الذي تصدق به أمير المؤمنين (ع) والسيدة الزهراء (س) والحسنين (ع) الدرهم والدرهمين؛ فلم ينقل لنا أن إنفاقهم كان في زمان مجاعة أو ما شابه ذلك، ولكن الله سبحانه أنزل في شأنهم وتخليدا لإنفاقهم قرآنا وسورة باسم سورة الدهر تتلى إلى يوم القيامة، أليست شجرة الزيتون وشجرة الجوز بعظمتهما وحجمهما الكبير إلا بذرة صغيرة وجدت أرض خصبة وريَّا مناسبا وسمادا كافيا حولتها إلى شجرة عظيمة ذات ثمار قيمة؟ حتى وصفها القرآن الكريم بأنها: (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ)[٢].
الحسرة يوم القيامة..!
ومن دواعي الحسرة يوم القيامة؛ الحسرة على الإنفاق الذي لم يكن في محله؛ فقد يدعو المرء جماعة من المؤمنين ويصرف الأموال ويبذل الجهود هو وزوجته وأولاده أو عائلته وأرحامه؛ ولكنه يرى عمله يوم القيامة قد أصبح هباء منثورا. ومن صور التعذيب النفسي يوم القيامة أن يعرض على الإنسان قصور الجنة ونعيمها ويقال له لو عملت العمل الفلاني أو أنفقت المال الفلاني في سبيل الله عز وجل لكانت هذه كلها لك، ولكنك حُرمتَه بفساد نيتك وسوء سريرتك، وتصور الحسرة التي يعيشها الموظف الذي يقال له بأنك كنت مرشحا للحصول على فيلا كبيرة من أرقى الفلل في هذا البلد ولكنك قد حرمت منها بقرار وزاري صدر بحقك لأنك قد تأخرت خمس دقائق عن العمل؟
ما هو الفرق بين الإسراف والتبذير؟
ولم أجد تعبيرا صريحا في الفرق بين الإسراف والتبذير، ولكن قيل أن الإسراف هو الإنفاق أكثر من الحاجة، فيما التبذير هو الإنفاق مع عدم الحاجة، كالذي يستطيع أن يشبع جوعته بدرهم ولكنه يصرف عشرة دراهم لارتياده المطاعم الفاخرة التي تقبض الأموال لأجل مكانها وديكورها، أو الذي يدعى إلى طعام أو فاكهة أو ما شابه ذلك وهو ممتلئ لا يشتهي ولكنه يستجيب مع ذلك، فهذا إسراف لأنه قد أنفق أكثر من حاجته وأكل أكثر من حاجته، ولكن التبذير هو الإنفاق الذي لا مبرر له ولا حاجة إليه.
لماذا وصف القرآن الكريم المبذرين بإخوان الشياطين؟
ولكن لماذا اعتبرت الآية المبذرين إخوان الشياطين؟ ألم يكن من الأولى عد الزاني أو شارب الخمر أو الذي يمارس السحر أو يرتكب الكبائر من إخوان الشياطين؟ وهذا التعبير من التعابير القرآنية الغريبة كقوله سبحانه: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)[٣]، فلا تأتي كلمة في القرآن إلا ولها مدلولها ومعناها، ولابد أن تكون هناك سنخية بين الشيطان والمبذر حتى تصدق عليهما الأخوة، كوجود سنخية بين الفقر والكفر؛ إذ أنهما يجران الإنسان إلى مسير مخالف للتوحيد والإيمان، وقد ذكرت الآية علة التقارن هذا بين المبذر والشيطان، فيقول سبحانه: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[٤]، والمراد بالكفر هنا كفران النعمة وهو الجامع المشترك بين المبذر والشيطان.
الاستنكاف من عبادة لحظة..!
