إحياء الأمر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
دعوة أهل البيت (ع) لإحياء الأمر
لقد ركز أئمة أهل البيت (ع) وعلى رأسهم الإمام الصادق (ع) على ضرورة إحياء أمرهم وتعلم علومهم ونشرها، وقد وردت كلمة إحياء الأمر أيضا على لسان الإمام الرضا (ع)، وسنتناول بالتفصيل ما ورد عنهم (ع) في أحياء أمرهم وكيفية ذلك.
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) في وصية له لأحد أصحابه وهو خثيمة أنه قال: (أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا اَلسَّلاَمَ وَأَوْصِهِمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ.. وَأَنْ يَتَأَلَّفُوا فِي اَلْبُيُوتِ وَيَتَذَاكَرُوا عِلْمَ اَلدِّينِ فَفِي ذَلِكَ حَيَاةُ أَمْرِنَا رَحِمَ اَللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا)[١]، إن الإمام يريد أن يصل هذا الخطاب إلى كل الشيعة في كل زمان، ثم هو يجعل في مستهل وصاياه تقوى الله عز وجل، ثم يبين بعد ذلك أهمية اجتماع الشيعة وتزوارهم مما يكون مقدمة للحديث عن فضائلهم وعلومهم وإحياء لأمرهم ثم يدعو (ع) لهؤلاء الذين يحيون أمرهم باجتماعاتهم ويبين في آخر الحديث أن الشفاعة لا تكون إلا باستحقاق من الشخص وهم لا يشفعون لكل أحد فلا يتوهم متوهم أنه بترك العمل ينال شفاعتهم، فيقول (ع): (وَ أَعْلِمْهُمْ يَا خَيْثَمَةُ أَنَّا لاَ نُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِلاَّ بِالْعَمَلِ اَلصَّالِحِ وَأَنَّ وَلاَيَتَنَا لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِالْوَرَعِ وَاَلاِجْتِهَادِ وَأَنَّ أَشَدَّ اَلنَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ)[٢].
من هم الذين تشملهم شفاعة أهل البيت (ع)؟
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أيضا أنه قال في أخريات حياته الشريفة بعد أن أصبح على جناح من فراق الدنيا: (إِنَّ شَفَاعَتَنَا لاَ تَنَالُ مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاَةِ)[٣]، فمن الخطأ أن يعلق الإنسان آماله على عالم الغيب ويتكل على شيء غير العمل الصالح فإن قصر في بلوغ الهدف بعد الجهد والسعي يأتي الإمام ليستنقذه بالشفاعة.
ولا ريب أن الورع من ثمار الولاية؛ فليست الولاية حالة شعورية أو كلمة يتلفظها الإنسان بل هو فعل وعمل دؤوب في سبيل الوصول إلى الكمالات التي يدعو إليها الولي والإمام (ع)، وقد بدا ذلك جليا في نهاية حديثه الشريف أن أشد الناس حسرة يوم القيامة من اكتفوا من الولاء باللفظ والكلام ولم تؤثر هذه الولاية في سلوكهم وأفعالهم ولم تنهاهم عن منكر ولم ترغبهم في معروف.
كيف نحيي أمرهم (صلوات الله عليهم)؟
والإمام الرضا (ع) قد بين لنا كيفية إحياء أمرهم (ع)، فيقول في جواب من سأله عن كيفية هذا الإحياء: (يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا)[٤]، وقد حث الإمام المؤمنين على دعوة الناس من خلال نشر أحاديثهم الشريفة، فدعوة الناس إليهم لا تتم إلا عن هذه الطريقة أو الدخول في حديث مباشر معهم وتبيين الحقيقة للمخالفين والطعن في أعدائهم بما يثير الطرف المقابل للتحقيق في الدين والوصول إلى الحقيقة.
فعلى سبيل المثال يقوم المؤمن بتبيين مصاديق الحديث النبوي الشريف الذي يتفق عليه السنة والشيعة في أن الخلفاء بعد رسول الله (ص) اثني عشر خليفة كلهم من قريش، من خلال تبيين سيرتهم وكيفية تعاملهم مع الأمة.
