– إن على المؤمن أن يضع شعارا لنفسه في شهر رمضان، وأن يسأل الله -عز وجل- أن يجعل شهر رمضان هذا، خير شهر مر عليه.. وليلة القدر هذه السنة، خير ليلة قدر مرت عليه!.. لأن الإمام علي (ع) قال: (مغبون من تساوى يوماه)!.. وعليه، فإن المغبون أيضا من تساوى شهراه، والمغبون من تساوت سنتاه!..
– إن عليا –عليه السلام– بدأت حياته من البيت (الكعبة)، وانتهت حياته في المسجد.. والحسين –عليه السلام– في يوم عاشوراء وهو يقاتل، كان يرقب أول وقت الصلاة.. وقسمٌ من شهداء كربلاء لعلهم استشهدوا في حال الوقوف أمام الحسين –عليه السلام–، حينما صلى بهم صلاة الخوف.. فالأئمة –عليهم السلام– دماؤهم اختلطت بذكر الله –عز وجل–: يقفون في الميقات يبكون، ويقولون: نخشى أن يقول ربنا: لا لبيك، ولا سعديك!.. هذه هي حركة أئمتنا –عليهم السلام-.. والإمام علي –عليه السلام– في معركة صفين، وفي معركة النهروان، وفي غيرها من المعارك.. لم يؤخر صلاته، وكان يؤكد على هذه الشعيرة.. ونحن إذا جمعنا بين هاتين الخاصيتين؛ فزنا وربحنا!..
– إن من أسباب الندامة يوم القيامة (وإن أشد الناس حسرةً يوم القيامة: من وصف عدلاً، ثم خالفه لغيره)!.. نحن في السنة كم نلبس ثياب السواد والحداد على أهل البيت –عليهم السلام–؟.. والذين يشاركون في مواكب العزاء من كل صنف: منهم من بلغ الغاية في الإيمان، ومنهم من هو حديث عهدٍ بالإيمان، ومنهم من بلغ الدرجات العالية في التقوى، ومنهم من هو من الممكن أن يكون عاكفاً على بعض المعاصي.
– إن عليا –عليه السلام– استشهد في ليلة الجمعة، وفي ليلة من ليالي القدر.. وعلينا أن نكون أوفياء له فيما رسمه وخططه لنا، فلنعاهد الله –عز وجل– على بعض المبادئ!.. فبعد شهر رمضان تُرفع المائدة الإلهية، ونخرج من هذه الضيافة، والشياطين المغلولة تفتح أغلالها لتنتقم منا، وتصادر مكاسبنا!.. فالإنسان كلما زاد إيماناً، كلما زاد طمع الشياطين فيه.. الشيطان يريد زبائن مؤمنين ملتزمين، وإلا فإن الذي يرخص بنفسه، لا يحتاج إلى طبل ومزمار.. والشيطان يتلذذ في أن يغتال ضحيته.. وعليه، فإننا نرى أن شهر شوال هو شهر الانتكاسة.. لأن قبل شهر شوال هناك شهر رمضان، وقبله شعبان، وقبله رجب، وقبله أيام الفاطمية، والربيعين، وصفر، ومحرم، وذو الحجة.. وهذه الأشهر كلها فيها محطات عبادية.. فهذا الشهر شهر الجفاء، وشهر الإدبار، وشهر الانتكاسة.. وبالتالي، فإنه علينا أن نستعد لمواجهة هذه الانتكاسة!..