لقد أمد الله سبحانه إبليس بقدرة فائقة جعلته يعبد الله ستة آلاف سنة من دون أن يزاحمه في ذلك مزاحم ودون أن يتعرض فيها لإختبار ولو بسيط، وما أشقاه من مخلوق سجد لله السجدات الطويلة وهو الخبير المتمرس في العبادة وفي الركوع والسجود؛ وإذا به يستنكف عن سجدة واحدة بأمر مباشر من الله عز وجل لا بأمر من الملائكة ولا من آدم نفسه وإن كنا نعتقد أن الأنبياء لا يصدرون إلا عن أمر الله عز وجل، ويستنكف بعد آلاف السنين من العبادة عن عبادة لحظة، ويا لها من لحظة قلبته من أعبد العابدين إلى أشقى الأشقياء.
هل الإنسان حر في التصرف في أمواله؟
وكما أن الشيطان كفر بأنعم الله عز وجل؛ فكذلك المبذر الذي أغدق عليه الله عز وجل من رزقه وأسبغ عليه نعمته ولكنه كفر بها وأساء فيها التصرف. ليس الإنسان مخولا فيما يملك كل التخويل، فيظن عندما تنهاه عن التبذير أنه مملك مخول له الحق في التصرف في المال كيفما يحلو له ويقول: أنه في عصر الحرية ولي أن أفعل ما أشاء وأضع المال حيث أحب. أفهل يحق لمسؤول الخزينة في البنوك والذي يقوم بتحقيق المعاملات من خلال سحب أو إيداع أو تحويل أموال للعملاء أن يتصرف في الأموال ويشتري بها ما يشاء؟ بالطبع ليس له حق في ذلك وإنما هو وكيل على هذه الأموال.
إن المبذر يخالف قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[٥]، وإنما ينبغي له أن يتصرف في أمواله كما رسمه الله سبحانه وتعالى، وقد ضرب أئمتنا (ع) أروع الأمثلة في هذا المجال؛ فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَلْقَصْدَ أَمْرٌ يُحِبُّهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّ اَلسَّرَفَ يُبْغِضُهُ حَتَّى طَرْحُكَ اَلنَّوَاةَ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ وَحَتَّى صَبُّكَ فَضْلَ شَرَابِكَ)[٦]، وقد كانت المدينة أرض نخيل فكان يحث الإمام أصحابه على الاحتفاظ بالنواة وزرعها أو دفعها إلى من يزرعها.
التبذير باسم البروتوكول..!
وللأسف نرى البعض يصب فضل شرابه وعصيره الذي قد يكون من أجود العصائر، فتراه يشرب نصف الكأس ويهريق النصف الآخر، وعندما تسأله عن علة فعله يقول: إنه بروتوكول! ويعتقد أنه إذا شرب الكأس كاملا يظن به أنه إنسان نهم لم يتمتع بالنعمة في حياته، وهذا عرف باطل لا أساس له في الدين. وكم يهدر الطعام والشراب في عصرنا هذا وفي جميع البلاد الإسلامية؟
متى يصبح الشيطان قرين الإنسان؟
وكما أن هناك ملائكة في عالم الخلق كذلك هناك الشياطين وأولادهم؛ فالشياطين تتكاثر كغيرها من المخلوقات، قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ)[٧]، وتذكر بعض الروايات أن للشيطان خاصية التلقيح الذاتي فهو يتكاثر بنفسه كالخلايا في عالم الطبيعة، وعندما ينحرف الإنسان ويمعن في المعصية يفسح المجال للشياطين أن تقترن به وتلصق به كما تلصق بعض الحشرات كالقمل بالإنسان، وقد ذكر ذلك القرآن بصراحة فقال: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[٨]، ولم تقل الآية من يكفر بالرحمن أو من يقتل إنسانا وإنما قالت من يعش عن ذكر الرحمن؛ أي يغفل ويعرض عن ذكره سبحانه.