وهنا لابد من الإجابة على تساؤل مهم حول إحياء الأمر وهو هل أن أمر الأئمة (ع) وأمر ولايتهم أمر ميت حتى يحتاج إلى من يحييه؟ كيف يكون ذلك وقد بين القرآن الكريم فضلهم وسيظهر أمرهم في يوم القيامة جليا حيث تتجلى شدة العناية الإلهية بهم؟
وهنا يجيب العلماء أن مقام الثبوت يختلف عن مقام الإثبات، وهو أن الشيء قد يكون ثابتا للإنسان نفسه كأن يكون مجتهدا ولكن لا يعلم أحد بذلك أو لم يثبت عند الناس اجتهاده، فيمكن القول عندها أنه مجتهد في مقام الثبوت، ولكن عندما يثبت اجتهاده شاهدان عادلان ويقيمان على ذلك البينات يصبح مجتهدا في مقام الإثبات أو مقام الإبراز، ففي مقام الثبوت اجتهاده حي مع نفسه وميت مع الناس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأئمة (ع) فهم أئمة في مقام الثبوت بايعتهم الأمة أم لم تبايعهم، وهم لم يتخلوا عن منصب الإمامة لحظة واحدة، وإن كان قد ثنيت لبعضهم الوسادة كأمير المؤمنين (ع) والحسن (ع) مدة قليلة من الزمن؛ ولكن سائر الأئمة (ع) كانوا إما محاصرين في بيوتهم أو مقيدين في قعر السجون ولكن الله مع ذلك قد أظهر فضلهم في أول الخلق وفي ختامه وعلى الدعاة والخطباء أن يقوموا بتبيين فضائلهم ودعوة الناس إليهم؛ بل تقع المسئولية على عاتق كل مسلم أن يحيي أمرهم بنشر علومهم وبيان سيرتهم.
ثم يؤكد الإمام بعد قوله: رحم الله من أحيا أمرنا على التقوى والورع، ويعني ذلك أن الأئمة (ع) لا أمر لهم سوى الأمر الإلهي والأمر النبوي، وكان ذلك بحق ديدنهم وسيرتهم وحتى استشهادهم كان لإحياء أمر الله ورسوله، ولذلك يخطئ من يظن أن تعظيم مقام الأئمة والترويج لهم هو أمر في مقابل التوحيد أو في مقابل الله سبحانه وتعالى، ولم يكن للأئمة (ع) هم في هذه الحياة إلا إحياء كلمة الله سبحانه وأكبر شاهد على ذلك ما نقرأ من سيرتهم العملية.
لقد تنازل أمير المؤمنين (ع) عن حقه في الخلافة الظاهرية، وجلس في منزل بالرغم من احتجاجاته على الخلفاء ومواقفه الشديدة تجاههم، ولكن ذلك كان لأجل إبقاء كلمة الله، وكذلك الأمر في صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية، ولأجل هذا الأمر ثار الحسين (ع) وضحى بكل ما يملك وبدمه الشريف، ولأجل ذلك جلس الإمام الباقر (ع) ومن بعهده الصادق (ع) في مسجد رسول الله (ص) يعلم الناس معالم دينهم بالرغم من الأمر لم يكن في أيديهم؛ بل في أيدي أعداء الدين، وسيأتي الإمام المنتظر ليضع اللبنة الأخيرة في كيان الأمة ويحيي أمر الله عز وجل، ويأتي بالدين غضا جديدا كما أراده الله سبحانه.
ولذلك لا يمكن القول أن الأئمة (ع) هم في مقابل التوحيد والربوبية؛ بل كان لهم موقف شديد تجاه الغلاة الذين غالوا في مقاماتهم ونسبوهم إلى الربوبية، وكان لهم موقف مشابه أيضا في مقابل الذين نصبوا لهم العداوة وحاولوا أن يزيلوهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، وعلينا إذا أن نعلم أن إحياء أمرهم لا يكون إلا بتثبيت دعائم الورع والتقوى في هذه الأمة.