– إن انتكاسة الإدبار بعد الإقبال معروفة.. فالحجاج في موسم الحج يرجعون إلى أوطانهم، وترى هذا زل، وهذا ضل، وهذا ارتكب حراماً، وهذا عمل فحشاء.. {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.. من السهل أن يسير الإنسان في موكب في السنة مرةً أو مرتين: أيام عاشوراء، وأيام الأربعين، وفي وفاة أمير المؤمنين (ع).. ولكن هل هذا معنى الاستقامة؟!.. أن نخصص في السنة ثلاثة أيام أو أربعة أيام، لإظهار الولاء؟.. من منكم يعيش في السنة على قوت ثلاثة أيام؟!.. أحدنا يقتات في اليوم كذا مرة، ومع ذلك قد تبدو منه رائحة فم كريهة.. وبعض الأوقات يتعمد المجيء إلى المواكب والمراسم المباركة، لتفكيك وجدانه، وضميره.. وبعض الناس يأتي إلى هذه الأماكن ليقول: يا رب!.. نحن عاكفون على الحرام، ولكن بين فترة وفترة نطل عليك ونتفقدك، عسى أن تغفر لنا!.. هو يأتي إلى هذا المكان مع نية البقاء على المعصية.. أليس هذا استهزاء برب العالمين؟!.. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}!..
– إن العاطفة جيدة، وهي بمثابة المناخ الملائم للحركة، ولكن ليست هي حركة.. لو أن الأم من الصباح إلى المساء تبكي على ولدها عواطف، ولا تسقيه لبناً ولا حليباً، ولا تغسله ولا تنظفه.. هل تعتبر هذه الأم أما مثالية؟!.. إذا كانت العاطفة لا تترجم إلى عمل ما الفائدة من ذلك؟!.. فإذن، إن العاطفة جيدة، ولكن العاطفة الصادقة من دوافع العمل.. النبي (ص) لم يكن شاعراً، والأئمة –عليهم السلام– لم يتخذوا الشعر وسيلة للتبليغ، ولكن بعض الأوقات كانوا يستشهدون بالأشعار البليغة.. عندما يصل الإمام الصادق –عليه السلام– إلى هذه الحقيقة يقول:
تعصي الإله وأنت تُظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديعُ
لــو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
ويقول تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وعليه، “إن كنتم تحبون الحسين، فاتبعوا الحسين”، و”إن كنتم تحبون علياً، فاتبعوا علياً”.. قال الإمام الباقر (ع): (ما شيعتنا إلا من اتقى الله، وأطاعه).. فإذن، علينا بالتقوى ثم التقوى!..
– إن الإنسان لو تحكم في هذا المثلث المبارك والمشؤوم في آنٍ واحد: العينان، والأذنان، والفم.. هذا المثلث الذي هو شبر في شبر، فإن معظم المحرمات هذه الأيام تأتي منه: النظر، والاستماع، والكلام الحرام.. لو سيطرنا على هذه الروافد الثلاثة، لانتهى الأمر!.. وخصوصاً النظر؛ لأنه هو سبب الانحراف.. يقول القرآن الكريم: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، والخطوات هي: نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء.
– إن النظرة سهم من سهام إبليس، وأغلب شبابنا –هذه الأيام – ورطتهم في النظرة، وما بعد النظرة.. فلماذا لا نحاول أن نسيطر على هذا الرافد المحرم؟.. يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.. والإنسان إذا حاول أن يصل إلى ملكوت الحرام، فإنه سيصل إلى درجة يزهد فيها بالحرام، ويرى الحرام قبيحاً.. فالذي يرى الغيبة قبيحة، وكأنه أكل للحم الميتة، هل يحتاج إلى واعظ؟.. والإنسان الذي يأكل مال اليتيم كأنه يأكل نارا، كما ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}.
فإذن، لنحاول أن نصل إلى ملكوت الحرام، بحيث الإنسان يستقذر الحرام استقذاراً.. والإنسان المشغول قلبه بحب الله –عز وجل– وله أنسه في جوف الليل، ويرفع يديه إلى السماء ويقول: (إلهي!.. العفو، العفو)، ويستغل الليل لمناجاة المحبوب (إلهي!.. أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك).. الذي يناجي ربه في جوف الله، ويتخذه حبيباً، هل يغرم بالصور الفانية المحرمة؟.. بل يزهد في الحرام أيما زهد!.. أحدهم أكل طعاماً هنيئاً، وعلم بعد ذلك أن الطعام مشتبه من حيث الخمس، لا من حيث الحرمة.. ذهب واستفرغ الطعام واستخرجه من جوفه؛ لئلا يبقى في جوفه طعاماً محرماً.