والتبذير من موجبات التصاق الشياطين بالإنسان كما ذكرت ذلك الآية بوضوح، وقد يستهين الإنسان بالعمل؛ فيعمد إلى الطعام فيجعله في المزبلة حيث لا يراه أحد أو يسمح له العرف بذلك، وهو غير ملتفت إلى ملكوت عمله هذا وهو أنه أصبح أخا للشيطان وملاصقا له وقرينا. كما أن لكل عمل ملكوتا أو صورة غيبية لا يراها الإنسان، كأكل درهم من مال اليتيم وإن كان اليتيم ثريا إلا أن القرآن وصف ذلك بأنه أكل للنار، أو المستثمر الذي يذهب إلى البنك وظاهر العمل أنه يستقرض مالا لمشروعه ويشرب الشاي مع مدير المصرف أو القهوة وهو لا يعلم أنه ملكوت عمله هذا تخبط وجنون ومس من الشيطان، ألا تذكر الآية أن المبذر كالشيطان في كونه كفورا؟ والكفور هو المبالغ في الكفران، لوضعه النعمة في غير موضعها.
من أسباب التبذير
ومن موجبات الإسراف والتبذير عدم الإحساس بحالة العبودية لله عز وجل. إن القرآن الكريم يصف أنبياء الله العظام بقوله: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[٩]، لم يذكر القرآن لهم صفات معقدة بل اكتفى بكونهم عبيد لله عز وجل، ولو أدركنا زمن الرقيق والعبيد لرأينا العبد كيف يباع ويشترى ويستخدم من دون أن يكون له رأي ولم يكن يملك من أمره شيئا، قال سبحانه: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ)[١٠]وقد يستخدم الإنسان عبدا عشرين سنة ثم يبيعه بعد ذلك في سوق النخاسين وهو السوق الذي ويباع ويشرى فيه العبيد، وقد يكون هذا العبد حكيما كلقمان أو مثقفا أو وجيها عند الله عز وجل فيباع بأرخص الأثمان ولا يمكنه أن ينبس ببنت شفة! ولذلك الأبوق من المحرمات العظيمة وهو فرار العبد من مولاه وسمى العبد في هذه الحالة آبقا.
ألا يجدر بالإنسان أن يعيش هذه العبودية تجاه رب العالمين؟ هذا والقرآن يستعمل أرق الخطاب مع بني آدم فيقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[١١] أو قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[١٢]، وكأن الله عز وجل محتاج والعياذ بالله لأموالنا حتى يستقرضنا وإنما يتحبب إلينا لنعود إلى رشدنا. ولا ينبغي أن نتصور العبد هو الرجل الذي انفرد في زاوية من صومعة يلبس جلبابا من صوف ويمسك بيده سبحة من ألف حبة وعلى جبينه آثار السجود وإنما العبودية هي التسليم المحض لإرادة الله عز وجل كما كان كذلك الأنبياء الذين وصفهم القرآن بالعبودية في كتابه.
ولذلك لا يرى أولياء الله عز وجل أنهم يقدمون شيئا لله سبحانه مهما عظمت تضحياتهم؛ فلا يرى المجاهد الذي يساق نحو نحو حبل المشنقة أو الذي يقتحم الأعداء في ميادين القتال أنهم يقدمون شيئا عظيما، ألم نقرأ عن تلك المرأة من أصحاب الأخدود الذين ألقوا في النار أنها قالت وهي تلقى في النار أن ذلك قليل في جنب الله عز وجل؟ فهي لم تكن ترى العذاب إلا شيئا بسيطا ينقلها من الفناء إلى البقاء.
خلاصة المحاضرة
- المال في يد الإنسان كالبذر في يد المزارع، فلم يكن ليتجاوز الخبز الذي تصدق به أمير المؤمنين والسيدة الزهراء والحسنين (ع) الدرهم والدرهمين؛ فلم ينقل لنا أن إنفاقهم كان في زمان مجاعة أو ما شابه ذلك، ولكن الله أنزل في شأنهم وتخليدا لإنفاقهم سورة باسم سورة الدهر تتلى إلى يوم القيامة.
- إن القرآن الكريم قد اعتبر المبذر أخ الشيطان لأنهما يشترك في صفة واحدة ألا وهي كفران النعمة!