وكما يمكن إحياء ذكرهم (ع) كذلك يمكن إماتة ذكرهم، كما حاول أعدائهم أن يميتوا ذكرهم وأول هذه المحاولات كانت تلك المؤامرة الكبرى بعد رحيل رسول الله (ص) في منع تدوين الحديث وروايته لسنوات طويلة، وكان القصد واضحا في أنهم حاولوا – من حيث شعروا أم لم يشعروا، اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا – إماتة ذكر النبي (ص) وسنته وأهل بيته (ع). وقد يكون الموالي أو المحب لهم؛ سببا في إماتة ذكرهم أو الإساءة إليهم من حيث لا يشعر، من خلال سلوكه مع الآخرين واستعماله الطرق غير الصحيحة في الدعوة إلى أهل البيت (ع)، ولقد كان الإمام الصادق (ع) يوصي أصحابه فيقول: (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ اَلْوَرَعِ وَ اَلاِجْتِهَادِ وَ صِدْقِ اَلْحَدِيثِ وَ أَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ وَ حُسْنِ اَلْخُلُقِ وَ حُسْنِ اَلْجِوَارِ وَ كُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ وَ كُونُوا زَيْناً وَ لاَ تَكُونُوا شَيْناً)[٥] ، وقد ينتسب الرجل إلى أهل البيت (ع) ويعرف في محيط عمله وعند جيرانه بأنه من أتباعهم ثم يأتي من الأعمال ما يشين من ينتسب إليهم، فينبغي له الحذر وليعلم أنه هناك من يتصيد له الهنات والهفوات.
ولابد لنا أن نعرف أمرهم ونستوعبه استيعابا نظريا ونتعرف على خط الولاية بكل أبعاده ومن ثم نتعلم أساليب الإحياء؛ إذ أن لكل زمان أسلوبه في إحياء ذكر أهل البيت (ع)، وقد تساوي عند الله مقالة واحدة تكتبها في الذب عنهم ودفع الشبهات عن الدين وأهله عبادة سنوات، وقد يكون عطائك خير من عطاء الخطباء والأدباء! وقد تكون لتمثيلية واحدة من التأثير ما لا يكون للخطب والكتب وقد رأينا من تأثر ببعض هذه التمثيليات وأسلم بسببها رغم ضعف أداء ممثليها وضعف المفاهيم التي تناولوها في تمثيليتهم تلك، وهنا لابد من ابتكار الأساليب الجديدة لإحياء أمرهم (ع).
ينبغي للجميع أن يكونوا دعاة لأمرهم..!
وقد تبين من خلال قول الإمام لخيثمة أن إحياء الأمر لا يقتصر على الأصوليين والفقهاء وأصحاب التخصص من رجال الدين؛ بل على الجميع أن يحملوا هذا اللواء وأن يدعوا الناس إلى أهل البيت (ع) فهناك الكثير من الأماكن التي لا يمكن لرجل الدين الوصول إليها والتأثير على أهلها، فالموظف في دائرته والوالد في أسرته والجميع عليهم أن يكون كما قال الإمام دعاة لهم حتى ينتشر الهدى في كل العالم وقد أثنى القرآن الكريم على هذه الأمة بقوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[٦].
الإحياء الفكري والإحياء الشعوري
وكم من الجميل أن يحمل الإنسان هم إحياء أمر أهل البيت (ع) كما يحمل هم معيشته وهم أسرته، وإنما ذكرهم هو ذكر الله عز وجل، وهنيئا لمن شملته دعاء إمامه الصادق (ع) بقوله: رحم الله من أحيا أمرنا، فهذا الدعاء يشمل خيثمة ويشمل كل فرد يحيي أمرهم إلى يوم القيامة.
والإحياء على قسمين: الإحياء الفكري، من خلال القرائة والعتلم والتثقف وإن كان في أدنى درجته، والإحياء الشعوري، من خلال إقامة مجالس العزاء، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال لفضيل: (تَجْلِسُونَ وَتُحَدِّثُونَ قَالَ نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ إِنَّ تِلْكَ اَلْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ فَرَحِمَ اَللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ اَلذُّبَابِ غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ اَلْبَحْرِ)[٧].
