استشعار لذة العبادة من أسباب الاستقامة على الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم
من موجبات الاستقامة على الطريق
من موجبات الاستقامة على الطريق؛ تحسس الجوائز المعجلة. إننا نلاحظ في عالم الحيوان أصحاب الصقور ممن يهتمون بتربية الصقور وترويضها أنهم عندما يرسلون الصقر للاصطياد؛ يرفرف الصقر على عين الضحية مما يجعلها لا ترى الطريق أمامها فيأتي الصياد لينقض عليها وعندما يذبح الفريسة من غزال أو غيره يقتطع منها قطعة فيناولها للصقر كجائزة له على صيده ولكي يعلم أن له جائزة كلما اصطاد لصحابه وكذلك هي تربية كلاب الصيد.
محفز الإنسان للاستمرار في العمل والعبادة
وهذه طبيعة في كل ذي نفس وروح. وبني آدم هم بحاجة إلى مثل هذه المحفزات. ولكن ما الذي يحفز الإنسان؟ إن الذي يحفز الإنسان هي الملاذ العاجلة. فإن الوصول إلى الحور العين قد يستغرق آلاف السنين؛ لئن الإنسان سيكون في البرزخ بعد الموت وبعد البرزخ يكون اليوم فيه كما قال سبحانه: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)[١] وفي آية أخرى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)[٢]؛ فلا نعلم متى ندخل الجنة ولذلك ينبغي أن نستشعر لذة الطاعة.
الجلوس في المسجد أحب إلي..!
لقد رأيت في مجلس شابا لم أكن أتوقع منه ما صدر عنه؛ فقد تحدث إليه والده أمامي وقال: إننا عازمون على سفر كذائي أو رحلة كذائية، فقال الشاب: أنا لست فرحا بذلك. فسأله عن علة ذلك فقال وتفاجأت بما قال: لأن ذلك يحرمني من الحضور في المسجد. إن الناس يتسابقون في الصيف للسفر إلى الجبال المرتفعة أو الوديان الجميلة أو المياه الجارية ولكنه يفضل البقاء للحضور في المسجد. وقد قلت له: هل تستمع حقا في المسجد أكثر من استمتاعك في السفر؟ فقال لي من دون تكلف بل على فطرته: نعم. وهنيئا للمؤمن الذي يصل إلى هذه الدرجة. فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اَلْجَلْسَةُ فِي اَلْجَامِعِ خَيْرٌ لِي مِنَ اَلْجَلْسَةِ فِي اَلْجَنَّةِ لِأَنَّ اَلْجَنَّةَ فِيهَا رِضَى نَفْسِي وَ اَلْجَامِعَ فِيهِ رِضَى رَبِّي)[٣].
وكذلك يكون قيام الليل إذا أصبح ممتعا. إنني أعرف شابا متزوجا قال لي ذات يوم: إنني أنتظر الليل في النهار لا للأنس بالزوجة؛ بل للذائذ الليل. وجدير بنا أن نسأل الله عز وجل أن يذيقنا ذلك. إن البعض من الحجاج يبتلي في سفره بمرض مزعج قد يعاني منه لأشهر أو يصاب عند رمي الجمرات بالحجارة فيرجع وآثار الجراح في رأسه، فيقول: سوف لا أذهب إلى الحج في السنة القادمة، ولكن عند حلول موسم الحج يكون من أول المسجلين في الحملات. وإن قيل له: لماذا عدلت عن نيتك؟ يقول: كيف أحرم نفسي من لذة عرفة وهي لذة لا تعوض؟ وهنيئا لمن أقترنت عبادته باللذائذ.
من أسباب الاستقامة مرافقة المستقيمين
ومن أسباب الاستقامة مرافقة المستقيمين ومجالستهم. ولذلك عندما نقرأ سير العلماء وتراجم كبار الأولياء نرى في كثير من الأحيان وجود أستاذ متميز دفعهم للسير في هذا الطريق. هذا هو السر في تميز أصحاب الأئمة (ع) عن غيرهم. ومنهم ذلك الذي روى دعاء رجب: (يا من أرجوه) والذي فقد بصره من طول السجود. ولقد كان إمامنا زين العابدين (ع) وبعض أصحاب الأئمة من أهل السجود الطويل؛ فوجود الإمام (ع) يربي وكذلك وجود العالم.