– إن رب العالمين الغني عن الخلائق، يفرح بالعبد التائب.. عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول: (إن الله -تعالى- أشد فرحا بتوبة عبده، من رجل أضل راحلته ومزاده في ليلة ظلماء فوجدها.. فالله أشد فرحا بتوبة عبده، من ذلك الرجل براحلته حين وجدها)!.. كم فرح هذا الإنسان الذي وجد النجاة بعد اليأس!.. يقول رب العالمين أشد فرحاً بتوبة هذا الإنسان وهو الغني عن الخلائق.. رب العالمين في عرشه في مقعد الصدق، عنده النبي وآل النبي، ما شأنه بي وبك؟.. ولكنها التوبة!.. لنحاول هذه الليلة ببركة شهيد هذه الليلة، أن نتوب إلى الله –عز وجل– توبة نصوحة.. ولكن المشكلة في العود (فَكَمْ أَتُوبُ وَكَمْ أَعُودُ)!.. إن الله -عز وجل- يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}، ولكن عندما يصل إلى التائبين يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.. فرب العالمين يحب عباده، والمجالس الحسينية من مظان الرحمة الإلهية.
– إن المؤمن عندما يرق قلبه، عليه أن لا ينسى الدعاء لفرج الإمام!.. إذ ليس هنالك قلب في عالم الوجود كقلبه –صلوات الله وسلامه عليه-.. فعلي –عليه السلام– عندما يسمع نزع خلخال من رجل ذمية في بلاد المسلمين، يقول: (… ولقد بلغني أن الرجل منهم، كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها، ما تمتنع منه إلا الاسترجاع والاسترحام… ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن أمرأ مسلما مات من بعد هذا آسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا).. وإمامنا من سنة ٢٦٠ من الهجرة إلى يومنا هذا كم يتجرع من الغصص!.. هذا القلب مليء بالهموم والآلام!..
– إن الإمام الصادق –عليه السلام– عندما يتذكر ولده المهدي، ولم يولد بعد يقول: (سيدي!.. غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي.. سيدي!.. غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد، يفني الجمع والعدد.. فما أحس بدمعة ترقى من عيني، وأنين يفتر من صدري، عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا، إلا مثّل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدها وأنكرها، ونوائب مخلوطة بغضبك ونوازل معجونة بسخطك).. فالإمام الصادق (ع) يبكي لما يجري على ولده في زمان الغيبة، ولو كشف لكم الغطاء لرأيتم قلباً متقرحاً، وعيوناً باكيةً.. إذ تكفيه مصيبة جده الحسين!.. يومياً: صباحاً ومساءً الحجة المهدي (عج) يخاطب أبا عبد الله قائلا: (السلام عليك يا جداه!.. لئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة ناصباً.. لأندبنك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً).
– إن الإمام –عليه السلام– يعيش ما يعيش في هذا العصر، فلا نزيده ألماً؛ مراعاة لقلبه، فهو أبونا في هذا العصر.. ففي دعاء الافتتاح نقول: (اللهم!.. إنا نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة إمامنا، وشدة الزمان علينا).. إن البعض يهوى فتاة، ويعشقها إلى حد الجنون، ولكن الأب يقول له: لو تزوجت هذه الفتاة، فلست ابني!.. فعندها يصرف النظر مراعاة لأبيه.. ونحن أيضاً علينا أن نراعي هذا الأب الشفيق على الأمة، نراعيه بالدعاء له بالفرج: (اللهم!.. كن لوليك الحجة ابن الحسن ولياً وحافظاً …)، فلو أن الإمام في يوم من الأيام قال: يا رب!.. هذا الولي يدعو لي طوال عمره، اللهم!.. كن له ولياً وحافظاً وناصراً ودليلاً!.. هل عند ذلك تبقى مشكلة في حياة هذا الإنسان؟!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.