ولابد من ذكر بعض التوصيات العملية لإحياء أمرهم (ع)، ومن أهمها أن يرصد الإنسان مناسبات أهل البيت (ع) من قبيل ولاداتهم واستشهادهم فيرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، وأن يحاول أن يقرأ شيئا عن سيرتهم في هذه المناسبات، وأن يحيط علما بأخبارهم وتعاليمهم من كتب البحار ومنتهى الآمال وسائر كتب السيرة، إذ كيف يمكن أن ينقل للآخرين محاسن كلامهم وهو لم يطلع عليها نفسه؟!
والأمر الآخر هو تحويل المشاعر القلبي تجاه أهل البيت (ع) إلى أمور خارجية ملموسة من قبيل شراء الهدايا للأهل والعيال في مناسبات الولادة وتغيير أجواء المنزل إلى أجواء حزن في أيام استشهادهم، حتى يعلم أفراد الأسرة ما لتلك المناسبة من خصوصية وأنها مناسبة مميزة تستحق منا السرور أو الحزن إن كانت في أيام مصيبتهم (ع)، ومن المؤسف أن يقيم المؤمنون أعراسهم في هذه الأيام ولا يكلفون أنفسهم الرجوع إلى التقاويم خشية مصادفة ذلك اليوم بيوم من أيام مصيبة أهل البيت (ع) فمن سوء الأدب الفرح والسرور وإقامة الأعراس في هذه الأيام التي يجدر بالمؤمن أن يغلب عليه الحزن والكآبة. ومن المؤسف أيضا أن يحفظ الإنسان هو أو أبناؤه أسماء الممثلين والرياضيين وغيرهم من المشاهير أو أسماء عواصم البلدان في العالم ولا يحفظون أسماء الأئمة أو تواريخ ولاداتهم أو شهاداتهم.
ومن الأمور الجميلة أن يحاول الإنسان أن يحفظ بعض كلماتهم الشريفة، فالبعض من المؤمنين له حصيلة جيدة من المعلومات التي تتعلق بمجال عمله طبيبا كان أو مهندسا، وقد تسأل التاجر عن الأسهم والعملات الصعبة فتجده خبيرا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعندما تسأله عن بضع احاديث عن أئمة أهل البيت لا يحر جوابا، والحال أنه من حفظ أربعين حديثا من أحاديثهم بعث يوم القيامة فقيها أو في زمرة الفقهاء. ومن الجدير أن يتصف الإنسان بين الفينة والفينة كتاب غرر الحكم لإمام أمير المؤمنين (ع) ويقرأ الكلمات القصيرة ذات المعاني العظيمة، فإن القلوب تمل كما تمل الأبدان وتحتاج إلى هذه الطرائف من الحكم التي هي حياة القلوب.
ولابد للمؤمن أن يرجع إلى كلماتهم إن كان صادقا في اتباعه لهم ويختار من الأحاديث ما يكون علاجا لأمراضه الباطنية، فالعصبي وسريع الغضب يبحث في أحاديثهم التي تعالج الغضب وتهتم بالحلم وما شابه ذلك.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- ينبغي لكل من يتبع أهل البيت (ع) أن يكون حريصا على إحياء أمرهم وتعلم علومهم ومحاسن كلاهم ثم إيصال ذلك للمنقطعين عنهم؛ فلا يختص ذلك بالفقهاء ورجال الدين، وإنما الجميع مسئول في قبال إحياء أمرهم وهنيئا لمن شمله دعاء الإمام: (رحم الله من أحيا أمرنا).
- كما يمكن إحياء أمر أهل البيت (ع) كذلك يمكن إماتة أمرهم باتباع الطرق غير الصحيحة في دعوة الناس إليهم أو فعل الأمور التي تشين المؤمن الذي يعرف باتباعه لخطهم (عليهم السلام) وبالتالي تنفير الناس منهم.
- من الأمور المؤثرة في أحياء أمر أهل البيت (ع) هي شراء الهدايا للأهل والعيال في مناسبات الولادة وتغيير أجواء المنزل إلى أجواء حزن في أيام استشهادهم، حتى يعلم أفراد الأسرة ما لتلك المناسبة من خصوصية وأنها مناسبة مميزة تستحق منا السرور أو الحزن إن كانت في أيام مصيبتهم (ع).