لقد كنا في سفرة إلى قرية من القرى ووجدت فيها رجلا متميزا قل ما رأيت مثله وقد كان من رعاة الغنم. قلت له: يا فلان كيف وصلت إلى هذه الرتبة؟ فبعض العلماء يذهب إلى تلك القرية لزيارته. فقال لي: لقد زارنا منذ زمن بعيد عالم تكهرب أهل القرية كلهم بوجوده وأنا منهم. إن عالما يزور قرية وإذا براع من رعاتها يصبح من كبار العلماء وينال يقظة باطنية ونورا في قلبه. ولذلك يقول أحد العلماء: أنه ما ورد في الأسلام حث على مستحبين كهذين المستحبين قيام الليل بما وعد عليه سبحانه مقاماً محمودا وصلاة الجماعة. حتى لقد ورد في فضلها أن الركعة فيها لا يحصي ثوابها إلا الله عز وجل. ولكن لماذا الجماعة؟ لأنك ترى فيها الوجوه المستقيمة التي تتأثر بها. ولا يمنعك عنها سراء ولا ضراء ولا حر ولا قر. وكذلك الأمر في الحث على الحج والعمرة والاعتكاف. إن رب العالمين يحب العبادة الجماعية لأنها من موجبات الاستقامة.
من موجبات الاستقامة؛ الابتعاد عن أجواء سلب الاستقامة
إن الذي لديه بنية ضعيفة ولا يملك من الكريات البيضاء ما يكفي لمواجهة الجراثيم، يقال له: إنك إنسان ضعيف البنية وتتأثر بأقل هجمة جرثومية فلا تسافر إلي البلاد التي فيها المستنقعات الموبوئة. وكذلك الذي يرى في نفسه ضعفا لا يقصد مواطن الضعف. لقد كنت أتأمل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)[٤] ورأيت أنه قد يتفق في العمل وجود زميلات يبتلى بهن الإنسان. فقد تجلس أمام الحاسوب للبحث عن شيء وإذا بزميلتك تأتيك بدعوى المشاركة في البحث وتقترب منك حتى يكاد وجهها يلتصق بوجهك وهذا بالطبع من مثيرات الفتنة. ولذلك يقال: لا تجلس على كرسي قد نهضت عنه امرأة للتو؛ حتى لا تستشعر حرارة بدنها لأنها تثيرك. وإن كانت آية الحجاب تعني وضع الحجاب إلا أن القلب يتأثر برائحة المرأة وصوتها ولذلك قال سبحانه: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[٥]، ولذلك فإن المؤمن شفيق بنفسه ورفيق بها ولا يعرضها لمواطن الاختبار.
التضرع إلى الله عز وجل في طلب الاستقامة
سل الله عز وجل متضرعا أن يثبتك على طريق الاستقامة، وقد يقول قائل: أنني أنسى التضرع والسؤال. والحال أنه يطلب ذلك في اليوم خمس مرات بعدد الصلوات الخمس ولكنه قد نسي ذلك لأننا لا نطلب ذلك إلا لقلقة. ألسنا نقرأ في سورة الفاتحة – التي قال عنها سبحانه: (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي)[٦] وروي أنه: (لاَ صَلاَةَ إلاّ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ)[٧] – قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[٨]؟ إنك تبدأ هذه السورة بالتملق والمدح والثناء لطلب واحد وهي الهداية إلى الصراط المستقيم، فسل الله عز وجل أن يثبتك على صراطه.
خلاصة المحاضرة
- من أسباب الاستقامة مرافقة المستقيمين ومجالستهم. ولذلك عندما نقرأ سير العلماء وكبار الأولياء نرى في كثير من الأحيان وجود أستاذ متميز دفعهم للسير في هذا الطريق. هذا هو السر في تميز أصحاب الأئمة (ع) عن غيرهم. ومنهم ذلك الذي روى دعاء رجب: (يا من أرجوه) والذي فقد بصره من طول السجود.